السبت 1 فبراير 2025

من جبله المبارك.. للجامع الذى لم يغرقه الماء أو تحرقه النار «الصليبة».. شارع الأساطير

  • 21-6-2017 | 13:37

طباعة

تقرير تكتبه : أمانى عبد الحميد

“ كل من لا يتطلع للعجائب يكون عقله خائب “ مقولة “ للإدريسى “ أحد المؤلفين المصريين فى القرن السابع الهجرى، ويمكن القول بأن هذه المقولة تنطبق على شارع الصليبة، الذى سكنه المماليك والأمراء والسلاطين وأصحاب الكرامات، التى آمن بها أهالى الحى وعاشوا مع تفاصيلها كل يوم، وظلت قناعتهم بأن شارعهم العظيم أهم كثيرا من شارع المعز داخل أسوار القاهرة، وهو الشارع الذى وصفه ابن خلدون خلال القرن الثامن الهجرى- الرابع عشر الميلادى- بقوله : تلوح القصور والأواوين فى وجهه وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ بحر النيل الجنة..”وهو ما نراه داخل الشارع العظيم الذى يحمل اسم “ الصليبة”.

من تأخذه خطواته إلى الشارع المتعرج، لا يتوقع أبدا أن يرى داخله هذا الكم من المبانى الأثرية، التى تحمل فوق جدرانها حكايات تصل إلى حد الخرافات، فـ»الصليبة» شارع ضيق ومتعرج طوله لا يزيد عن نصف كيلو متر فقط يصل بين ميدان صلاح الدين أمام مدرسة السلطان حسن وجامع الرفاعى وبين ميدان السيدة زينب، مرت عليه دول وسلاطين وعاش فى أرجائه وسط ناسه أمراء ومستشرقون.

الرحلة داخل الشارع قد تستغرق وقتا طويلا حتى يستطيع العابرون اجتيازه، لأنه دائما على موعد مع الازدحام، فلا تكاد ساعة تمر دون أن يكون الشارع ممتلئا بالمارة والباعة الجائلين، لايهدأ ليلا أو نهارا.

يعيش أهالى الشارع فى وفاق تام مع الجوامع والقباب والأسبلة، التى تزين شارعهم، ليس هذا فحسب، لكنهم يعتقدون أنهم يعيشون داخل بقعة مباركة، وقد تكمن مشاعر الغيرة من شارع المعز لدين الله الفاطمى لما يحظى به الأخير من شهرة لم يكن لشارعهم نصيب منها، وإن كانوا يرون أن شارعهم الذى أطلق عليه المستشرقون شارع الصليبية نظرا لتقاطع الشارع مع الشارع الأعظم، يحتوى أجمل ما رأت العين من جوامع ومآذن وقباب، والأهم من وجهة نظرهم حكايات شارعهم العتيق، التى ترويها الجدران الحجرية والأبواب الخشبية والمياه المسحورة الراقدة تحت أقدامهم.

وتبدأ رحلة الزائر من أعلى بقعة، وتحديدا بعدما يترك ميدان القلعة ويتجه صوب الشارع، حيث يطل عليه أول المبانى الأثرية هو أحد أروع آثار مصر الإسلامية وهو سبيل وكتاب الأشرف قايتباى، الذى حكم مصر مدة ١٨ عاما خلال القرن التاسع الهجرى حوالى ١٤٧٩ ميلادى ، واجهته ملونة تسر الناظر يعلوها كثير من الزخارف الإسلامية، تحته صهريج ضخم، ومن بعده يطل علينا مسجد يعود للعصر المملوكى هو مدرسة قانيباى المحمدى، وهو أمير من أمراء المؤيد شيخ، ويعود تاريخه إلى حوالى عام ١٤١٣ ميلادي، ثم يليه خانقاه الأمير شيخو والخانقاه هو “المكان المخصص للمتصوفين” ويرجع تاريخه إلى عام ١٣٤٩ ميلادى، والأمير “ شيخو “ أحد أمراء الناصر محمد بن المنصور قلاوون، بنى قبة الخانقاة على الطراز السمرقندى الجميل، ويمتاز العتب العلوى للخانقاة بإعادة استعمال أحجار من العصر الفرعوني.

وفى المقابل على الجانب الأيمن من الشارع أمر ببناء جامع له ليكون بمثابة ضريح له ، يليه مبنى سبيل أم عباس ذو النقوش المذهبة والمبنى على الطراز العثمانى وملحق به مدرسة حديثة من عصر أسرة محمد على وهو سبيل بنمبا قادن وهى أم الخديو عباس حلمى.

وعند ناصيته يطل شارع السيوفية الضيق متقاطعا مع شارع الصليبة يضم قصر الأمير “طاز” ، الذى يحوى اليوم مركزا ثقافيا وفنيا تابع لوزارة الثقافة، وهو نموذج نادر لقصور العصر المملوكى، صاحبه الأمير سيف الدين عبد الله طاز بن قطغاج، أحد الأمراء البارزين لعصر دولة المماليك البحرية نجد على الجانب الأيمن مدرسة من عصر السلطان الأشرف برسباى تحمل اسم “ابن تغر بردى” وهو مؤرخ، ومؤلفاته تعتبر من أهم مراجع تاريخ مصر فى العصر الإسلامى، منها “النجوم الزاهرة فى ممالك مصر والقاهرة” ، ويقال إنه حمل لقب تغردى بردى المؤذى نظرا لكثرة أذيته للناس، وفى مقابله تقريبا نرى بواقى من قصر السلطان قنصوة الغورى، مجرد بوابة حجرية تحمل اللون الأحمر فقط، ولم يبق أثر للقصر، ويوجد مكان القصر حاليا مدرسة للتربية الفكرية، وبعده تظهر جليا مئذنة ابن طولون بجمالها، وهى مئذنة فريدة من نوعها ليس لها مثيل فى مصر، ومنها مئذنة وحيدة فى العراق بمدينة سامراء وتسمى ملوية سامراء، والتى بنى على غرارها مئذنته بمدينته “القطائع” ، ويمكن صعودها عن طريق سلم يلتف حولها من الخارج، كما أنها تعتبر مئذنة أقدم ثالث جامع تم بناؤه فى مصر، حيث قام ابن طولون فى عام ٨٧٩ ميلادى ببناء جامعة على ربوة صخرية مرتفعة أو على قمة جبل يسمى “يشكر»، حيث كان يحلم ببناء جامعا لا تمسه الماء إذا غرقت مصر ، ولا تحرقه النار إذا احترقت مصر، وأن يبنيه من مال حلال، فكان الحل أن يبنى الجامع على ربوة عالية لحمايته من فيضان النيل وبنائه بالطوب الأجُر “ الطوب الأحمر” كمادة أساسية بدل الأحجار لحمايته من الحريق، والجامع مبنى على دعامات، وتصل مساحته إلى ستة ونصف فدان حوالى ٢٧٦٠٠ متر مربع، ويضم ٤١ بابا للدخول، وهو ثالث جامع تم بناؤه فى العاصمة الإسلامية بمصر بعد جامع عمرو بن العاص وجامع العسكر.

وبعد الخروج من جامع السلطان أحمد بن طولون نرى على اليسار مدرسة الأمير “صرغتمش” وهو أحد أمراء العصر المملوكى البحرى، كان المسؤول عن تجهيز الملابس للسلطان الناصر محمد.

ومن أهم الأماكن التى يجب على كل عابر فى شارع «الصليبة» زيارتها هو ذلك البيت القديم المطل على مدخل جامع ابن طولون، حيث يقع على اليسار، وبداخله متحف جاير اندرسون، ففى عام ١٩٠٦ جاء إلى مصر جاير أندرسون الطبيب بالجيش البريطانى ليلتحق بالعمل بالجيش المصري، وخلال فترة إقامته، التى استمرت قرابة ٤٠ عاما عاش داخل أحد أشهر البيوت الأثرية فى القاهرة المطل على الشارع وهو “ بيت الكريتلية»، والذى كان فى الأصل عبارة عن بيتين بيت آمنة بنت سالم من القرن الـ١٧، والبيت الآخر هو بيت الجزار من القرن الـ١٨ وتم ضم البيتين معا، وأصبح بيتا واحدا وأصبح يسمى بيت الكريتلية، حيث اشترته امرأة من كريت كانت تعيش فى مصر، وفيه عاش أندرسون مغرما بالآثار المصرية وجمعها واقتنائها،

«أندرسون» طالب الحكومة المصرية بتحويل هذا البيت إلى متحف بعد وفاته، حيث إنه من النماذج المعمارية النادرة والنموذج الوحيد داخل القاهرة، التى يحوى بئر، وفيه تعرف على الشيخ سليمان الكريتلى آخر سلالة عائلة الكريتلية، وربطت بينهما علاقة صداقة، حيث ظل الشيخ سليمان الخادم الوراثى لضريح سيدى “ هارون الحسينى “ أحد المشايخ المتصوفة، وهو الضريح الملاصق للبيت.

استطاع “أندرسون “ أن يقوم بتجميع الحكايات، التى ظل أهالى حى السيدة زينب يتناقلونها شفاهة أبا عن جد، وعدد من المرويات التى تحكيها الجدات لأحفادهن، ودونها فى كتاب باللغة الإنجليزية خلال الخمسينيات من القرن الماضى أورد فيه سرد كامل لتلك الأساطير وكلف أحد الفنانين من أبناء حى السيدة، وهو عبد العزيز عبده القاهرى برسمها وحفرها على أطباق نحاسية بطريقة تقترب من شكل المنمنمات الفارسية القديمة، والتى لا تزال معروضة حتى اليوم داخل البيت بعد تحويله إلى متحف، فى حين توجد الرسومات الأصلية داخل متحف “ فكتوريا وألبرت” فى لندن.

الحكايات تشبه حكايات أساطير ألف ليلة وليلة يتخذ بعضها الآيات القرآنية كسند لمرجعيتها التاريخية، ومعظمها يدور حول البيت والجبل والجامع، جامع ابن طولون، ما أضفى على الشارع مزيدا من السحر، كل أسطورة أو حكاية تتخذ لها نقطة ارتكاز داخل العالم الروحانى السحرى، كثير منها يرتكز على الخرافة أو عالم الجن أو السحر والشعوذة، وأحداثها تدور وسط عالم غريب لا يقبله العقل أو العلم ، لكنها تجتمع حول ضرورة وجود العبرة والموعظة لترشد الإنسان نحو الطريق الصواب، تدافع عن الخير وتحارب الشر، رغم أنها غير صحيحة من الناحية الدينية أو التاريخية إلا أنها تمنح البسطاء قناعات بقدسية المكان .

فنجد الأسطورة الأولى تحكى عن بركة جبل “يشكر” وتحكى تاريخ الحى المبارك، الذى رست فوقه سفينة نوح بعد الفيضان، وهو الجبل الذى أوحى الله لسيدنا إبراهيم بأن يذبح ابنه فوقه لكن ملاك طاهر نزل من السماء حاملا كبش فداء فسجد إبراهيم شاكرا، فسمى الجبل “ يشكر” وسميت المنطقة باسم “ قلعة الكبش” كما تحكى الأسطورة الثانية.

الأسطورة الثالثة تحكى عن “ مصطبة “ فرعونية عتيقة وقف عليها سيدنا موسى ليقابل أعوان فرعون الكفرة ويهزمهم، وهو نفس المكان الذى تجلى فيه الله لسيدنا موسى فى صورة شجرة مشتعلة ومكانها جامع ابن طولون.

وهناك أسطورة تحكى عن ملك الجان الذى ظهر لسلطان ابن طولون وأرشده إلى كنز مدفون على أن يصرفه على بناء الجامع، وأسطورة أخرى عن الجد الأعظم لعائلة البيت قرر أن يبنى البيت فوق البئر المبارك الموجودة منذ أيام طوفان نوح، وقيل أن أمير الجان هو الذى أوحى له أن يبنى البيت فى هذا المكان، ودفع ثمنا باهظا نظير بنائه وزخرفته الفاخر.

وهناك أيضا أسطورة تحكى عن الأرملة الغنية، التى سكنت البيت مع ابنتها الحسناء التى تضاهى بجمالها البدور، عندما نظرت إلى جوف البئر هاج ماؤها وبدأ يفيض خارج ، لتطاردها خارج البيت، مندفعة نحو الحارة ومنها إلى الخليج المصرى القديم حيث استقرت وسط مائه، وأطلق أهل الحى على الطريق الذى سلكته المياه “ سكة بئر الوطاويط».

وعن المقام الملاصق للبيت فهو لسيدى هارون الحسينى، الذى يذكر الشيخ سليمان فى روايته أنه أحد أحفاد الرسول عليه السلام، وتحكى بقية الأساطير الأربع عشرة عن كرامات سيدى هارون، فكما تذكر الأسطورة هو ابن الشهيد الحسين حفيد الرسو ، وتؤكد الأساطير أن مقامه يشفى من الأمراض وينجى من المهالك ويحمى من الشرور، لذا ظل أهالى حى السيدة زينب يحتفلون بمولده كل عام، ما أضفى مزيدا من الأجواء الأسطورية على الشارع العظيم.

حكايات تشبه أساطير ألف ليلة وليلة نسجت خيوطها فى شارع الصليبة

 

    الاكثر قراءة