أليس القادم من هناك هو أستاذنا إبراهيم حجازي؟ استغفر ربك..الرجل في رحاب الله.. أليس الجالس هناك وسط هذه المجموعه من الصحفيين والإعلاميين هو الأستاذ إبراهيم حجازي؟ كيف ذلك يا رجل؟ ماذا جرى لك.. الرجل عند ربه منذ أسبوعين!!
المشهد السابق تكرر في منتدى الشباب الأخير بصورة وبأخرى.. في ممرات الفندق الشهير وفي مطعمه وقاعاته ..بين جلسات المنتدى وبداخلها.. ربما كانت آخر مرة التقيناه فيها هناك.. بين جنبات المناسبة السنوية التي أوقفتها الجائحة الشهيرة.. هنا دارت الحوارات والمناقشات.. هنا كنا نلتف حوله.. بعد العودة للفندق في يوم حافل بالجلسات وحلقات النقاش ونبقى حتى العودة إلى الغرف والنوم لنلتقي في اليوم التالي.. كانت ابتسامته البريئة - التي بقيت على طفولتها رغم خطوط العمر التي زينت وجهه وزحفت على رأسه - تجذب العابرين وبعضهم يستحي أن يراها ويراه ولا ينضم إلى جلسته.. التي كانت تتمدد وتتسع لتتحول إلى ندوة بغض النظر عن المكان واتساعه ومدى استيعابه.. في قلب صالة طعام الفندق أو في حديقته ولكن الحقيقة المرة هذه المرة وبهذا المنتدى.. أن إبراهيم حجازي لم يعد هناك!
تساءلنا وقت إعلان خبر الرحيل.. وقد كان العارفين بتفاصيل الحالة يعرفون حجم الخطر ويتوقعون السطر الأخير في حياة الرجل العظيم وقلنا: ما سر كل هذا الحزن عليه؟ ليس عائلته وأسرته وأصدقاؤه ومحبوه ولا وتلاميذه وحدهم من يبكونه، إنما جمهوره ومتابعوه في كل مكان.. داخل وخارج مصر.. كثيرون رحلوا بينهم أسماء مهمة وشهيرة ومنهم من
أضحك الناس ومنهم من أبكاهم لكن لماذا هو وحده ومعه وعليه انهمرت الدموع وانفجر الحزن وخيم الصمت في كل مكان ! ربما جاءت الإجابة من كل صوب.. وعلى السنة العامة والمتخصصين.. لأنه في الصحافة كما في الإعلام.. قدم نموذجا نادرا وفريدا في الأداء المهني الرفيع والمتميز.. قليلون مثله من جمعوا في برامجهم بين المعلومة والتفاصيل.. وقواعد حاكمة لبرامجه وموضوعاته فلا اتهامات بغير دليل.. لا فضائح ولا تشهير ولا إثارة.. حتى مع أشد أعداء الوطن يطلق قذائفه بغير انزلاق إلى ما يضعف رسالته وأسلحته.. يفضح دون خروج عن القيم ويكشف دون أن يجرح أفراد الأسرة.. لا تجاوز يصدم المشاهد ولا التفاف حول السياق نتوه معه وتتوه معه الحقيقة.. لا شهوات شخصية ولا معارك خاصة ولا تصفية حسابات تحيل مساحتة المرئية إلى عزبة خاصة يتغلب فيها الشخصي على الموضوعي والخاص على العام.. بل ظل نموذجا للأداء الملتزم لا مؤاخذات ولا تحفظات!
كان إبراهيم حجازي مثال للتسامح إلا في حق الوطن.. وكيف يتسامح وهو المقاتل الذي حمل السلاح وقدَّم حياته لوطنه عن طيب خاطر لولا القدر الذي اختاره منتصرا ليكمل قتاله بوسائل أخرى.. بالكلمة المكتوبة بالصحافة، وبالكلمة المرئية المسموعة على الشاشات ظل فيها مدافعا شرسا عن وطنه يعرف عدوه كما يعرف معاركه!
في النقابة اختاروه عضوا بالمجلس وعند انضمامنا للنقابة كان الراحل الكريم ملء السمع والبصر.. رجل الخدمات الأول بلا منافس رغم تقديرنا لأدوار كل أعضاء المجلس وقتها.. كان الأعلى في الحصول على الأصوات بما يعكس حالة الإجماع النادرة في نقابتنا تحديدا.. هناك في بيته بالأهرام تجده.. وفي بيته بالنقابة تجده.. وعندما شارك في تأسيس بيت الصحفيين الجديد بناديهم النهري على نيل الجيزة كنا هناك نجده. وفي البيوت الثلاثة كانت قضاياه لا تتغير.. الرياضة والصحفيين وخدمة الناس.. الأولى لا منافس له فيها من حيث المصادر التي تأتيه بالمعلومات الصحيحة والدقيقة.. وفي الصحافة كان الشهم الكريم مع كل أبناء المهنة.. في الأهرام وخارجه.. وفي خدمة الناس حدث ولا حرج.. بل حدث دون أي حرج.. فالرجل كما لو خُلق من أجل هذه المهمة.. يقبل عليها وتقبل عليه.. يمارسها بحب لا بتكدير ولا باعتبارات الحرج والخجل من الآخرين.. ولم يكن بالأمر شبهة اعتبارات انتخابية أو كتل داخل الوسط الصحفي.. إذ أن أغلبها يتم لبسطاء غلابة لا صوت لهم في النقابة ولا عضوية!
قريب من هذا الكلام كتبناه عند رحيل الأستاذ الكبير وبعدها بساعات كتب على القماش الكاتب الصحفي الكبير الذي نذر نفسه للدفاع عن المهنة وأبنائها لذا لم نره مرة واحدة وبكل صراحة نقول يمدح أي شخص في العالم حيث يقول وهو يروي مختصر حوارات سابقة معه:
(يا أستاذ إبراهيم المشكلة إن زميلنا "ع" توفاه الله فجأة وهو يسكن بالإيجار فى الإسكان الاجتماعى والعقد هينتهى خلاص وليس لهم مورد رزق وما سنجمعه لن يحل المشكلة).. ويرد : حاضر!
وعلى الفور قام بالحصول على شقة مع سداد كامل ثمنها ودون ترك أى قسط عليها.. بل ومنح مبلغ للأسرة!
يا أستاذ إبراهيم "س" مطلوب له عملية فورا بـ 4500 جنيها ولا يتوافر هذا المبلغ!
ويرد: حاضر ثمن العملية كله عندى حالا!
يا أستاذ إبراهيم أرملة زميل صحفى كبير عايزة تحجز فى رحلة العريش وأنا هحجز لها!
يرد: (مستنى إيه احجز لها ولا تأخذ منها اشتراك واعفى أيضا الزملاء فى الصحيفة المغلقة التي يعمل بها من الاشتراك أيضا!)
رحم الله إبراهيم حجازي.. وأسكنه مع الصديقين والشهداء بفضل ما قدم وقد قدم الكثير.. وألهم أسرته ومحبيه كل الصبر..
وإنا لفراقك يا أستاذنا.. لمحزونون!
نشر في مجة الهلال عدد فبراير 2022