بقلم – عبدالقادر شهيب
قمة لدول حوض النيل حدث مهم، خاصة أنها القمة الأولى رغم أن عمر النيل آلاف السنين.
ومشاركة مصر فى هذه القمة الأولى لدول حوض النيل حدث أكثر أهمية فى ظل الخلافات التى أخذت تتصاعد بيننا وبين عدد من دول الحوض منذ عدة سنوات ووصلت ذروتها عام ٢٠١٠ حينما ابرمت هذه الدول اتفاقية إطارية جديدة بينما رفضت مصر المشاركة فيها والتوقيع عليها لأنها لا تراعى حقوقها التاريخية فى مياه النيل ولا مصالح دول المصب، وعلى أثر ذلك جمدت مصر مشاركتها فى مبادرة النيل التى تبنتها وبالتالى تجمدت مشروعاتها التى تعيد دول المصب لتوقف البنك الدولى والمنظمات الدولية عن تمويلها لعدم اتفاق بين دول الحوض عليها.
ولذلك تبرز هنا عدة أسئلة بعقد هذه القمة الأولى لدول حوض النيل غدًا فى اوغندا وبموافقة مصر على المشاركة فيها.. وأول هذه الأسئلة لماذا وافقت مصر على المشاركة فى القمة رغم أن الوضع منذ توقيع الاتفاقية الإطارية التى تبنتها اثويبيا من قبل ومعها اوغندا لم يتغير، ولم تجد الخلافات المصرية مع الدول الموقعة على هذه الاتفاقية حلا لها بعد.
أما الإجابة على هذا السؤال فانها تشمل مجموعة أسباب وليس سببا واحدا يفسر مشاركة مصر فى هذه القمة.. أولًا لأن الرئيس الاوغندى الذى صارت تربطه علاقات طيبة مع الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى هو الذى تبنى فكرة عقد هذه القمة الأولى لدول حوض نهر النيل لتجربة المسار السياسى لحل الخلافات بين دول حوض النيل بعد أن تعذر ذلك عبر مسار التفاوض بين الفنيين.. كما أن اوغندا أيضًا هى التى تستضيف هذه القمة ولا يقلل من ذلك أن تخفض بعض هذه الدول تمثلها فيها.. وثانيا لأن العلاقات المصرية مع دول حوض نهر النيل تحتاج لإصلاح بعد سنوات طالت من الفتور والخلافات فى أعقاب توقيع الاتفاقية الإطارية التى رفضت مصر توقيعها ومازالت ترفض التوقيع قبل اجراء تعديلات عليها أو تجميدها، وذلك يقتضى بالطبع قرارا سياسيا وليس فنيا.. وثالثًا لأن مصر تنتهج فعلا وليس قولًا فقط منهج التعاون والتفاهم والتفاوض والحوار لحل الخلافات وليس منهج التصادم والتصعيد، وهذا منهج يراعى مصالح الجميع، ويقوم على معادلة صحيحة عمرها من عمر النيل تقول أن مياه النيل بالنسبة لدول المنبع هى مصدر أساسى للتنمية والنهضة، لكنها بالنسبة لمصر هى مصدر حياة ووجود، ورابعًا لأن هناك دولا حاولت ومازالت تحاول أن تعبث فى علاقات مصر تحديدًا مع دول حوض النيل.. فى البدء كانت اسرائيل التى حرصت منذ قيامها على التواجد المتنوع فى هذه الدول «تجاريا وفنيا بل وثقافيا أيضًا» خاصة اثيوبيا وكينيا والكونغو وتنزانيا، وتليها اوغندا ورواندا وبورندى.. والآن تسعى دول أخرى لمحاكاة اسرائيل فى هذا التواجد مثل تركيا وقطر، بل ودول عربية خليجية أخرى أيضًا وذلك بهدف الإضرار بالمصالح المصرية.. ولذلك كان يتعين على مصر الاشتباك مع هذا الموقف ومن هنا كان ضروريا مشاركتها فى القمة الأولى لدول حوض النيل، خاصة أن عدم المشاركة لا يحقق أية فوائد بل لعله يجلب لنا خسائر ويبعدنا عن تلك الدول ويمنح من يريديون إفساد علاقتنا معها فرصة سانحة لذلك.. ويتبقى سبب خامس واضافى يحثنا على المشاركة فى هذه القمة وهو سد النهضة الاثيوبى، وهو المشروع الأهم تأثيرًا علينا فى مصر الذى شرعت فى تنفيذه اثيوبيا وإحدى دول الحوض التى تزعمت توقيع الاتفاق الاطارى عام ٢٠١٠ رغم الاعتراضات المصرية وتحديدًا رغم مطالبة مصر بالاخطار المسبق عن أية مشروعات لدول الحوض فى هذا الصدد وأن تتم بالتفاهم بين كل هذه الدول وذلك لمراعاة عدم الاضرار بأى منها، خاصة دول المصب.. ويعزز ذلك أن المسار التفاوضى الفنى الذى انتهجته مصر مع اثيوبيا بعد توقيع الاتفاق الثلاثى معها والذى ضم السودان لا يسير على ما يرام أو فى التوقيتات المحددة ويحتاج دفعة سياسية لإزالة ما يعترضه من عقبات ولا بأس من الاستعانة ببقية دول الحوض فى ذلك الأمر، بأن تكون هذه الدول معنا وليست علينا ومشاركتنا فى قمة أوغندا يساعدنا على تحقيق ذلك، أما عدم المشاركة فيها فإنه يبعدنا عنه.
هذا عن إجابة السؤال الأول التى تفسر أسباب مشاركة مصر فى أول قمة لدول حوض نهر النيل وهنا يحين موعد طرح السؤال الثانى وهو: هل تحل هذه القمة الخلافات بين دول الحوض وتحديدًا تلك الخلافات التى ثارت بين دول المصب «مصر والسودان» ومعظم دول المنبع، خاصة اثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا.
لقد ثارت هذه الخلافات بعد أن أخفقت جولات عديدة من المفاوضات بين وزراء الرى فى بلدان حوض نهر النيل فى الاتفاق على بنود الاتفاقية الإطارية التى تبنتها أثيوبيا وأقنعت بها العديد من دول المصب، ثم الاتجاه إلى توقيع هذه الاتفاقية قبل التوصل إلى حلول لهذه الخلافات، وهو الأمر الذى دفع مصر إلى تجميد اسهامها فى مبادرة حوض النيل، وهى المبادرة التى تبنتها وقدمتها مصر للتعاون بين دول الحوض وأثمرت عددًا من المشروعات المهمة بالنسبة لعدد من دول المصب، خاصة أثيوبيا واوغندا وتنزانيا وكينيا والكونغو، وترتب على ذلك أن جمد البنك الدولى ومنظمات دولية أخرى مساهمتها فى تمويل هذه المشروعات.
لقد كان لمصر ومازال ثلاثة تحفظات على هذا الاتفاق الإطارى ألحت فى ضرورة أن تأخذها دول المصب فى الاعتبار، بل إنها طرحت وقتها مقترحات وصيغ متعددة للتوافق حولها لم تكترث بها دول المصب المتحمسة للاتفاق الاطارى.. وهذا ما دعا الرئيس الاوغندى للدعوة لهذه القمة بحثا عن اختراق سياسى وليس فنيا لهذا الخلاف لإعادة الحياة مرة أخرى لمبادرة حوض النيل أو لدفع التعاون بين دول الحوض مجددًا فى إطار من التفاهم.
وتتمثل التحفظات المصرية فى ثلاثة الأول ضرورة وجود نص صريح وواضح يعترف بالحقوق التاريخية لمصر ومعها السودان «دولتى المصب» فى مياه نهر النيل وهى الحصة التى تصل إلى ٥٥.٥ مليار متر مكعب لمصر، و١٨.٥ مليار متر مكعب للسودان، وتقرها اتفاقات مبرمة قديمة، والتحفظ الثانى ضرورة الأخذ بمبدأ الإخطار المسبق بخصوص أية منشآت أو مشروعات تقوم بها إحدى دول المنبع لضمان عدم تأثيرها سلبًا على دول المصب، خاصة مصر التى تعتمد كلية على حصتها من مياه النيل والتى لم تعد كافية لها، وهذا لا يعنى الانتقاص من سيادة هذه الدول ولكنه مبدأ متعارف عليه ومعمول به فى الدول المشاركة فى أحواض الأنهار لضمان تحقيق التعاون بينها والحرص على عدم الاضرار بأى منها.. بينما يتمثل التحفظ الثالث لمصر على الاتفاق الاطارى الذى رفضنا توقيعه فى الطريقة التى يعتمدها لتغيير هذا الاتفاق أو إجراء تعديل فى أحد بنوده، حيث نص على الأخذ بمبدأ الأغلبية، وهو المبدأ الذى لا يراعى مصلحة دولتى المصب «مصر والسودان».. وقد طالبت مصر باستبداله بمبدأ الاجماع، وخلال المفاوضات التى سبقت الإعلان عن هذا الاتفاق الإطارى اقترحت مصر الأخذ بمبدأ الأغلبية المشروطة أى الأغلبية التى تتضمن دول المصب أى موافقة مصر والسودان معًا.
وهكذا.. الخلافات بين دول حوض النيل ليست بسيطة ولم تفلح جولات المفاوضات العديدة فى انهائها أو إيجاد حلول لها.. وبالتالى ليس من المتصور حلها أو علاجها كلها فى لقاء واحد، حتى ولو كان لقاء قمة بين قادة دول حوض النيل.. ولكن المتصور أن هذا اللقاء على مستوى القمة يمكن أن يفتح الباب أمام احتمال التوصل لحلول لهذه الخلافات، إذا ما تم تغليب روح التعاون وليس روح الصدام، وتم نزع الشكوك المتبادلة والتى يحاول من يعبثون فى علاقتنا مع دول الحوض زيادتها لإجهاض أى تعاون بين دول المنبع ودول المصب فى إطار التآمر على مصر ومحاولة النيل منها والإضرار بمصالحها وتهديد أمنها القومى والذى يعد أمنها المائى عنصرًا مهما من عناصره العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية المختلفة.. وقد يساعد على الامساك بهذه الفرصة أن أوغندا بعد تحسن علاقتها فى ظل رئاسة السيسى لمصر حريصة على احتواء هذه الخلافات بين دول المنبع ودول المصب.
كما أن دول المنبع عانت بدورها من هذه الخلافات حينما تعثر تنفيذ نحو ٢٢ مشروعا لتجميد تمويلها كانت سوف تستفيد منها ليس فقط فى توفير جزء من الفاقد الذى يضيع من إيراد حوض النيل، وإنما كذلك فى توليد الكهرباء لاستخدامها فى الصناعة والأغراض الأخرى، وفى زيادة الرقعة الزراعية والثروة السمكية، أى فى تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة لهذه الدول.. ويضاف إلى ذلك أن مصر تشارك فى هذه القمة وهى تملك رؤية ليس فقط لحل هذه الخلافات وإنما لتحقيق تعاون شامل وواسع بين كل دول الحوض بصفة عامة وبينها وبين دول المصب بصفة خاصة.. ولعل هذا ينقلنا للسؤال الثالث والأخير من أسئلة هذه القمة وهو ماذا سيطرحه الرئيس السيسى على القادة المشاركين فيها؟
وجوهر الاجابة على هذا السؤال هو منهج التعاون الذى تتبناه مصر مع كل دول القارة الأفريقية التى تعتز بانتمائها إليها، وخصيصا دول حوض النيل الذى تتشارك فيها مصالحنا معها.. وفى إطار هذا المنهج تطرح مصر على دول الحوض تعاونا وثيقا وأكيدا لزيادة موارد النيل المائية وأيضا للاستفادة من مياهه فى التنمية الاقتصادية التى تتطلع اليها هذه الدول وبذلك تتحقق مصالح الجميع «دول المنبع ودول المصب».. فإن إجمالى ايراد نهر النيل يصل إلى ١٦٦٠ مليار متر مكعب، الأغلب الأعم منها «٩٥٪» يضيع فى المستنقعات والأحراش والبخر المائى.. بينما لا تستفيد مصر والسودان «دولتا المصب» إلا من نسبة ٥٪ الباقية فقط من جملة إيراد نهر النيل.. وهكذا الحل يكمن فى تنفيذ مشروعات لزيادة موارد النيل المائية بدلا من الخلاف والتلاسن من قبل بعض دول المنبع حول استئثار مصر ومعها السودان بأغلب هذه الموارد، خاصة أن هذه المشروعات سوف تفيد دول المنبع فى تحقيق التنمية الاقتصادية، وتحديدًا فى زيادة إنتاج الكهرباء التى تعانى نقصا منها وتوفر لها فرصا كبيرة للعمل تساعدها على حل مشاكل البطالة التى تشكو منها.
وإذا تحقق ذلك سوف يكون سهلا ليس فقط الاعتراف بحقوق مصر التاريخية وإنما أيضًا زيادة حصتها من مياه النيل، خاصة أنها تعانى منذ سنوات من الفقر المائى لزيادة عدد سكانها وثبات حصتها من مياه النيل الذى تعتمد بنسبة ٩٥٪ عليه مائيا.. كما سيكون سهلا أيضًا فى كل هذا التعاون الاخطار المسبق عن أية مشروعات تقام على الحوض أو فى إحدى دول الحوض.
وحتى يتحقق ذلك، أو حتى تتبدد كل الشكوك فإن مصر تقترح تجميد الاتفاق الإطارى مع تفعيل مفوضية مبادرة حوض نهر النيل لامكانية استئناف العمل فى المشروعات المجمدة فى دول الحوض، وهى المشروعات التى تلقى قبولا من كل هذه الدول..
وهكذا تمد مصر يديها بالتعاون المخلص والبناء والمفيد للجميع وتنتظر من دول الحوض ذات الشىء.