إنه المفكر العلامة الدكتور "حسن حنفي" صاحب المقولة الأدق فلسفيًا؛ القائل: "مُهمَّةُ التُّراثِ والتَّجديدِ حلُّ طَلاسِمِ المَاضى مرَّةً واحدةً وإلى الأَبَد، وفكُّ أسرارِ الموروثِ حتَّى لا تعودَ إلى الظُّهور، مُهمَّةُ التراثِ والتَّجديدِ التحرُّرُ مِنَ السُّلطةِ بكلِّ أنواعِها؛ سُلطةِ الماضِي، وسُلطةِ المورُوث، فلا سُلطانَ إِلَّا للعَقل، ولا سُلطانَ إِلَّا لِضرُورةِ الواقِعِ الذِى نَعيشُ فيهِ وتحريرِ وِجدانِنا المُعاصرِ مِنَ الخَوفِ والرَّهبةِ والطَّاعةِ للسُّلطة".
إنه فكر سبق أجيال وتبصر بالمستقبل وشهد معنا نداءات تجديد الخطاب الدينى فى يومنا هذا حتى وإن غادرنا صاحب ذلك الفكر، تجلت رؤيته السباقة فى كتاب «التراث والتَّجديد» أو ما عُرِف بـ"مانيفستو حسن حنفي"؛ إِذْ حدَّدَ فيهِ مَعالمَ مشروعِه الفِكري؛ لذا فعلى كل باحث فى فكره أن يبدأ بقراءةِ البيانِ الحنفى الأول قبل الوُلوج إلى مشروعهِ الفِكرى؛ الذى طرحه الراحل منذُ ثَمانينيَاتِ القرن العشرين، وهو المشروع الذى أَفنى فيه عُمرَه وبثَّ فيه عِلمَه وعملَه، حامِلًا على عاتقهِ رؤيته لتجديدِ التراث، مُنطلِقًا من دراسته ومحاوَلة فهمه لإِعادة بِنائه مرَّة أخرى من خلال علومِه، مؤسِّسًا ما يُمكن تسميته «أيديولوجيا الواقع»؛ وهى مدرسة ذات ثلاثة مَحاور؛ الأول والأهم هو «مَوقفنا من التراثِ القَديم»، والثانى هو «مَوقفنا مِن التراث الغرْبي»، أمَا المحور الأَخير فقد جاء بعنوان «نظرية التفسير»، وهو ما يعكس لدينا فكره الفلسفى الأيديولوجى فى التغيير المعضد بترجمته المتميزة لكتاب 'سبينوزا' الشهير «رسالة فى اللاهوت والسياسة»، بالإضافة إلى عدد من الدراسات الأخرى فى الفلسفة الإسلامية والغربية منشورة فى كتابه «دراسات فلسفية».
وإذا كان أصحاب المشاريع التراثية من المفكرين العرب انطلقوا فى الغالب، إما من المباحث الإبستمولوجية أو تاريخ الأفكار، فإن حسن حنفى تميز بتجذره فى المنظور الفلسفي؛ وهو ما يعد مدرسة شديد الوعى بأهمية الأيديولوجيا فى توجيه وعى الناس ودفع تطلعاتهم العملية، إلا أن مرجعيته الأساسية انطلقت من تأويلية النص الدينى بالرجوع إلى "سبينوزا" والانفتاح على الفلسفات التأويلية المعاصرة، بما فيها جوانبها اللاهوتية (ومن هنا اهتمامه بلاهوت الثورة الكاثوليكى فى أمريكا اللاتينية)، بالإضافة إلى المقاييس الفينمونولوجية التى كان الاهتمام بها ضعيفاً فى الحقل الأكاديمى العربي،والذى تفرد فى عرضها وتقديمها،ومن اطلع على أطروحته الرائدة للدكتوراة بالفرنسية فى الستينيات حول تأويلية أصول الفقه من منظور فينمونولوجي، أدرك إعتناءه المبكر بهذا المنحى المنهجى الصعب،والواقع أن مشروعه الفكرى إستند فى العمق إلى هذا المسلك التأويلي، رغم حرصه على تبسيط أدواته النظرية، وإستخدام القنوات الصحفية العامة لنشره بين الناس.
إن الفكرة المحورية التى انطلق منها حسن حنفى هى أن تجديد التراث لا يمكن أن يتحقق بمنطق الانفصال عنه، سواء بمعنى القطيعة الإبستمولوجية أو بمعنى التجاوز التاريخي، وإنما يتحقق من خلال إعادة بنائه فى الوعى الجماعي، لقد ظل حنفى فى هذا التوجه وفياً لدرس "سبينوزا" الذى صاغ مشروعه الحداثى بلغة ميتافيزيقية كلاسيكية رغم سمته التنويرية الراديكالية، كما كان وفياً للمناهج التأويلية المعاصرة فى رفضها لفكرة تمديد الموضوعية العقلانية إلى المباحث الإنسانية التى تتحدد أساساً حسب معايير الاعتقاد والقناعة والتقليد. ولهذا الغرض وضع منهجه الثلاثى الذى طبّقه لاحقاً فى مشروعه الكثيف: بناء الموقف من التراث، وتحديد العلاقة بالآخر (ويعنى هنا أساساً الفكر الغربي)، ومعالجة إشكالات الواقع العملية.
ولا شك أن إسهام حسن حنفى الكبير فى الفكر العربى المعاصر يكمن فى الجبهة الأولى، أى ما دعاه بإعادة بناء علوم التراث والنص، سواء تعلق الأمر بعلم الكلام وأصول الدين (من العقيدة إلى الثورة: خمسة مجلدات) أو بالفلسفة (من النقل إلى الإبداع: ثلاثة مجلدات) أو أصول الفقه (من النص إلى الواقع: مجلدان)، بالإضافة إلى أعمال مشابهة فى علوم التصوف والسيرة والتفسير.
أما الجبهة الثانية فقد استأثرت بالعديد من أعماله الأكاديمية، وقد حاول تنزيلها فى علم جديد وضع مقدماته أطلق عليه «علم الاستغراب» كرد على مباحث الاستشراق الغربى -أى المقابل للاستشراق- فإذا كان الاستشراق هو رؤية الغرب (الآخر) للشرق (الأنا)، فإن علم الاستغراب يهدف إلى الإبحار فى الأنا من ميدان التخلف والتقليد إلى ميدان التقدم والإبداع ومنافسة الآخر. فلا شك أن د. حسن حنفى قد أدرك تمامًا أن إنتاج صياغة لعلم الاستغراب لا يمكن بلورتها إلا فى سياق جعله نقيضًا للاستشراق، فهو كان يرى أن الغرب قد أخذ دور الأنا فأصبح ذاتًا، وأعتبر (اللاغرب) هو الآخر فأصبح موضوعًا، وذلك فى الفترة التى شهدت صعودًا وتقدمًا للغرب على حساب الشرق، حيث جمع الغرب الحديث أكبر قدر من المعلومات عن المجتمعات الشرقية المستعمرة؛ لتصبح العلاقة بينهما علاقة الدارس بالموضوع المدروس،سعى د. حسن حنفى إلى تغيير شكل العلاقة ما بين الشرق والغرب، حيث رأى العالم الجليل أن الصعوبات التى تواجه علاقتنا مع الحضارة الغربية يتم إرجاعها دائمًا إلى موقفين تاريخيين فى علاقة الأنا بالآخر؛ يتمثل الموقف القديم فى علاقة حضارتنا بالحضارة اليونانية، والموقف الحالى فى علاقة حضارتنا أيضًا بالحضارة الغربية، حيث كان التحدى فى كلا الموقفين هو الغرب، لذا نجد أن د. حنفى لم يتوقف عند دراسة علاقة الشرق مع الغرب عند المرحلة الحديثة، بل سعى للوصول إلى جذور وأعماق هذه العلاقة التاريخية بشكلها القديم المتمثل فى العلاقة مع الحضارة اليونانية، باعتبارها نموذج الحضارة المبدعة التى يجب أن نحتذى بها ونعود إليها ونجح من خلال فكره فى تحجيم الغرب ووضعه فى سياقه النظرى والتاريخى المحدود، مستلهماً أطروحة "هوسرل" فى «أزمة الوعى الأوروبي»،إلا أن هذا الكتاب تعرض لنقد جذرى قد يكون هو سبب إحجام حنفى عن الاستمرار فى تطوير هذا العلم الذى حاول تأسيسه.
فى الجبهة الثالثة، كتب حسن حنفى كثيراً فى موضوعات وقضايا الساعة، وحاور مطولاً كل أقرانه من المفكرين والفلاسفة العرب، ولعل أشهرهم هو حواره الطريف مع المفكر المغربى محمد عابد الجابرى ؛حيث نجح فى إزالة اللبس حول العديد من المفاهيم؛ أكثرهم شيوعاً تناقض الدولة المدنية والإسلامية وقد أثبتت دراساته ومحاوراته أن التناقض بينهما وهمى ومفتعل، بل ربما كان محاكاة لإشكالية لها أصلها ووجودها فى حيز حضارى آخر غير الحيز الحضارى العربى الإسلامى الذى لا تناقض فيه بين الوطن والدين، بل هى أبعاد متكاملة يرفد أحدها البقية ويعززها. فكما أن الأوطان هى وعاء الإسلام وحاضنه الأمين، فإن الإسلام أيضاً يحض على وحدة الأوطان والذود عنها وحماية أمنها والذود عن وحدة شعوبها،أما الدولة المدنية التى نشأت غربياً فى مواجهة الكنيسة فكانت العدائية لسنوات طوال وتعارض المصالح واضح وصريح، ومن ذلك يتضح أن التناقض بين الدولة الوطنية والدولة الإسلامية هو تناقض غير مبرر، ولا أصل له فى النصوص.
سُئِل د.حسن حنفى عام 1994 خلال محاضرة له فى جامعة القاهرة -حول الاتجاهات الجديدة فى الفلسفة الفرنسية-، ما الذى تبتغيه من حياتك؟ وقد قال حينها؛ إنه يطلب من الله أن يمد فى عمره حتى يصل الثمانين لأنه يحتاج لهذه السنين من أجل إكمال مشروعه الفكري، ورُوى على ألسنة مُريديه وتلاميذه فى السنوات الأخيرة -وكان شديد الوهن والمرض- أنه قال: الآن أنا مستعد للموت بعد أن أستكملت المحطات الكبرى فى مخططى الذى أعلنت عنه فى كتابى الافتتاحى «التراث والتجديد»، وكان أوانها قد فرغ لتوه من كتابة مذكراته التى هى آخر إنتاجه.
رحم الله حسن حنفي، العالم الجليل صاحب الثقافة الواسعة والفكر المنفتح،عميق الانتماء، غزير الإنتاج عقلانى التحليل، هذا المصرى السوربونى الذى رفع رأسنا عالياً بسعة أفقه ورجاحة عقله واستبصاره للمستقبل فعلم الشرق والغرب.