الأحد 5 مايو 2024

زبائن الرواية


د. سيد ضيف الله

مقالات26-12-2021 | 14:25

د.سيد ضيف الله

هذا طبيعي وقديم ومستمر وسوف يستمر. هل جدّ في الأمر جديد؟ لا أظن.. كل ما في الأمر أن كاتبًا روائيًا معروفا له سبع روايات وهو صبحي موسى فاض به الكيل من استبعاد روايته "صلاة خاصة" من قائمة النصوص المرشحة  لجائزة ساويرس فعبر عن غضبه على صفحته على الفيس بوك، فتبعه من يؤمّن على تشكيكه في الجائزة وفي النقد والنقاد. هذا الأمر دفعني للعودة لشهادة صبحي موسى عن علاقة النقد بالإبداع في عدد فصول الأخير(عدد 106)، وكما توقعت، هو كاتب لديه وعي كافٍ بجوهر الأزمة وغضبه هو فائض وعي بالأزمة لم يكن ممكنًا كبته أو الصهينة عليه. ولا يعني ذلك أية إدانة للجنة التحكيم الموقرة  كما لا يمكنني السير دون دليل وراء افتراض أن موضوع الرواية هو السبب وراء استبعادها.

صبحي موسى في شهادته واعٍ بأن "ثمة عداء واضح لمن يسعى لأن يقدم أفكارًا ومن ثم فالمجتمع ككل استهلاكي مما انعكس على النقد والإبداع أيضًا"، بل إنه يذهب إلى أن الكتابة عن رواياته أكاديميًا لن تتحقق ما لم يتحول عبر جائزة أو منحة ما، إلى حالة استهلاكية" حيث أُصبح مكسبًا لمن يكتب أو ينشر عني".

إن هذا الوعي لا يعني أن صبحي موسى أو أي كاتب يشاركه الوعي بالأزمة سوف يقبل بالاستبعاد من المشهد اعترافًا بقوانين السوق التي تتحكم في الرواية بشكل شرس وغير مسبوق في تاريخ الأنواع الأدبية. وعدم الاعتراف بالهزيمة أو الانسحاب من المشهد ليس مرجعه شيء سوى تمني الفوز- ولو على سبيل المصادفة- باهتمام نقدي أكاديمي أو بجائزة قادرة على أن تقلب الموازين ولو لحين. فالمبدع ، بحسب شهادة سيد الوكيل في عدد فصول نفسه، بحاجة لأن يراه الآخرون، وكذلك الناقد. ومن ثم فنحن في طقس احتفالي لكن أصبح تسليع كل مفرداته من كاتب وناقد وكتاب وناشر ومانحي جوائز وصحفيين ونوادي قراء ومديري صفحات المعجبين بالكتّاب  أمرًا يصعب على كاتب فرد أعزل مواجهته اعتمادًا على موهبته الأدبية.

لا أستطيع أن أمنع نفسي من الاندهاش من حنين سعاد سليمان في شهادتها  للناقد الكبير أمثال طه حسين ومحمد مندور وعلى الراعي بل وتفضيلها للمجلات المتخصصة حتى لو لم يتابعها أحد. سعاد سليمان ليست الوحيدة التي تحن للناقد الكبير، فثمة اعتزاز متكرر لدى الكثير من الكتاب بتلك الإشارة التي نالها- خاصة في بداياته- من هذا الناقد الكبير أو ذاك.

هل يكتب روائيونا للناقد الكبير الذي انتهى زمنه أم يكتبون للقراء؟ بمعنى آخر من زبائن الرواية؟ وبحثًا عن إجابة واقعية لم أوجه سؤالي لكتاب الرواية وإنما حاولت أن أفتش عن قراء الرواية أو زبائنها سواء في منتديات قراءة الرواية على الإنترنت أو بين الشباب في الواقع الذين يشترون رواية ليس بغرض الدراسة الإلزامية وإنما بغرض هواية قراءة الرواية.

في البداية، لا أستطيع أن  أخفي اندهاشي من ظاهرة "جروبات" أو نوادي القراء المتخصصة في الرواية، والتي يبدو أن الكثير من أعضائها لا يفعلون شيئا في حياتهم سوى أنهم يقرأون الرواية!! ولا أخفي اندهاشي من تكرار أسماء بعينها وروايات بعينها يتم طرحها في هذه المجموعات كترشيحات للقراءة، وهو ما أعتبره آلية تسويق تشبه مجموعات تسويق العقارات التي تبدأ محادثتهم بالسؤال عن أفضل عشر شركات تقدم شقة في المنطقة الفلانية فتجد الإجابات جاهزة وكأنها قد جهزت من قبل واضع السؤال نفسه أو كان السؤال مجرد تهيئة لفرصة لتقديم الترشيحات!!

روايات تصل صفحاتها للخمسمئة صفحة وتتناول موضوعات تتعلق بقضايا كبرى تنتمي لجيل عاش الأحلام الكبرى وعاش سقوطها! ومع ذلك نجد القراء يتفاعلون معها بشكل مثير لفضولي. وددت لو تتبعت سيرة حياة كل قارئ منهم ومهنته ومستوى دخله وتخصصه وحقيقة اطلاعه على الروايات المرشحة والمعايير التي يستند إليها في تقييم الروايات والخلفية النقدية التي تشكل ذائقته في قراءة الروايات.

هذا التساؤل جعلني أغامر باستطلاع رأي بعض طلابي الجامعيين من غير المتخصصين في دراسة الأدب. طلبت منهم المقارنة بين ما يدرسونه من روايات  في الفصول الدراسية للأدب العربي الحديث وما يفضلون قراءته من روايات هم وزملاؤهم من نفس الفئة العمرية (18-25 سنة). ويجب الاعتراف بأن ما سأرصده من ملاحظات لا يعوّل عليها علميًا لأنها مجرد ملاحظات أولية تحتاج لتوسيع العينة وتدقيق الإحصاءات وتنويع وسائل استطلاع الرأي.

خذوا مثلاً. محمود ينحاز لرواية أحمد مراد "تراب الماس" على حساب رواية إبراهيم عبد المجيد "ليلة العشق والقتل" بسبب سهولة توصيل الفكرة والسلاسة والتشويق والحوارات العامية التي يتمتع بها نص أحمد مراد. أما فكري فيفسر جماهيرية أحمد مراد بأنه يقدم روايات مسلية وهذا ما يريده جيله للهروب من الواقع ويقدم دليلاً على كلامه بأن أحمد مراد عندما انحرف عن التسلية كغاية وحاول تقديم رواية تاريخية ذات هدف تثقيفي وهي رواية 1919 فشل ولم تلق الرواج نفسه الذي لاقته رواية القيل الأزرق وتراب الماس".

ويوسف يطلب تبسيط لغة رواية  نجيب محفوظ التي درسها -أمام العرش- لأن المنافسة الآن مع التليفزيون واليوتيوب، وبالتالي جيله يحتاج للغة سهلة وحكاية مثيرة مثلما يفعل أحمد خالد توفيق وأحمد مراد. أما مروان فيكشف لنا أن أحمد مراد لا يتميز عن "الأدباء القدماء" بالسهولة فقط والتشويق فقط، وإنما هو يهتم بالأفراد وحقوقهم وواجباتهم وبالتالي يمكن الاستفادة بها في مواقف في الحياة، ولا يهتم بقضايا الوطن والاحتلال والسياسة التي كان يهتم بها الأدباء القدماء.

ومع ذلك، فإعجاب الكثيرين ومنهم لينا برواية يوتوبيا لأحمد خالد توفيق راجع لطريقة أحمد خالد توفيق "كاتم أسرار الشباب" في تشجيع الشباب غير المثقف على القراءة وتقديم خبرات حياة عميقة لهم بشكل سهل والأهم كشف أن التقدم الذي يحققونه في حياتهم الخاصة يعتبر تقدما مهينًا للإنسانية في ظل وجود الطبقية.

أما آلاء فرأت أن إعجابها برواية خولة حمدي "في قلبي أنثى" ورواية د. محمد طه "علاقات خطرة" يرجع للجرأة في طرح إشكاليات دينية وعاطفية تهم الشباب لا تجد أن الأدباء القدماء كانوا بالشجاعة الكافية لمناقشتها لأنهم كانوا مشغولين بقضايا الاحتلال والوطن والديكتاتورية. ولهذا فهي أحبت من الأدباء القدماء محمد المخزنجي في قصته السباق وإبراهيم أصلان في قصته "وقت للكلام" لأنهما يهتمان بالعلاقات بين الناس في الواقع ، وهي موضوعات موجودة في كل الأزمنة. وفي المقابل، رأت شهد أنها لم تفهم إبراهيم أصلان وأنها تفهم طه حسين أكثر من الكتاب الذين جاءوا بعدها لأنه كان حريصًا على توصيل الفكرة للقارئ بسهولة، والأهم أنها ترى أن أحمد مراد يحرص مثل طه حسين على توصيل الفكرة للقارئ بسهولة ويحرص على تسليته.

وأخيرًا ، لا داعي للبكاء على زمن الناقد الكبير ولا التعويل على الناقد الصغير. ابحث عن زبونك أو انتظر دورك في الجوائز!