الخميس 28 نوفمبر 2024

الموتى ليسوا وقودا للثورة

  • 22-6-2017 | 15:59

طباعة

أسعد الجبوري - كاتب عراقي مقيم في الدنمارك

لا أحد يمكن أن يؤكد ما يزعمونه من وجود زمن إسلامي نقي من الدنس وخالٍ من الأذى والمآسي. والسبب بسيط يتمثل في تداخل الديني بالسياسي. فهم يريدون استعادة ما يعتقدون أنه زمن السلف الصالح دون أن يحددوه التحديد الدقيق. فأي سلف يريدون استعادته؛ زمن النبوة أم زمن الراشدين أم غيرهما؟

  بل إن هذين الزمنين كانا من أشد الأزمان أذى وإيلاما وإفكا. يمكن أن نستدل، هنا، بحكاية حادثة الإفك التي تداولها الناس زمن النبوة والتي فيها إساءة إلى عرض النبي وزوجه السيدة عائشة في غزوة بني المصطلق. وهي دليل على أن أخلاق المسلمين لم تكن فضائل كلها حتى في زمن النبوة.

  فإلى جانب الرواة الأربعة الكبار، ورد خبر حادثة الإفك في صحيحي البخاري ومسلم. ويروى أن عبد الله بن أبي بن سلول الذي يوصف بالمنافق هو من تولى الإفك بعرض السيدة عائشة. ثم لهج الناس بإفكه حتى أتت السيدة عائشة بيت أبويها وفارقت النبي شهرا كاملا. فلم تمنع هيبة النبي ومنزلته المسلمين من إتيان عرضه بسوء وهو بينهم إلى أن تبين من علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد براءة السيدة عائشة، قبل أن يبرئها الوحي. وكادت أن تحصل الفتنة ويقتتل الأنصار من الأوس والخزرج بسبب إفك عبد الله بن أبي بن سلول، والنبي على المنبر يخطب فيهم.

  فلقد تأذى النبي وزوجه وآل بيته أيما إيذاء وهو بين قومه المسلمين. وقال يخطب فيهم: "يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله، ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان دخل على أهلي إلا معي".

  إذا كان هذا ما حدث للنبي نفسه بين قومه فما بالك بالحياة الاجتماعية بين الناس داخل المدينة حينها؟

  صحيح أن النبي ذو كرم وفضائل، ولكن من كانوا معه من غير الصحابة ليسوا كذلك أغلبهم. وهذا ما لا يجعل زمنهم كما يعتقد السلفيون. وإذا كان زمنهم كما رأينا فكيف كان سيكون لو لم يكن النبي بينهم؟ فزمن السلف ليس أفضل من زماننا ولا أصلح. واستعادة هذا الزمن، لو سلمنا بأطروحة السلفية، فإنها لن تحقق أهداف الثورة. بل ما أبعدها عنها!

ـ لا إله إلا الله!!

   صاح به الشيخ فليفل نصف صيحة بعد أن ظهر على وجهه الإرهاق من ثقل الأسئلة، بل كاد أن يسقط من على منبره أرضا. فيما نهض رجل رابع ليسأله سؤالا آخر يتعلق بالعنف الذي قاد إلى القتل والتصفيات الجسدية من زمن الخلافة الراشدة وحتى اللحظة، إذ قال موجها السؤال للشيخ فليفل:

ـ كيف تفسر القتل الذي كان قانونا. إن ثلاثة من بين أربعة من الخلفاء الراشدين ماتوا مقتولين غيلة وغدرا في أشهر حرم وفي أماكن حرم وفي مناسبات حرم! فلم تشفع لهم أنسابهم ولا صحبتهم النبي ولا فضائلهم ولا خدمتهم الإسلام والمسلمين.

   ففي 26 من ذي الحجة اغتال المجوسي أبو لؤلؤة فيروز الفارسي الفاروق عمر بن الخطاب وهو من هو. إنه من خاض معارك القادسية والبويب والجسر وجلولاء. إنه من فتح المدائن والعراق وفارس. إنه من فتح دمشق وبيت المقدس ومصر وليبيا والنوبة وأزال سيطرة الروم تماما من تلك البقاع والوهاد. لقد طعن عمر وهو يصلي الفجر بالناس بخنجر له نصلان ست طعنات! يعني قتل في المسجد الحرام وهو ساجد!

   وكان حظ عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث أسوأ من سلفه الفاروق. فلقد حوصر في بيته أياما بلياليها ولا من مغيث ولا من مجير وكأنه ليس خليفة المسلمين ولا سيد أمرهم! ومُنع عنه مع آل بيته الماء والطعام في رمضان وهو صائم. وقطعت أطراف أنامل زوجته وهي تتصدى بيدها للسيف الغادر يهوي عليه. وقتل ابنان من أبنائه وهما يثأران ممن قتل أباهما. وقطعت يد الخليفة وهو يتقي بها ضربة سيف الخارجي. وقتل عثمان وهو يقرأ القرآن والمصحف بين يديه حتى تقاطر دمه ليغمره يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 35 هجرية. فهل بعد هذا الإيذاء إيذاء؟ وهل بعد هذا الإجرام إجرام؟ وهل بعد هذا الظلم ظلم؟ وهل هذا زمن صالح تريد دفعنا إليه أو جلبه إلينا، عبثا طبعا؟

   كان مآل علي بن أبي طالب الخليفة الراشد الثالث أشبه بمآل سلفيه. "وذلك على يد المجرم الخارجي الضال، أشقى الناس، عبد الرحمن بن ملجم المرادي، أثناء خروج أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لصلاة الفجر بمسجد الكوفة في يوم الجمعة 17 رمضان سنة 40 هجرية". والخارجي القاتل كان يعرف أن عليا هو ابن عم النبي وصهره وأبو الحسن والحسين. وكان يعرف أنه في صفين خير حقن دماء المسلمين رغم يقينه بالخديعة.

   ومع ذلك، قتل غيلة وغدرا يوم الجمعة وأثناء الصلاة وفي المسجد؟ فهل هذا السلف صالح للاقتداء؟

   هذه الحقائق التي أتاها السلف الذي يراه السلفيون نبراسا يريدون أن يجبرونا على تقديسه والاقتداء به، وهو ليس كذلك! لأنهم يتعاملون مع التاريخ انتقائيا فيرون ما يريدون وإن لم يوجد، ولا يرون ما لا يريدون وإن وجد. فإسلام النبي وصحابته ليس إسلام العامة حتى من المهاجرين والأنصار وقد كانوا جميعا معا.

   فلا وجود لزمن إسلامي طاهر نقي. وإنما كلما اقترب الدين من السياسة سُلت خناجر الغدر وسالت الدماء غزيرة. ولم يقع اغتيال الخلفاء الثلاثة إلا لأسباب سياسية متصلة بخلاف في تقييم حكمهم والطمع فيما بين أيديهم من سلطة ورياسة. ولما لم تكن هناك آلية للتداول على الحكم وعلى إزاحة الحاكم الذي يفشل حكمه تسحب السيوف وتطير رقاب وتهدر أعمار. ويكون قانون العنف والقتل هو الفيصل. فإن كان السلفيون يريدون استعادة زمن هؤلاء الأسلاف فلعلهم لا يخطئون في التيقن من أنه ليس أفضل من واقعنا، لاسيما مع وجود الدولة ومؤسساتها وقوانينها وآليات التداول السلمي على السلطة فيها. ولهم أن يستنتجوا أن الخلفاء المغدورين غيلة ثلاثتهم كانوا يبحثون عن الدولة ويجتهدون في تركيز أنظمتها ومؤسساتها، الدولة التي يرفضها السلفيون ولا يعترفون بها. فهل يعني ذلك أنهم يعنون بالسلف الصالح غيرهم بل قتلتهم الذين أرادوا قطع جهودهم التأسيسية؟

ـ كل ذلك من أجل استعادة زمن الخلافة التي سيجد المسلمون فيها خلاصهم من ظلم الدنيا وعذاب الآخرة.

   أجاب الشيخ فليفل بصوت خفيض، وكأن ضغط الدم في جسده هوى إلى دون الصفر. فرد عليه الرجل سائلا بخبث وهو يروي على المصلين قصص الخلافة قائلا:

   ـ نبدأ بالخلافة الأموية؛ ما حدثنا به التاريخ الإسلامي الرسمي وأدبياته هو أن الأمويين افتتحوا خلافتهم بالاحتيال والخديعة والاتجار بالدين مبكرا للحصول على السلطة. وما نعلمه أن الأمويين رفعوا السيوف في وجه إخوانهم المسلمين في صفين. وما نعلمه أن الأمويين هم أول من قضى على الشورى وحولوا الخلافة إلى حكم عائلي متوارث. ما هو ثابت أنهم ذبحوا الحسين بن علي بن أبي طالب ومن معه من آل البيت من نساء وأطفال في كربلاء في 61 هجري. بسبب رفض الحسين مبايعة يزيد بن أبيه بولاية العهد ثم بالخلافة لأنه كان يرفض توريثها. لقد كان الحسين أكثر حداثة من طالبي الخلافة اليوم! وقد كان الحسين قد قاتل مع أبيه الخليفة علي بن أبي طالب في موقعتي الجمل وصفين زمن الأمويين. لقد تولى أحد أتباع علي القدامى الخارجي شمر بن ذي الجوشن قتل الحسين بن علي رغم أنه كان قد شارك معه في معركة صفين. ولا ننسى أن راشد الغنوشي اعتبر أنصار الشريعة خوارج العصر! ما نعلمه أيضا أن الأمويين رموا الكعبة بالمنجنيق.

 الخلافة العباسية:

   ما حدثنا به التاريخ عن الخلافة العباسية أنها شردت الأمويين تشريدا ولاحقتهم في الأمصار. ولم تنقذهم من هربهم إلا الأندلس. ما نعلمه أنهم اغتالوا أبا مسلم الخراساني القائد العسكري الشاب النابغة الذي مكنهم من بلوغ مرادهم في الخلافة! ما نعلمه أنهم أخذوا الخلافة من الأمويين ولكنهم لم يخلصوها من سمة التوريث الأموية التي قتل بسببها الحسين بن علي. ما هو ثابت أن العباسيين قطعوا أوصال ابن المقفع ودفنوه حيا لما تيقظ وعيه السياسي فحرك قلمه. ما أخبرنا به التاريخ أنهم كرسوا العبودية واستحلال حرمة النساء الجواري والرجال الغلمان فامتلأت قصورهم بهم يستلذون بهم. ما هو ثابت أنهم فتحوا أبواب خلافتهم للفرس الساسانيين ثم للروم ثم للسلاجقة الأتراك الذين انتهوا بافتكاك الخلافة منهم. أما الخلافة العثمانية فهي استعمار.

   فأي خير في الخلافة يراه حزب التحرير ورضا بلحاج؟ لماذا يلوي عبثا عنق الزمان؟ كيف يسمح لنفسه بأن ينتقي من التاريخ ما يريد ويترك ما لا يناسب هواه وأيديولوجيته؟ إلى ماذا يحن؛ إلى عصر الجواري والغلمان وأيديولوجيا "أسلم تسلم"؟ كيف يسمح لنفسه بالانتكاس عن منجزات الفكر السياسي الحديث وعما أنتجه من نظريات في أنظمة الحكم الديمقراطي التي تتيح التداول السلمي على السلطة وتضمن نوم السيوف في أغمادها وحفظ دماء الإخوة والأهل والمواطنين؟ فلينتظر رضا بلحاج الخلافة لعلها تأتيه مجررة أذيالها. أما شعب تونس الثائر فإنه لن يسمح لأحد بأن يخرجه من التاريخ باستيهاماته وخبطه. إن استيهامات رضا بلحاج الاستخلافية لن تحقق للشعب التونسي الحرية والديمقراطية ومجتمع المعرفة ودولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية التي يهفو إليها.

    إن الإسلام ليس أزمنة ماضية يمكن أن تستعاد. والفضائل ليست نائمة في حضن الزمن الماضي تنتظر من يوقظها. وإذا أراد السلفيون الإسلام وفضائله فإنهما هنا والآن وفي كل عصر وزمان. أليس الإسلام دينا صالحا لكل العصور!؟ فلماذا يقصرون خيره وفضله وجوهره على الماضي البعيد الذي يتوهمون أنه عصره بامتياز ثم يعملون على جرنا إليه أو جره إلينا في عبث لا يفيد. "جوهر الدين ليس معرفة وليس فعلا، بل هو شعور متفرد بدون تحديد"، فلماذا يجره السلفيون والإسلاميون عموما جرا للسياسة التي هي معرفة وفعل رغم تاريخ أجدادنا الدموي الذي يحذرنا من استعادة تجاربهم؟ إن الإسلام ليس ما يرونه ويريدونه، بل هو ما نحن عليه.

   فجأة ينزل الشيخ فليفل من على منبره وهو شبه مرهق ونارٌ تلتهبُ بعينيه قائلا بصوت خافت:

ـ سيتم إصلاح كل شيء فيما بعد. وستثبت الأيام القادمة صحة ما أقول.

فقاطعته بسخرية قائلا:

ـ بالديناميت يا شيخ فليفل. أليس كذلك؟

   فمنْ لم يأتِ معك بحسنى أفكار، ستذهب به النارُ حتى يتم التخلص منه. إنها نظرية المستقبل الذي تناضلون من أجل الوصول إليه. أليس هكذا هي الفكرة يا شيخ؟

   ما إن أكملت الفقرة الأخيرة من كلامي، حتى رماني الشيخ فليفل بفردة من نعاله وهو يصرخ:

ـ لقد فعلتها يا ابن الحرام يا أيها الفتى الكافر.

   والله لأجلدنك جلدا مبرحا على ما قمت به من تحريض للمؤمنين المساكين في قرية الطوف.

   فأنت تستغل ضعفهم، لتملأ رؤوسهم بقصصك وبروايات التاريخ دون تورع أو انضباط.

   لم أجد نفسي إلا وأنا أنطلقُ مهرولا إلى خارج المسجد كالسهم الملتهب نارا.

   شعرتُ بأن قدمي مثل مطرقتين راحتا تدقان التراب الساخن تحت قرص الشمس الفائح بالنيران. فيما رأيتُ طيرا يحلق فوق رأسي، وكأنه يريد مشاركتي في ذلك السباق نحو المجهول.

   لم تتركني الحشودُ وحيدا على ذلك الطريق، إذ سرعان ما نهض المصلون بالهرولة خلفي، وهم بحالة هياج عظيم. كان المهرولون يحاولون إلقاء القبض علي، وتأديبي وفقا لرغبة إمام الجامع.

    فما حدث للشيخ فليفل في أثناء خطبة الجمعة، كان تمردا، أو بمثابة زلزال عميق ليس في صالحه، وليس في صالح استمراره بالسلطة.

   لقد اعتبر الشيخ كلامي عاصفة نالتْ من أكوام القش التي كان يضعها على أعينهم، لحجب الحقائق.

   أبو قعبرة الذي راح يطاردني كرأس حربة للجموع الهائجة خلفي، ربما كان الوحيد الذي يضحكُ بسره مما حصل لشيخه من مهانة ومن كسر للهيبة.

   لذا.. ما إن شاهدني، وأنا أتسلق شجيرة كالحة على قارعة الطريق، حتى هَدَأ من روعي، طالبا من الحشد الكف عن ملاحقتي والعودة إلى بيوتهم. بعد ذلك ناشدني بأن أتصرف بحكمة في أثناء مناقشة الشيخ فليفل.

   فجأة. شعرت بالطمأنينة من موقف الملا غير المعادي لي. وشعر هو الآخر بالشيء نفسه. لذلك تقدم بحصانه مقتربا من الشجرة، ليأمرني بالقفز من الشجرة إلى ظهر الحصان رأسا. وهو ما حدث بالفعل. جلست في مقدمة سرج الحصان، فيما كان الملا يجلس خلفي على ظهر حصانه.

   وبمجرد أن استقر المشهد ذاك، حتى وضع الملا مشط يدهِ بشَعري، وراح يحرك أصابعه بحنو زائد، وكأنه يريد أن يقص لي تسريحة جديدة. ثم همس بأذني اليمنى بعد ذلك قائلا برومانسية يغلب عليها الطابع البدوي:

ـ ما الذي حصل أيها الفتى. لقد جن الشيخ مما قمت به علنا وأمام الملأ؟!!

ـ لم أظن بأن شعوبا ما زالت مشغولة بالمذاهب والفرق والنحل مثلكم. لقد خنقني الشيخ فليفل بما كان يقرؤه على الناس الغلابة.

  أجبته حائرا ومتذمرا وأنا ألهثُ من ضيق التنفس.

ـ عامة الناس تريد ذلك، وتتمسكُ بالموروث، وليس الشيخ بالضبط.

   أجابني الملا وهو يلكَزُ الحصانَ للمضي على الطريق الصحراوي. ثم استطرد قائلا:

   عقول العامة عندنا في قرية (الطوف)، شبيهة بلوحة فسيفساء. كل جزء يكمل الآخر في تشكيل المعنى العام للتخلف. الناس هنا لوحة للماضي فقط. لا وجود للبحث في العقل. ما من جوجل في قرية الطوف.

   اسمعني يا فتى.

   لقد قمتُ بطرد ملاحقيك من العوام، ليعودوا إلى ديارهم. وقد تخلصنا من مضار القوم وغبارهم. لذلك سنمضي قدما إلى الدار.

   فتحت شمس حارقة كهذه، لا يصح النقاش. سنحكي عن تلك الأمور مطولا، ولكن ليس قبل أن تقوم بالاغتسال من كل الذنوب التي جلبتها لنفسك اليوم.

   (من رواية "ثعابين الأرشيف")

 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة