الأربعاء 1 مايو 2024

ويسألونك عن حسن حنفي!

أسعد سليم

ثقافة11-2-2022 | 17:53

أسعد سليم

يرى البعض أن الحضارة اليونانية هي حضارة العقل والحضارة الأوروبية حضارة العلم بينما الحضارة الإسلامية هي حضارة النص، قول قد يجانبه الصواب لكنه يشير بدرجة ما من الصدق إلى الأهمية القصوى للنص الذي حل محل العقل العربي مشكلًا تلالًا من النصوص الفرعية التي تحولت إلى تراث بفعل الزمن والكسل، هذا التراث الذي احتل كل جوانب حياتنا حتى أنه لم يبق متنفسًا ولو ضئيلًا للفكر .

من هنا انشغل العديد من المفكرين العرب بدراسة هذا التراث ومحاولة إيجاد طريقة للخروج من هذا المأزق الذي جعل حضارتنا ترزخ تحت نير التقليد والمحافظة والانفصال عن الواقع والتطور.
وواحد من أهم تلك المشاريع إن لم يكن أهمها هو مشروع المرحوم المفكر والفيلسوف د.حسن حنفي ( 1935-2021) المعروف بالتراث والتجديد.

فالتراث من منظور د.حسن حنفي ليس معتقدات مقدسة مغلقة ولا هو بناء صوري شكلي ولا هو مخطوطات ومنشورات ودوائر معارف، التراث هو المخزون النفسي عند الجماهير، هو تمركز الماضي في الحاضر والسيطرة عليه، فيتحول إلى سلطة في مقابل سلطة العقل، وتبدأ سلطة التراث في تملك حياة الأفراد والمجتمعات فتقدم للإنسان تصوراته عن العالم وتوجهه نحو التصرف بسلوك معين محكوم بقيم ومفردات الماضي وتنفي الواقع والحاضر فتغيب الرؤية للمستقبل.
التراث يصبح بديلًا للواقع فيتم الخلط بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، فالتراث ملزم ومشروع وقادر على احتواء كل شيء خارجه، هكذا يسيطر ويتحكم في الدول النامية التي لا تملك حاضرًا باهرًا فتتقوقع داخل ثنايا تاريخها الماضوي وتقوم بتأويله ولي عنقه واستنطاقه بما ليس فيه، فيصير التراث حينها هو الذات والموضوع، الأنا والغير، الروح والمادة، مغلق على نفسه لا يمكن النفاذ إليه.

ويرى حنفي أن مكونات التراث ليس الدين فقط، بل إنه تكاثر وضم إليه كل ما هو موروث وشعبي، كل ما هو مقدس ودنيوي، يتداخل فيه الصحيح والموضوع، التاريخي والأسطوري، المروي والخيالي، يخزن كل ذلك في اللا شعور الجمعي للأمة ويستبدلون به الله.
فالتراث إذن ليس هو الدين بل هو جزء من الدين، وهو ظاهرة حضارية ثقافية يتم تشكيلها في الزمان والمكان وبفعلهما، ولذلك ليس كل ما هو تراث دين. ولذلك عمد مشروع حنفي إلى إعادة قراءة التراث العربي بهدف تجديده وجعله متماشيًا مع الواقع بمعنى عصرنته، وليس معنى ذلك أن القراءات القديمة خاطئة أو أن القراءات المستقبلية له غير واردة، لكن الخطأ هو ما نعيشه الآن بقراءة التراث من المعاصرين بنفس الذهنية القديمة التي أنتجته.

لقد قسم حنفي المتعاملين مع التراث لثلاث فئات؛ الأولى هم تيار التقليد والمحافظة أي التيار السلفي الذي يتمسك بالتراث بحذافيره وبجذوره دون محاولة فهمه أو تأويله ودمغ أي محاولة لتجديده بالكفر والعلمنة، والتيار الثاني هو تيار الحداثة أو التيار العلماني الذي يرفض التراث بالكلية ويستبدله بالثقافة والفكر الغربي ويقوم بعمل قطيعة معرفية مع التراث ومهاجمته ووصم التيار السلفي بالرجعية والتخلف، بينما التيار الثالث هو التيار التوفيقي أو التلفيقي الذي يأخذ من التراث ما يدعم مصالحه الشخصية أو الأيديولوجية.
لذلك يقوم مشروع حنفي الرئيسي "التراث والتجديد" على عدم السماح للتراث أو العصر بالسيطرة المنفردة على عملية التجديد، إن نقطة انطلاق المشروع الرئيسية هي التراث ولكن ليس المقصود بتجديده هو المحافظة عليه وعلى أصالته بل المحافظة على الثقافة الوطنية وتأصيل الحاضر ودفعه نحو التقدم، وقلب الهرم الاجتماعي من خلال ثورة فكرية.

ويغطي التراث والتجديد لفيلسوفنا ميادين ثلاثة:
١- تحليل الموروث القديم وظروف نشأته ومعرفة مساره في الشعور الحضاري.
٢- تحليل الأبنية النفسية للجماهير ومعرفة علاقتها بالموروث القديم والأوضاع الاجتماعية الحالية.
٣- تحليل أبنية الواقع ومعرفة مدى نشأتها من الواقع ذاته أم أنها ناشئة عن الأبنية النفسية للجماهير الناشئة بدورها عن الموروث القديم.

ولذلك فالتراث والتجديد يريد الانتقال من دراسة علم الاجتماع المعرفي إلى تحليل سلوك الجماهير، أي من العلوم الإنسانية إلى الثقافة الوطنية، ومن الثقافة الوطنية إلى الثورة الاجتماعية والسياسية.
فالفصل بين الله والإنسان قديمًا في قضية التوحيد كان له ما يبرره بينما في واقعنا المعاصر يجب ربط الإنسان بالأرض وبمصالحه المباشرة، فسيطرة الفكر الأشعري لمدة تزيد على العشرة قرون كان إحدى معوقات العصر آنذاك لأنه قام على التصور العمودي للعالم، لا التصور الأفقي الذي جعل البديل في فكر المعتزلة والذي بلغت بوجوده الحضارة الإسلامية أوجها وعظمتها، لأنه كان الخيار الذي يناسب متطلبات ذلك العصر والمعبر عن حاجاته، ولذا فالتراث والتجديد يطرح كل الخيارات والبدائل على الطاولة جديدها وقديمها لمناقشته والوصول إلى الفكرة المناسبة التي تلائم عصرنا وواقعنا.

لقد خاض حنفي حربًا ضروسًا من أجل أنسنة التراث، فالوحي لا جدال أنه إلهي من ناحية لكنه في الوقت نفسه إنساني من زاوية أخرى من حيث فهمه وتشكيله للواقع، ولذلك يقر حنفي بضرورة فهم الوحي فهمًا بشريًا مواتيًا للعصر وملائمًا للواقع الذي نحياه، والنص القرآني ذاته لابد لنا من قراءته قراءة واقعية نستخرج منه الدلالات الراهنة لا الماضية والتي يمكن البناء عليها لاستشراف المستقبل.

اتبع المفكر حسن حنفي المنهج الظاهراتي الفينومينولوجي لتحليل النص الديني والتراث باعتباره منهجًا ينزل بالمتعالي إلى الأرض وينتقل بالعصر الحالي من مرحلة التمركز حول الله أي المرحلة القديمة إلى التمركز حول الإنسان وهي المرحلة الحالية، ويصبح الإنسان حينئذ هو الفاعل المتدخل في حركة التاريخ والقادر على تطوير واقعه، إن تجديد الخطاب الديني هو إعادة اكتشاف الذات وفق شروط الوعي العالمي الجديد المتميز بمناهجه المعرفية لا الأيديولوجية.

لقد استخدم حنفي المنهج الفينومينولوجي لتفكيك التراث من خلال مساءلة ومحاورة النصوص الدينية ليس بوصفها نصوص ماضوية بل بكونها نصوص راهنة حية عصرية، ويصبح عمق الحوار هو الذي يبعثها من رقادها، وتصير قراءة الحاضر ممارسة تأويلية تشترط تأويل التراث باعتباره أشياء وتصورات تعمل من خلال الشعور ولا تأخذ معناها إلا من خلاله، بوصفه جملة عمليات تتداخل فيها التجربة الشعورية بالواقع.

ويرى حنفي أن اللغة لدينا قاصرة وعاجزة لأنها تشخيصية وتنزيلية لدنية، ولذا وجب تفجيرها لتجاوز القصور الشعوري وإعطاء المبادرة لوظيفة التأويل، فالألفاظ التي يقبلها العصر هي التي يجب استعمالها، ويجب أخذ العرف في الاعتبارات اللغوية، والمعنى العرفي جزء من معنى اللفظ عند علماء اللغة القدماء، ويعني ذلك تطويع اللغة في نشأتها واختيار ألفاظها إلى متطلبات الواقع حتى لا تقع في انعزالية الثقافة بصورية اللغة.
يبين حنفي أن المعاني مطلقة والألفاظ محدودة، ولا يمكن لألفاظ محدودة بحروف معينة أن تعبر عن معاني مطلقة، وهو ما يقودنا لإشكالية كبرى؛ حيث أن وجود الله مطلق بينما واقعنا المعاصر جزئي محدود، في حين أنه يتم التعبير عن وجودية الله المطلقة بلغة محدودة واقعية فكيف لإطلاقية وجود الله أن تستمر؟
واللغة الإلهية هي اللغة المثالية، ولكنها مع انصهارها في التطور الحضاري تلتصق بها معان جديدة ومتعددة على امتداد التاريخ، وقد تحيد عن معناها الأصلي، بل قد تتناقض معه وبالتالي يصعب الحفاظ على المعنى المقدس الأول، لذلك يفضل حنفي استعمال اللغة الأيديولوجية على اللغة الإلهية الدينية، فلفظ دين قاصر عن أداء المعنى المعاصر بينما لفظ أيديولوجيا قادر على القيام بوصف الدين ذاته.

ويظل المبتغى الذي استهدفه حسن حنفي من التجديد هو تحويل التراث من طاقة نفسية واجتماعية مشحونة داخل الوجدان الفردي والوعي الاجتماعي إلى حركة نهضوية فكرية وعملية سياسية واقتصادية تحرك التاريخ وتبني الحضارة.

ويبقي السؤال: هل أخذ مشروع التراث والتجديد حقه من المناقشة والمساءلة أم أننا اختصرنا المشروع في مساءلة الرجل ذاته ومحاولة تصنيفه كيساري أو إسلامي أو ناصري أو علماني؟ إنها آفاتنا الكبرى بترك المضمون والخوض في شكليات سطحية لا تسمن ولا تغني من جوع!

نشر في مجة الهلال عدد فبراير 2022

Dr.Randa
Dr.Radwa