الأحد 24 نوفمبر 2024

الراهب

  • 20-6-2017 | 17:01

طباعة

 أحمد إبراهيم أحمد - كاتب مصري

تشوش صفاء ذهنه وهو الذي اعتاد الاستغراق في صلواته منذ ترهبن في هذه البقعة النائية الباردة من العالم في دير سانت كاترين. كان البرد قد بدأ يشتد في هذه البقعة مع حلول شهر أكتوبر، وكان يرى في البرد رفيق وحدة دائما، تعايش معه وقبلا أن يعيشا سويا منذ ترك عمله كصيدلي في مدينته الساحلية التي تعشق المطر ولا تعرف الثلج.

   أحس بقلبه ينتفض في صدره كعصفور بلله المطر، ولم يعرف لذلك سببا، وعجزت خبرته الطبية أن تسعفه بشيء يساعده على إكمال طقسه اليومي كما اعتاد سنين طوالا أمضاها بقلب مطمئن مسالم، يرى الله وأفعاله في كل شيء، ويستشعر السكينة والسلام في هذا القلب الساكن في هيكل جسده الذي أرهقه الزمن ومهده لاستقبال الفناء.

   ظلت صلواته ألفاظا تتردد بين شفتيه وقلبه معلق بمجهول لا يعرفه، ويدفعه بقوة لترك محرابه والخروج للفضاء الشاسع المحيط بصومعته، بحثا عن شيء يناديه بإلحاح دون أن يدرك هوية الداعي الملح الذي سيطر على مشاعره وعقله، وحرمه متعة تمتع بها أغلب عمره. متعة التواصل الروحي مع الكون وخالقه في ساعات اليوم الأولى حيث السكون وصفاء الحياة يمتزجان بالروح فتصفى.

   أنهى صلاته مرتعشا والكلمات تخرج همهمات وتمتمات من شفتيه المرتعشتين ليس من برد رغما عن الجو قارس البرودة. رعشة جارفة. يحس جذورها ممتدة من قلبه لكل بدنه ولا يبدو من شدتها إلا ارتعاش شفتيه.

   خرج من صومعته لساحة الدير التي يغطيها برد وندف ثلج يكسو الأرض وأشجار الزيتون المتناثرة على جوانب الساحة وفوق العتبات الحجرية العتيقة، وسماء معتمة غير كاملة الإظلام، تُشع بين سحبها بين الحين والآخر نجوم براقة تختفي بين السحب حين تمر بينما يتغير لون السماء مؤذنا بفجر قريب.

   أخذت عيناه تمسحان المكان بحثا عن شيء، قلبه متأكد من وجوده وهو لا يعرف ماهيته وحين لم يجد شيئا، قرر أن يمد حبال الصبر بالبحث خارج جدران الدير. دلف من البوابة الصغيرة للساحة الخارجية. مسحت عيناه الأرض الممتدة المغطاة بندف الثلج وأحس في قلبه برجفة عصفور بلله المطر. جالت عيناه في قمم الجبال المحيطة بمبنى الدير المعزول في موقعه بالقرب من السماء يبحث عن شيء هو متأكد من وجوده ولا يعرف كنهه. قرر أن يترك سور الدير المرتفع ويخرج للساحة الخارجية حيث سور منخفض لا شيء وراءه إلا صخور متفاوتة الأحجام وفضاء ممتد لا يحده حد.

   كان الوجود ساكنا ساجدا لعظمة الطبيعة إلا من هبات لنسمات باردة تلسع وجه الراهب ووراءه خادمه الذي لا يعرف ما الذي دفع سيده لمغادرة نظامه اليومي المعتاد من صوم وصلاة وسكون. نظر الراهب وراءه فتبدى له الجبل الأشم متطاولا بغرته البيضاء وثوبه الثلجي كما لو كان عملاقا جعله الرب وقاية للدير يحميه من خلفه من عوادي الزمن والمكان.

   جالت عيناه تمسحان المكان فبدا له وجود غريب لم يعتد رؤيته فقد احتفظت ذاكرته بصورة مليئة بتفاصيل هذا الوجود... واستفز عقله قدميه اللتين دهستا الثلج الهش تحتهما وهو يحث السير تجاه هذه الكومة الغريبة المغطاة بندف الثلج لا يبدو منها ما يميزها عما حولها إلا لعينين مدربتين على المشهد فلا تفوتهما هفوة تغيير فيه.

    وصل لاهثا للكومة ومد يديه يتلمسهما فصدمه ملمس إنساني غريب، كانت الكومة بدنا إنسانيا أنهكه التعب، وأصابته ضربة ثلج قاسية جمدت أطرافه، وكادت توقف النبض في شرايينه، وتنضب النبض في قلبه.

   انحنى فوقه يدفئه بجسده وأفاق منتبها أن ذلك غير كاف فأشار لرفيقه الخادم أن يمد له يد المساعدة فاقترب مندهشا وحملا سويا هذا الهيكل المتهالك لآدمي على شفا حفرة من هلاك، ليس بينه وبين الموت إلا زفرة إن خرجت قد لا يعقبها شهيق. أسرعا الخطى رغم ما بهما من ضعف وقلة جهد حتى ولجا صومعة الراهب، ووضعا الجسد الذي جلده البرد على سرير الراهب المتواضع الذي أسرع بجمع الأغطية الصوفية التي طالتها يداه وهو يلهث، ويطلب من خادمه أن يشعل النار ويضع فوقها وعاء الماء أسرع ما يمكنه.

   أخذ منشفة صغيرة وبللها بالماء ووضعها بين شفتي غريق الثلج وضغط عليها برفق مباعدا بين الشفتين ليسمح لقطرات الماء أن تلج لفمه المغلق وتنتشر لتروي عطشا صبغ الشفتين بلون ثلج قاتل.

    الاكثر قراءة