السبت 18 مايو 2024

مواجهة الحب والخيانة والشيخوخة في «الأحذية الإيطالية» لـ هنينج مانكل

غلاف الرواية

ثقافة4-2-2022 | 23:04

محمد الحمامصي

بعد خمسة وعشرين رواية، حققت له مكانة عالمية كواحد من أهم كتاب رواية الجريمة في العالم، من بينها سلسلة روايات الغموض والجريمة التي ابتكر لها بطلا هو شخصية المفتش "كورت فالندر" من مركز شرطة مدينة ايستاد، الواقعة بمحافظة سكونه جنوب السويد، يكتب الروائي السويدي هنينج مانكل روايته "الأحذية الإيطالية" خارج هذا الإطار الذي أخذ شهرته منه، حيث يقدم رواية مدهشة وفريدة مفعمة بحزن تجليات ومفردات الحيوات الإنسانية، كل شخصية من شخصيات الرواية غريبة وفريدة من نوعها وتحمل قدرات رائعة. إنهم موجودون في الجزر والغابات وأحيانًا في ساحات السياسة العالمية.

الرواية التي ترجمها عن الفرنسية كل من أيف كادوري وحازم عبيدو وراجعها كاظم جهاد وصدرت عن مشروع كلمة بأبوظبي، تشكل قصة حب وخيانة وشيخوخة، بطلها فريدريك الرجل مسن، والجراح المتقاعد قبل الأوان، يعيش في كوخ صغير وحيدا في جزيرة مهجورة في الأرخبيل السويدي في صمت شديد مع كلبه وقطته، وروتينه اليومي الذي يُجرده تمامًا من الاتصال البشري، يحمل سرا وأسئلة بلا إجابة وأخطاء لا يستطيع تصحيحها.

ذات صباح شتوي بينما يمارس عادته اليومية بالاستحمام في البحر، حيث يقوم بعمل ثقب في الجليد ليغطس. كان على وشك أن يغطس في البحر، حين رأى امرأة تقترب من فوق الماء المتجمد. كلما اقتربت أكثر، أدرك أنها آرييت المرأة التي أحبها ذات يوم، لكنه تركها منذ أكثر من ثلاثين عامًا.

لقد تغيرت حياة فريدريك بأكملها منذ ذلك الصباح، كل ما تركه وراءه من أخطاء وخيانات تظهر الآن على السطح، ليصبح في مواجهة معها كونها لا تتعلق بشخصه بل بأناس غيرت حياتهم، فـ "آرييت" مريضة بالسرطان على وشك الموت، وجاءت للبحث عنه لتطالبه بالوفاء بالوعد الذي أعطاها إياه ذات يوم.

تجبره آرييت على الوفاء بوعده بأخذها إلى نورلاند - وفي الطريق يعرف أن لديه ابنة منها، وسوف يزورانها. وهنا يبدأ فريدريك في مواجهة ماضيه، حيث يبدأ في تبرير عيشه هكذا وحيدا في كوخ قرب البحر: لقد أجرى عملية جراحية على الذراع الخطأ لامرأة شابة مصابة بسرطان الهيكل العظمي. الصدمة والشعور بالذنب والخزي كبيرة لدرجة أنه لا يستطيع التفكير فيها أو التحدث عنها أو حتى تذكيره بها من خلال قربه من أشخاص آخرين.

إن حياته سلسلة من الأخطاء. كطالب طب شاب، لم يكن عليه أن يتخلى عن مساعدة متجر الأحذية آرييت، لأنه الآن بعد أن بلغ 66 عاما، يبدو أنها الحب الوحيد العظيم والصادق في حياته. لم يكن عليه أن يدع الخوف من أن يصبح مثل والده، يؤدي إلى نهاية العلاقة بينهما. كان عليه أن يهتم في الوقت المناسب بما جعل أمه "شديدة الحساسية" تبكي دموعا معطرة باللافندر ساعة بعد ساعة. وما كان ينبغي له أبدا، بعد أن ارتكب خطأ قاتلا كجراح، أن ينسحب من العالم إلى الجزيرة الصغيرة المعزولة، لم يكن عليه أن يكرس حياته للهروب من كل شيء وكل من جاء إليه أو استطاع الاقتراب منه.
 

يرى د.كاظم جهاد في مقدمته للرواية أنها من بين أبرز ما كتبه مانكل من روايات غير البوليسية، ويقول "هنا يبرز شغفه في التعبير عن مآس تتقاطع ويضئ بعضها البعض، وينجم عن تقاطعها وضوح بصيرة كبير. طبيب سابق يعيش منعظلا في جزيرة معزولة، مغزوة على الدوام بالجليد. تأتي لزيارته رفيقته السابقة التي لم يكن رآها منذ عقود من السنوات. تأتي زاحفة وقد سقطت من عكاز رباعي كانت قد دأبت على استخدامه منذ فترة. هي مصابة بالسرطان وجاءت لرؤيته قبل أن تشهد نهايتها. ثم تعرفه على ابنته منها، التي لم يكن رآها قط، إذ كان قد هجر رفيقته قبل ولادة ابنتهما. ينتعش وجوده من جديد بحمية ابنته ونزعتها الاحتجاجية واهتمامها بقضايا العالم، وبفلسفة رفيقته التي تتهيأ لملاقاة الموت بشجاعة وانفتاح. فيروح بعد وفاتها يعيش ما بقي له من العمر بالانفتاح ذاته.

ويشير إلى أن الرواية لا تخلو من نظرة على عالم الغرباء والمهاجرين، إذ تصور لنا في بعض فصولها نضال مساعدة اجتماعية تعمل على إعادة تأهيل بعض الشبان المهاجرين الجانحين. هي نزعة إنسانية سخية يخطها مانكل في مواقف وأفكار شديدة التفرد، وبسيطة في آن معا، لا تخلو من دعابة تمنع عمله من السقوط في سوداوية أو احتجاجية إعلانية وشعارية كان سواه سيسقط فيها.

ويؤكد جهاد إنه عمل مكتوب بتقشف في الأدوات، يتمسك بالوصف الموضوعي، بلا زيادة ولا زخارف ولا انفعال. كل حدث هو شذرة دالة على حياة معيشة بنباهة عالية وشبه تقديس لأدنى التفاصيل، لأنها في الحقيقة فسحة متأخرة أو أخيرة من الحياة قررت الرفيقة السابقة المشرفة على الموت والمنبثقة من غياهب النسيان، ورفيقها الذي عاود ملاقاتها، أن يعيشاها حتى الثمالة، مستمدين من هذا القرار الوجودي الحاسم قوة إضافة تمكنهما من مرافقة ابنتهما وشخوص فتية أخرى في اندفاعاتها الخلاقة وحركيتها الفائقة. فإذا بالأجيال يصحح بعضها البعض، والخلف يغير تصورات السلف ويهبه نافذة جديدة وغير متوقعة على العالم وعلى الحياة.

مقتطف من الرواية

عبر المنظار، بدا وجهها كما لو أنه يرتمي لملاقاتي، عرفتها، إنها آرييت.

آخر مرة رأيتها فيها كانت منذ أربعين عاما تقريبا، رغم ذلك عرفتها على الفور، آرييت هورنفلد. المرأة التي أحببتها في الماضي أكثر من أي امرأة أخرى.

كان ذلك في مطلع شبابي، بعد أن أصبحت طبيبا، أمام دهشة أبي الكبيرة وفخر أمي المفرط، نجحت في انتزاع نفسي من الفقر. وكانت قد مرت عليّ بضع سنوات وأنا أزاول مهنتي، أقيم في ستوكهولم، كان ربيع 1966 رائعا، والمدينة في حالة غليان. كان هناك شيء ما يتهيأ، وكان جيلي قد تمكن من كسر الحواجز، وفتح أبواب المجتمع بشكل واسع فارضا التغيير. كنا معتادين أنا وهي على التسكع في المدينة بعد انهزام النهار.

تكبرني آرييت ببضع سنوات. كانت تعمل في محل لبيع الأحذية، ولم يكن ليرد في ذهنها إكمال دراستها. كانت تقول أنها تحبني، وأنا أردد أني أحبها؛ كنت أوصلها إلى غرفتها الصغيرة التي استأجرتها في هورنزغاتن، وكنا نمارس الحب على سرير كنبة كادت تنهار تحت ثقلنا أكثر من مرة.

بإمكاننا القول إن ما جمعنا تلك الأيام هو وله عارم. رغم ذلك خنتها. أعطتني جامعة كاروليينسكا أنستتيوت للطب آنذاك منحة من أجل دورة تدريبية في أمريكا. وكان عليّ الطيران في الثالث والعشرين من مايو إلى أركنساس والبقاء هناك عاملا كاملا. هذا ما أخبرت به آرييت. لكن الطائرة المغادرة إلى نيويورك عن طريق أمستردام، كانت رحلتها في الحقيقة في الثاني والعشرين من مايو.

حتى أني لم أودعهل. اختفيت هكذا بمنتهى البساطة.

وطوال ذلك العام في أمريكا، لم أمنحها أية إشارة تدل على وجودي. لم أعرف عنها أي شيء ولم أكن أريد معرفة شيء. كنت أستيقظ في بعض الأحيان بعد أن أراها في نومي منتحرة. أنبني ضميري، ولكني لم أعدم الوسائل الكفيلة بتخديره.

وروريدا رويدا غابت آرييت عن بالي.

لدى عودتي إلى السويد، حصلت على وظيفة في مستشفى لوليا. ودخلت حياتي نساء أخريات. ولكن في بعض الأوقات وخصوصا حين أشعر بالوحدة أو أكون ثملا، يحصل أن أفكر فيها وأقول لنفسي إنه ينبغي عليّ معرفة أخبارها، لمعرفة ما حدث معها فقط. عندئذ أتصل بالاستعلامات وأسأل عن رقم آرييت كرستينا هورنفلد. ولكني دوما كنت أغلق الخط قبل أن أزود برقمها. لم تكن لديّ الجرأة لمقابلتها، لم أكن أجرؤ على اكتشاف الحقيقة.

وها هي على الجليد أمام بيتي.