الأربعاء 26 يونيو 2024

رحيل "حميد الأعزل" في أوج العطاء قبل إنهاء روايته

21-6-2017 | 10:45

سلام إبراهيم - كاتب عراقي

   رأيته أول مرة في العام الذي وصلت فيه إلى الدنمارك (1992) في بيت صديق وصل قبلي بسبع سنوات. منذُ تلك اللحظة بدأت علاقتنا تنمو بالرغم من سكنه في مدينة بعيدة. تواصلنا عبر التليفون والرسائل بكثافة، يجمعنا الهم الإنساني والأدبي وتشابه المواقف، نتخاطب وكأننا تعارفنا منذ زمن بعيد.

   تعرفتُ إلى حكاية حميد العقابي (1956 ـ 2017) التي تقارب حكايتي، فهو الآخر ذو هوى يساري لكن لديه موقفا من البعث والدكتاتور والحزب الشيوعي وسياسته، هذا الموقف الذي سيقربنا كثيرا من الإنسان ويبعدنا عن الأيديولوجيا، فكان من جيل لم يغادر العراق لأسباب أيديولوجية مباشرة، بل حاول البقاء فيه، ولكن زج به صدام وقت الحرب العراقية الإيرانية في الجبهة فذاق الويل.

   وكونه خريج معهد هندسي عال أُهل كسائقِ دبابة ليكون في خضم معارك دامية في عمق الأراضي الإيرانية، في المحمرة وقرب "عبادان"، سيطلع القارئ لاحقا عقب قرابة 15 عاما على تفاصيل تلك التجربة في سيرته/روايته الأولى "أصغي إلى رمادي". وبالضبط مثلما جرى لي ولروائي آخر هو "جنان جاسم حلاوي"، لم نقتنع بالقتال والموت في تلك الحرب المجنونة، فتركنا الجبهة كل على انفراد إذ كنا لم نتعارف بعد، والتحقنا سرا بثوار الجبل. لم يمكث حميد العقابي مثلي مع الثوار، إذ كان لا يعول على التجربة وعلى العنف الثوري، ولا جدواه كما سيفضي لي لاحقا. لم ألتقِ به بين الثوار فقد كان في مكان غير المكان الذي كنت فيه، ولم يمكث طويلا إذ فضل مرارة حياة معسكرات اللجوء الإيرانية القاسية حيث كان الخروج منها مثل حلم مستحيل وخصوصا لمن لا تدعمه جهة سياسية. صور تفاصيل تلك الحياة في أكثر من رواية وحكى لي تفاصيل معاناته في جفاء تلك الأيام العجاف العاصفة، وبمصادفة عمل له واحد ممن تعرّف إليهم في معسكر "كرج" في طهران، سمة دخول مكنته من الوصول لدمشق ليعيش حياة العوز والجوع، فالعقابي بالرغم من سوء وضعه الاقتصادي، وتفرغه التام وفي كل الظروف للقراءة والكتابة، لكنه رفض التقرب لمنابر الصحافة العراقية المعارضة وقتها، أو العربية وبقى كذلك حتى مماته، بالرغم من أنه كاتب مقال محترف كما سوف يتبين من صفحاته في وسائل التواصل الاجتماعي. وبمصادفة أخرى تمكن من الحصول على تذكرة بجوازِ سفر مزور طبعا وبمساعدة من أصدقاء يعملون في منظمات فلسطينية يسارية وقتها، فوصل إلى الدنمارك عام 1985 لتبدأ رحلة التأمل وتقليب التجربة.

   لم يتغير شيء في حياة حميد فعزلته مستحكمة منذ الصبا، ولم تكسرها المحاولات التي بذلها للخروج ومّد الجسور الاجتماعية مع الآخر لا في العراق "كان مهندسا مساحا عمل في فتح الطرق والجسور" قبل سوقه إلى الجبهات، ولا بين الثوار في الجبل، ولا في معسكرات اللجوء في إيران، أو في الغرف الفقيرة في دمشق، أو في الدنمارك بالرغم من عيشه لسنوات طويلة مع شاعرة دنماركية، ولا حتى في العائلة حينما كون أسرة وأصبح لديه بنتان، لم يجد مكانا في العالم غير الكتاب والإبحار في سواقي الكتب والغرق فيها على حد قول الشاعر علي الشباني:

وأمشي بسواجي الكتب.. غرقان

يا ذاك الرصيف.. أشكد دمع مليان

***

   لم يسعه الشعر. كان مكتظا بالتجربة واللغة والحكايات، ففاجأني في اتصال هاتفي قائلا:

ـ سلام أوشك أن أكمل كتاب سيرة!

   ليصدر بعنوان "أصغي إلى رمادي" عام 2002 عن دار ينابيع في دمشق، والكتاب رواية تستعيد وتتأمل العلاقات العائلية العراقية، ملامح زمن الدكتاتور، الحرب وحياة الجندي في الجبهات، حياة اللاجئ في معسكرات اللجوء الإيرانية القاسية، وحياة الجوع في دمشق، ثم حياة العزلة والوحشة في المنفى الدنماركي البارد، حيث يتخيل "حميد" نفسه عجوزا يحل في إحدى دور العجزة المنتشرة في المدن الدنماركية، (وهذا ما لم يعشه إذ مات بغتة وهو بكامل قواه ولتوه بلغ الستين وكان في زيارة لبيت صديق في كوبنهاجن. سقط قبل وصول سيارة الإسعاف عصر الثالث من أبريل 2017). ومن سريره يستعيد رحلة حياته المضنية حيث واجه كل التفاصيل بشجاعة فصور عنف وقسوة البشر في المجتمع والعائلة والشارع وفي جبهات الحرب، وعنف سلطة الدكتاتور وهي تُغّيبْ العراقيين في سجونها إلى الأبد. السيرة التي أزّمتْ علاقته بأهله في العراق إذ قام أحد أفراد العائلة بقراءة فصل من فصوله على مسمع العائلة يتعلق بأبيه، والفصل يعرض بشكل إنساني ضعف الأب وسطوة الأم، مما جعل العائلة ترفض زيارته عقب الاحتلال، إذ أخبرني بما فعله ذلك الشخص، ردا على لومي على تأخره زيارة العراق لرؤية ما جرى. لم يزر العراق حتى مماته المباغت.

   وقد حرصنا على تبادل مخطوطات ما نكتب في علاقة نادرة صافية بين أديبين عراقيين، يعكف على كل نص أبعثه وقتها في البريد العادي فيدققه لغويا ويسجل ملاحظاته بكل حرص ومحبة وود وصراحة أفادني كثيرا. وكنت أفعل الشيء نفسه مع نصوصه التي تدفقت بعد كتابه الأول، في روايته الثانية "الضلع" التي أصدرتها دار الجمل عام 2007. وفيها يغور عميقا في سيكولوجية العراقي وبنية التقاليد والأعراف، ليكشف عن الحياة السرية للرجل العراقي إذ يسم الكبت الجنسي للرغبات الممنوعة شخصيته فتجعله ينشطر إلى كيانين علني مؤدب وسري سافل في معادلة تفسر جانبا من العنف الذي وسم الشخصية والتجربة العراقية، ويمزج "حميد" في هذه الرواية الجريئة السيرة الذاتية في تجارب لم ترد في كتابه الأول تتعلق بهموم الشخصية المكبوتة، بخيال التاريخ وتجارب تشابه الشخصية المحورية "عاشور أو حميد أو جبر" في بنية تعتمد على العالم الداخلي للشخصية وهي تقع تحت تأثير المخدر في المستشفى قبيل إجراء عملية كبرى لقلبه، فيرحل بالقارئ في عالم زاخر يضخ فيه خلاصة تجارب من يوشك على الموت، وكأن "حميد" يتنبأ بأن قلبه سيتوقف بغتة من عناء العمر وبشكل مبكر، وسيفرد فصلا من أجرأ وأمتع الفصول عن "العادة السرية" باحثا في تاريخها في الإسلام وطرقها وحكاياتها وتجاربها كاشفا عن فداحة الكبت الذي تفرضه القيم والتقاليد الصارمة فتشوه الإنسان من الداخل وتجعله يعتاد الكذب وإخفاء الرغبات وما يترتب على ذلك من تشوه في العلاقات وخرابها. ليست إضافة "حميد العقابي" تتعلق بكسره تابو الجنس والسياسة في روايتيه، بل يقدم بنية روائية مبتكرة تتداخل الأجناس فيها بلغة طازجة سلسة بليغة عميقة تمتع القارئ وتحلق به في عالم آسر مختلف وجديد.

   في خطوة أخرى في عالم السرد يكتب حميد "أقتفي أثري" التي صدرت عن دار طوى 2008 لندن، رواية مبنية على فكرة جوهرية تتعلق بعلاقة الوطن بالمنفى، إذ تقرر مجموعة من المنفيين العودة إلى العراق عقب الاحتلال عام 2003، فيتيهون في الصحراء ويكتشفون أثناء ذلك ما حلّ بهم في المنفى جعل الوطن ينأى بعيدا، وجعلهم يكتشفون أن مشاغل حياتهم اليومية جعلت العراق حلما مستحيلا وكأنه أصبح إيثاكا معاصرة.

   كرس حميد العقابي كل وقته في عزلته للكتابة والقراءة، فهو مشغول طوال الوقت وكأنه يسابق الزمن في الكتابة، ومرات كثيرة يلومني طالبا مني الكف عن الشرب والجلوس إلى طاولة الكتابة فهو يحب عوالمي جدا ويستمتع بها، فأقول له: الحياة ليست كتابة فقط، أحب أن أعيش، أتفرج على المارة النساء الجميلات، كرة القدم، السباحة، الشرب مع الأصدقاء، النكات والضحك. هذه التفاصيل تمد في حياتنا وتخفف ثقل الحياة! لو بقيت أكتب وأقرأ فقط سوف أطق وأموت باكرا.

   انشغل في السنوات الأخيرة بمواضيع مختلفة خارجا من سيرته الذاتية كما كان يعقب على انشغالي بسيرتي التي كنت أخبره بأن عمري قد لا يكفى لسطر تجاربها في روايات وقصص. فظهرت له ثلاث روايات مواضيعها مختلفة؛ الأولى "الفئران" 2013، وهي عن مجموعة من البشر يعتقلون ويحولون إلى حقل تجارب تقوم بها سلطات الدكتاتور، فتغير أسماءهم إلى أسماء حيوانات وتختبر مقدرتهم على تحمل الأذى والإهانة في مبنى يشير إلى دمار فعلته الأنظمة العربية بمواطنها أدى إلى مسخ ذلك المواطن العراقي والعربي دون مستوى البشر، في مبنى روائي مكثف وفانتازي فيه خلاصات فلسفية عن محنة وجود الإنسان في بيئة قاسية لا منفذ فيها ولا خلاص.

   والثانية "المرآة" دار ميزوبوتاميا بغداد 2015، وتخوض في تضارب التقاليد والقيم وأعراف المهاجر أو المنفي مع القوانين والأعراف في بلدان بلغت من الحرية واحترام حقوق الإنسان وخصوصا حياته الشخصية مبلغا هو خير ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية متخذا من الدنمارك مكانا لأحداث روايته وشخصيتها الرئيسية وهو أب عراقي يقوم بقتل ابنته غسلا للعار. والثالثة "القِلادة" 2016 وهي رواية إشكالية طويلة (543 صفحة) يقدم فيها كاتبها تصورا مختلفا عن نشأة الإسلام يعتمد على المصادر التاريخية المهملة فيبرز تفاصيل تجرد الرواية من هالة التقديس، فتقدم الأحداث وشخصياتها بأبعاد واقعية ودوافع نفعية، مازجا في الوقت نفسه بين السرد الواقعي والخرافة والسحر والحاضر في مبنى خيالي يزخر بالتفاصيل الممتعة والمقنعة بحبكة ولغة صافية مصقولة تضج بالدلالات والرمز والحس وتكشف عن سعة معرفة الكاتب المعمقة بتاريخ الإسلام ونشأته ومآله المعاصر.

   تجدر الإشارة أخيرا إلى أن "حميد العقابي" قدم في مسيرته سبع مجاميع شعرية، منها احترس أيها الليك 1986، واقف بين يدي 1987، تضاريس الداخل 1992، الفادن 2005، ومجموعة قصصية "ثمة أشياء أخرى" 2004. وفي سنواته الأخيرة كان مشغولا بكتابة روايته "حميد الأعزل" التي مات عنها بغتة، ليخسر الأدب العراقي والعربي كاتبا روائيا جريئا قدم في رواياته كشفا عن زيف الواقع الذي ينشأ فيه الإنسان العراقي والعربي فيأتي إلى الحياة مخربا حتى حينما ينتقل إلى بيئة حرة في المنفى.