جهاد الر ملي- كاتب مصرى
عندما نحيى ذكرى مفكر كبير كسلامة موسى تتداعى إلى أذهاننا مع ذكراه ذكرى مجموعة من المفكرين المستنيرين الذين حملوا مشاعل الاستنارة لجيلهم ولأجيال تالية وخاضوا بفكرهم الثاقب العميق في العديد من القضايا التي قالوا فيها كلمتهم ثم مضوا، وأحمد أمين هو واحد من المفكرين المستنيرين من جيل سلامة موسى وطه حسين وقاسم أمين، ولطفي السيد ممن انشغلوا مع سلامة موسى بقضايانا الاجتماعية وإشكالات حياتنا الثقافية فأعملوا فيها فكرهم وأفرزوا لنا رؤاهم حولها وحول سبل تطويرها. واللغة السائدة في أي مجتمع على ألسنة أفراده أو الغالبة على كتابات كتابه أسلوبا ومضمونا هي واحدة من تلك القضايا الثقافية - الاجتماعية التي شغلت بعض المفكرين وهي التي كان من الطبيعي أن تطرح على عقل مفكرين كبيرين من أمثال سلامة موسى وأحمد أمين مجموعة من التساؤلات مثل: ما اللغة؟ ما دورها في مسار التطور الإنساني؟ ما خصائص وسمات لغتنا المكتوبة في عصرنا؟ ما علاقتها بتطورنا الفكري والحضاري أو ما دلالاتها الاجتماعية على تقدمنا أو تخلفنا؟
ومن بين مؤلفات سلامة موسى الكثيرة كتاب بعنوان «مختارات سلامة موسى» ضمنه عصارة فكره فى صورة مقالات كتبها على مدى سنين طويلة وحوت آراءه فى الحياة وفى السياسة والاقتصاد و.... اللغة العربية وآدابها، وقد فعل أحمد أمين نفس الشىء فى كتابه متعدد الأجزاء «فيض الخاطر»، وعندما تقرأ الكتابين السابقين تجد نفسك أمام نوع من التلاقى الفكرى بينهما أشبه بتوارد الخواطر فى قضية اللغة واللغة العربية وآدابها خاصة.. نفس الفكر المستنير ونفس الرؤية المتقدمة، وإن اختلفت زواياها بعض الشىء عند كل منهما فعند سلامة موسى تحتل قضية اللغة والأدب مكانها ضمن إطار فكرى متكامل لديه يفسر حركة التاريخ وتطوره الحضارى تفسيراً اقتصاديا، بينما ينظر أحمد أمين لنفس القضية كجزء من قضيته الثقافية العربية تحديدا وتطورها عبر العصور، وهو - أى أحمد أمين - وإن لم يهمل أثر العوامل السياسية والاجتماعية فى هذا التطور إلا أن نظرة الناقد والمؤرخ الأدبى تتغلب فى كتاباته فى النهاية على نظرة المفكر، بينما تغلب على سلامة موسى فى معالجته لنفس القضية نظرة الفيلسوف أكثر من نظرة الأديب أو الناقد الأدبى، وليس غريبا بعد ذلك أن يعرف أحمد أمين لدى قرائه كباحث فى الأدب العربى أولاً وكمفكر ثانياً، بينما يحتل سلامة موسى مكانته فى ثقافتنا العربية كمفكر أولا وثانيا وربما ثالثا ثم كأديب يهتم بدراسة الأدب، وأن نجد عند أحمد أمين عناية فائقة فى صياغته الأدبية لمقالاته فى فيض الخاطر، بينما نجد عند سلامة موسى - فى مقالاته المناظرة- حرصا على إيصال فكره للقارئ من أسهل الطرق وأكثرها بساطة حتى وإن وقع فى بعض الهنات أو الأخطاء اللغوية البسيطة خاصة فى اشتقاقات الألفاظ وهى الهنات التى تصبح كبيرة إذا ما صدرت عن كاتب كبير مثله.
والبحث فى قضية اللغة يبدأ بالبحث فى علاقتها بالإنسان كحيوان ناطق ومنشأ الألفاظ عنده، وفى ذلك يرى سلامة موسى فى صـ70 من كتابه «مختارات سلامة موسى» طبعة مكتبة المعارف ببيروت: أن منشأ الألفاظ عند البشر مرتبط بخبراتهم بالعالم الخارجى التى ينقلها الذهن إليهم، فلو لم يكن لنا أعين لما وجدت لفظة ضوء فى لغات العالم ولما وجدت أسماء الألوان المختلفة.
ولأن الإنسان ليس حيواناً ناطقاً فقط بل عاقلاً ومفكراً كذلك لذا كانت ثمة علاقة بين اللغة والتفكير يوضحها سلامة موسى فى كتابه السابق قائلا: نحن لا يمكننا أن نفكر دون ألفاظ حتى أن أحد السيكلوچيين وهو الدكتور واطسون يقول لنا إن التفكير كلام صامت كما أن الكلام هو تفكير ناطق و... «أن لكل شخص ألفاظه التى تكثر فى حديثه أو فى كتاباته وهى بالطبع تدل على اتجاه تفكيره ولونه، إذ هو يختار الألفاظ التى تعبر عما يشغل به ذهنه، فإذا كان تافه التفكير كانت الألفاظ كذلك».
ونفس المعنى تقريباً يتكرر بصورة أخرى عند أحمد أمين الذى يقول فى كتابه فيض الخاطر وتحت عنوان منطق اللغة إن اللغة من مظاهر العقلية فإذا كان التفكير صحيحا كان التعبير عنه كذلك ما دام صاحبه يجيد التعبير والعكس بالعكس، بل إن هناك تفاعلا بين اللغة والتفكير فاللغة المنظمة تنظم التفكير والفكر المنظم ينظم اللغة، فالعربى المتحدث باللغة الإنجليزية أو الفرنسية يخضع لمنطقها وطرق تفكيرها، كما يخضع لاختيار كلماتها وأساليبها وكيفية معالجة الموضوع فيؤثر ذلك فى تفكيره وجدله.
وعن رؤيته للغة العربية فى تطورها وسياقها التاريخى والاجتماعى يرى سلامة موسى فى مقاله «فلسفة الألفاظ العربية» أن أصل اللغات عند الشعوب مرتبط بتطور المعتقدات الدينية والاجتماعية وبالبيئة، التى عاشوا فيها، وعند هذه الأخيرة يضرب مثالا على العرب فيقول «كان العرب يسكنون بلاداً حارة»، فصارت عندهم الراحة مشتقة من الريح أى النسيم الذى يخفف عنهم ضائقة الحر وصاروا يعدون البرد وما فى معناه دليل الهناء فهم يقولون: «برد اليقين وأثلج الله صدرك..»
ويحسب سلامة موسى للغة العربية بعض الفضائل مثل سعة الاشتقاق من ألفاظها ولكنه ينعى عليها تدهورها لأسباب اقتصادية فى الغالب، ففى مقاله: التفسير الاقتصادى للتاريخ يتحدث عن انقسام المجتمع فى العصر العباسى إلى قلة مترفة من الأغنياء وأغلبية من الفقراء، ثم يبين أثر ذلك على الأدب العباسى قائلا: «.... لذلك نشأ فى هذه البيئة أدب يميل إلى الترف وزخارف الألفاظ والغزليات والخمريات، ولم يكن عند العرب طبقة متوسطة يؤبه بها من التجار والصناع كما هو الشأن الآن فى الأمم المتمدينة لذلك لم ينشأ ذلك الأدب الجدى الذى تبرز بذوره الآن فى عصرنا (وقت كتابة المقال) وحين يعيدونا (يقصد يعيروننا) الجامدين بالتقصير فى التأنق اللفظى ينسون أننا لا نخدم طبقة الأغنياء المترفين الذين كان يخدمهم أدباء الدولة العباسية وإنما نخدم السواد القارئ فى الأمة».
ويشير أحمد أمين وإن كان فى عبارات مختلفة إلى نفس ما أشار إليه سلامة موسى من الأثر الخطير لانقسام المجتمع إلى أغنياء وفقراء على اللغة العربية فيقول فى مقاله «منطق اللغة»: «كانت اللغة ديمقراطية شريفة نبيلة يوم كانت اللغة العربية لغة العرب الديمقراطيين الذين لا يفرقون كثيرا بين مخاطبة الأمير ومخاطبة بعضهم بعضا» كما يتفق أحمد أمين مع سلامة موسى فى أن مضمون الأدب العربى قد تأثر بسيطرة طبقة الأغنياء على مقاليد الأمور فى المجتمع وبتغير الأوضاع السياسية فيه فيقول فى مقال «كيف يرقى الأدب»: «إن الآداب فى الأمم الارستقراطية كانت ارستقراطية النزعة يوم كانت القوة فى يد الارستقراطيين، فلما انتشرت الديمقراطية تبعها الأدب وأصبح ديمقراطى الموضوع ديمقراطى النزعة، أما الأدب العربى فقد أصبح أرستقراطياً منذ العصر الأموى، وأصبح أهم أنواع الأدب إنما ينشأ حول قصور الأمراء والأغنياء، وفى الموضوعات التى تناسبهم من مديح لهم وهجاء لأعدائهم».
وإلى جانب الأثر السلبى للنزعة الأرستقراطية على الأدب يضيف أحمد أمين تأثيراً سلبياً خارجياً وأخلاقياً على مفردات اللغة العربية إذ يقول فى مقال «منطق اللغة»: «إننا لا نجد فى لغة أجنبية من ألفاظ الملق وعباراته ما نجده فى اللغة العربية مما أدخله الفرس والأتراك، ولا نجد من عبارات الحشو التى تدل على الذل والخضوع ما نجده فى لغتنا العربية الحديثة». وهنا ومرة أخرى يتفق سلامة موسى مع أحمد أمين حول الأثر السلبى الذى وقع على اللغة العربية وآدابها نتيجة لغياب الديمقراطية والخضوع الذليل للحكام ومن يساندهم من طبقة أرستقراطية ففى مقال «القديم والجديد فى الأدب» يقول سلامة موسى: «إن الأدب العربى يتسم بنزعة الإغراق فى الصنعة لأن التعليم كان مقصوراً على أبناء الأغنياء فكان أدبهم أدب الصنعة والتزويق، فالهيئة الاجتماعية العربية لم تكن قط ديمقراطية ولم تعرف معنى النيابية والنظم السياسية».
ويصل سلامة موسى إلى حد العداء الكامل للصنعة فى الأدب والمرادفة لديه بالتكلف ففى مقاله «لمحة من الأدب الروسى» يقارن سلامة موسى بين القصص الروسى والقصص الإنجليزى فيرى فى الأول سذاجة وخلواً من التكلف «حتى أن القصص الروسية لا تعدو أن تكون وصفاً لحوادث يومية أسلوبها خلو من جميع ضروب التكلف البديعى» وفى فقرة أخرى من نفس المقال يميز موسى بين الفن والصنعة قائلاً إن «الفن هو الشعر والصنعة هى النظم فى تأليف القصائد وقد يكون الإنسان شاعراً عظيماً دون أن يكون نظاماً بارعاً».
ويبدو أن سلامة موسى قد تناول قضية الصنعة فى الفن والأدب من حيث كونها نقيضا للفطرة وتلقائية التعبير أو كما سماها بالسذاجة التى يمثلها عنده القصص الروسية.
أما أحمد أمين فقد استخدم مفهوم الصدق فى الأدب بديلاً عن تعبير السذاجة السابق، وفى مقالة الصدق فى الأدب يقول: «إن الصدق فى التعبير هو الذى يسبغ على الأدب سمة الخلود، فالشعر الذى قيل فى المدح والهجاء أقل خلوداً من الشعر فى وصف عواطفهم كالرثاء مثلاً، أما عن الصنعة فى الأدب فإذا نظرنا إليها من حيث الاهتمام بالألفاظ والتراكيب اللغوية سنجد اتفاقا بين سلامة موسى وأحمد أمين فى كراهية تغليب اللفظ على المعنى، ففى مقاله «أدب اللفظ وأدب المعنى» يقول أحمد أمين «إن الأديب إذا رزق حظوة فى السبك (يقصد حسن الصياغة) وأصيب بفقر فى المعنى كانت شهرته وقتية محدودة الزمن» ويؤكد أحمد أمين بتلك العبارة على ما سبق أن ذكره فى موضع سابق من نفس المقال حين قال: «... فيظهر لى أن الزمن سائر إلى تقويم المعانى أكثر من تقويم الألفاظ».
على أن أحمد أمين لم يتخذ موقفاً معادياً تماماً للصنعة فى الأدب كما فعل سلامة موسى بل راح يوازن بين الصنعة التى تتمثل عنده فى حسن الصياغة وبين المعنى فيقول فى بداية نفس المقال: «..... إن عنصرى الصياغة وجودة المعانى عنصران أساسيان لا بد منهما للأدب وأن من تجرد من أحدهما لا يسمى أديباً. على أنه يعود فيستدرك فى الفقرة التالية قائلا إن "هناك مواضع تراعى فيها المعانى أكثر من الألفاظ كصياغة المقالات العلمية والتاريخية، والأمر على العكس من ذلك فى القصة والشعر حيث يكون للفظ وحسن السبك المنزلة الأولى».
أما من حيث تثمين الأدب الجيد بالإيجاز والبعد عن حشو العبارات والاستطرادات فهى النقطة التى يعود فيها الاتفاق بين سلامة موسى وأحمد أمين حيث يتفق الكاتبان الكبيران معاً فى أن من أسباب تقدم الغرب أدباً وعلماً هو إسرافنا فى استخدام المحسنات اللفظية والانخراط فى لغو لا طائل من ورائه، ففى مقال «القديم والجديد فى الأدب» يقول سلامة موسى «ولما يعجب له الإنسان كثيراً أننا نقر للأوروبيين بالتبريز علينا فى الطب والعلوم والصناعات ولا نقر مع ذلك بأن أسلوبهم فى الكتابة أفضل من أسلوبنا، فهم يقتصدون فى الكتابة وهم يعدون السجع (ولهم طريقة عكسية فيه) من عيوب الكتابة ولا يطبقون البهرجة» ثم يقول «إننا توقفنا فى الكتابة عند تحقيق الصنعة اللغوية مما شغلنا عن دراسة العلوم والفلسفة والاجتماع».
وحول نفس المعنى تقريباً وفى مقال منطق اللغة يستهجن أحمد أمين تحول مناقشاتنا دائما إلى استطرادات وتشعبات خارج موضوع النقاش، ثم يعلل ذلك بأن اللغات الأجنبية الراقية قد استكملت أدواتها من حيث الألفاظ الموضوعة لكل آلة مخترعة ولكل معنى مستكشف ومن حيث أساليب التفكير وصياغة المعانى صياغات أدخل فى الذهن وأقبل للعقل، وأن اللغة العربية أبطأت فى تاريخها الحديث رغم ما يقوله الدعاة من أنها أغنى اللغات وأجمل اللغات ثم ينامون على ذلك من غير أن يعملوا على تكميل نقصها لأنهم لم يشعروا بالنقص.
وإذا كان أحمد أمين قد ذهب إلى أن الغرب الأوروبى قد نجح - على العكس منا - فى تطويع لغته لمستكشفات العلم، فإن سلامة موسى يذهب إلى أبعد من ذلك داعياً فى نفس مقاله السابق - إلى الأخذ بالمصطلحات الأوروبية فى الاستكشاف والاختراع، وفى ذلك يقول: «يجب ألا نتأفف من كلمة تلغراف أو تليفون أو ديكريت أو أنسولين لأن هذه الألفاظ من مقتضيات الحضارة الجديدة فخير لنا أن نطعم بها شجرة لغتنا فتنمو منها وتثمر بدلاً من أن نقف جامدين محاولين اختراع الألفاظ للمعانى الأوروبية».
وبعد.. فقد كانت تلك لمحة عن رؤية كاتبين كبيرين للغتنا العربية من عصر الاستنارة لوظيفة اللغة فى الأدب والحياة ولكيفية ارتقاء لغتنا العربية لتصبح ليست فقط لغتنا الجميلة بل المفيدة كذلك.