الأربعاء 8 مايو 2024

حسن حنفي.. الفيلسوف الذي ضيَّع في «اليسار الإسلامي» عمرا

مقالات27-1-2022 | 10:33

يبدو أن عنصراً ما في نشأة الدكتور حسن حنفي قد أسهم في جانب كبير من تفكير الرجل، واحتل جزءاً لا يتجزأ من مشروعه الفكري الجاد، رغم اختلافنا معه، عنصر ما في هذه النشأة جعله يقف متمسكاً بالتراث ولو على حساب الناس والواقع، هذا العنصر كان لغزاً طوال حياة الدكتور حسن إلى أن فك هو بنفسه طلاسمه قبل رحيله بسنوات قليلة.

فقد كان من أبرز الاتهامات التي نالته من ناقديه أنه ارتكب خطأ فادحاً حين عَجَز ـ وهو أستاذ الفلسفة القدير ـ عن أن يمد خيط العقل على استقامته، ليمنح الطبقات الاجتماعية حقها الأصيل في أن تتبنى القيم الفلسفية التي تعبّر عنها، وأن تؤسّس هي المنهج الذي يُمثلها، لكن على العكس تماماً، آمن الدكتور حسن حنفي بأن هذه الطبقات الاجتماعية لا تستحق أن تختار، ولا يمكنها سوى أن تجلس ـ مثل الأرامل ـ واضعة يدها على خدها وهي في انتظار الفيلسوف "المُخلص"، الذي يهبط عليها من السماء، لكي يُلفّق لها منهجاً فلسفياً علوياً، لا يناسب الناس في هذه الطبقات، بقدر ما يُعبر عن الوعي الفردي للفيلسوف "المنظر" ووعي النخبة "الضيقة" المحيطة به، لكنه لا يمكن أن يكون منهجاً مناسباً للناس جميعاً، والأهم أنه لا يمكن أن يكون مناسباً للناس في مصر، أو في أي بلد عربي.

طبعاً كلنا يعرف أن حنفي هو أستاذ ورئيس قسم الفلسفة في كلية الآداب جامعة القاهرة لسنوات طويلة، مثلما نعرف ونقدر له أنه حاز درجة الدكتوراه في الفلسفة من "جامعة السوربون" برسالتين للدكتوراه لا برسالة واحدة، قام بترجمتهما إلى العربية ونشرهما: "تأويل الظاهريات" و"ظاهريات التأويل"، وكلنا يعرف ويقدر له أنه أعلن ـ مراراً وتكراراً ـ رفضه بإصرار لكل أفكار اليمين الديني المتشدد، وأنه اختلف مع جماعة "الإخوان المسلمين" واعترض على الهوية ذات المرجعية الدينية والعرقية والطائفية، طبعاً كلنا يعرف ذلك ويقرّه عليه، لكننا حينما نقرأ مشروعه الفكري سوف نكتشف أنه كمفكر لم يكن يستطيع أن يفارق خطأه المنهجي الرهيب، فهو يقدم منهجا لا يوجد له طبقات اجتماعية تمثله في الواقع السياسي المصري أو العربي، حيث ظلَّ عاجزاً عن فهم أن الأفكار والنظريات الفلسفية الكبرى تُنتج أولاً ـ وفي الأصل ـ من داخل أحلام الناس وآمالهم وآلامهم، كما لم يفهم أبداً أن الطبقات الاجتماعية هي التي يجب أن تنهض من سُباتها وأن تنتخب أفكارها الفلسفية الناتجة من تفاعلات واقعها أو من صراعها ـ بالأحرى ـ مع هذا الواقع.

لقد أفنى الدكتور حسن حنفي حياته الفلسفية في فكرة مليئة بالتناقضات هي "اليسار الإسلامي"، وعلى الرغم من المكانة العلمية المرموقة لأستاذ ورئيس قسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة القاهرة خلال عقود السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، حيث ظل يمارس دوراً تربوياً مقدّراً حتى رحيله عام 2021، إلا أنه ضيَّع على ما يبدو في فكرة "اليسار الإسلامي" عُمراً، من أجل الاعتناء بتنمية وتطوير أفكار أصولية إسلامية وتطويعها لكي تلائم التفكير العلمي الحديث وقيم العصر، بدءاً من سِفره الكبير "التراث والتجديد"، وكتابه الضخم "من العقيدة إلى الثورة"، مروراً بكتاباته وترجماته المهمة لسبينوزا، وحتى الاستشهادات الطريفة التي كنا نسمعها منه خلال لقاءاته المهمة في معرض القاهرة الدولي للكتاب في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي، حين كان يحاول أن يقرب فكرة اليسار الإسلامي إلى أذهان الجمهور، وقد كان يدلل على فكرته باسم أحد أشهر محلات ملابس المحجبات في "ميدان روكسي"، ويهتف ناظراً إلى جمهوره العريض محاولاً تبرير التناقضات الثقافية واللغوية في اسم هذا المحل قائلاً: "السلام شوبنج سنتر لملابس المحجبات.. تخيل!".

لقد لام مفكرون كثيرون على الدكتور حنفي هذا الحس التلفيقي في رؤيته الفلسفية، مثلما لاموا عليه أيضاً انشغاله بالتراث عما سواه، ومنح هذا التراث في شقه العربي الفصيح (الرسمي لا الشعبي) أدواراً واهتماماً يفوق في أحيانٍ كثيرة الحاجة إليه، لدرجة أنه يكتب في التراث والتجديد ما يعني أننا :"نعمل بقيم الفيلسوف العربي "الكندي" كل يوم، وأننا نتنفس "الفارابي" في كل لحظة، ونرى ابن سينا في كل الطرقات، وبالتالي يكون تراثنا القديم حياً يُرزق، يوجه حياتنا اليومية"، وهذه كلها طبعاً تعبيرات تحمل الكثير من المبالغة، فمن منا الذي يستطيع اليوم أن يتذكر "الكندي" أو "الفارابي" أو "ابن سينا"..؟

كنا نسأل أنفسنا دائماً ـ دون أن نعرف طريقاً إلى الإجابة ـ  لماذا اكتفى العالم الجليل الدكتور حسن حنفي برؤية الهرم مقلوباً ولم يشأ أن يرى أنه في الحقيقة يمنح الماضي قدراً أكبر مما يستحق على حساب الحاضر والجدل المستمر مع الواقع، لم يصدق أنه كان يمنح التراث قيمة تبدو "مفارقة" وعلوية وخارج الزمان والمكان، وأنه يمنحه قيمة أعلى بكثير من دوره في الواقع المعاش، حين بات الإنسان مفتوحاً على العالم بالصوت والصورة، ولم يعد التراث العربي أو الإسلامي يشكل المكوِّن الوحيد لوجدان الإنسان العربي المعاصر، الذي بات يمكن للبعض فيه أن يحيا على صفحات التواصل الاجتماعي وأن يرتبط وجدانياً بتراثات كثيرة في العالم، وأن يدرس لغات متعددة ويعشق تراثها الغنائي والشعري.

 وبالتالي ظل الدكتور حسن حنفي يمنح التراث العربي دوراً في تغيير الأوضاع السياسية القائمة، على الرغم من أن العكس هو الصحيح غالباً، وهو أن تغيير الأوضاع السياسية القائمة هو الذي يؤدي ـ بالضرورة ـ إلى تغيير النظرة إلى التراث. 

كنا نحن محبي الدكتور حنفي لا نستطيع أن نفهم لماذا اكتفى برؤية الهرم مقلوباً هكذا، واعتبر في كتابه "التراث والتجديد" أن تجديد التراث هو الحل الأمثل الذي تنطلق منه كل حلول العالم الثالث المسلم، لأن تجديد التراث من وجهة نظره يخلص الثوري من "طلاسم القديم" و"العُقد الموروثة"، واضعاً "تجديد التراث" في مرتبة عالية جداً، فاعتبره كفيلاً بالقضاء على "معوقات التطوّر والتنمية" هكذا، ومنحه مرتبة أعلى حين اعتبره التمهيد لكل تغيير جذري للواقع، لافتاً إلى أن "تجديد التراث" هو السبيل الوحيد للقضاء على "أرواح الأسلاف" التي تحتفظ لنا بكل ما في تراث الأجداد من عيوب ومعوّقات.

ثم سرعان ما تبين أن أفكار فيلسوفنا الراحل بخصوص "اليسار الإسلامي" لم تكن تُنبت سوى في حقول غريبة، ولم نكن نعرف السبب، إلى أن قرأنا حواراً مُهماً ولافتاً للدكتور حسن حنفي مع "مجلة  الفيصل" السعودية، عدد نوفمبر ديسمبر 2018، أجراه الشاعر الكبير محمود قرني، قدم لنا فيه ما يمكن أن نعتبره مفتاحاً مهماً لشخصيته وتفسيراً للكثير من أفكاره وتناقضاته، فقد تبين أن الدكتور حسن نشأ في ربوع جماعة "الإخوان المسلمين" في منطقة "باب الشعرية" بالقاهرة، وأنه زامل مهدي عاكف "مرشد جماعة الإخوان الأسبق" جزءا من شرخ الشباب، واعترف حنفي أن فكرته "اليسار الإسلامي" التي لم تجد لها من يستمع إليها في مصر والبلاد العربية قد أنبتت في "ماليزيا" ودول آسيوية أخرى، منها على سبيل المثال تركيا، وأنه كان أستاذا لرموز وسياسيين أتراك ممن ينتمون إلى الأحزاب الإسلامية، مثل أحمد داوود أوغلو السياسي التركي ورئيس وزراء تركيا السابق، والرئيس الثاني لحزب "العدالة والتنمية" في الفترة ما بين 2014- 2016، بل اعترف حنفي بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه جاء إليه واستمع إلى أفكاره، كما أثمرت قناعاته أيضاً في ماليزيا، بعدما تتلمذ على يديه مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابع.

طبعاً نحن لا نحمّل الفيلسوف الذي أراد أن يعقد صلحاً بين العمامة والطربوش أوزارَ تلميذه مجرم الحرب "أردوغان"، الذي أراد بدوره أن يعقد صلحاً بين الادعاء بالانتماء إلى الغرب الأوروبي للحصول على مكاسب اقتصادية من ناحية، ومد يد العون من الناحية الأخرى للجماعات الإسلامية المتطرفة وتمويلها بالسلاح والذخيرة والعتاد لكي تحقق له مشروعه الاستعماري التوسعي، في كل من العراق وسوريا وليبيا، طبعاً لا يتحمل الفيلسوف مسئولية كل ذلك، لكننا أردنا فقط أن نذكر البعض بأن جزءاً من خطايا التلاميذ ينبت ـ في الأصلِ ـ من الأخطاء النظرية القاتلة لبعض الفلاسفة.

Egypt Air