الخميس 9 مايو 2024

حسن حنفي الفيلسوف الثائر

حسن حنفي

ثقافة11-2-2022 | 18:52

رانيا عاطف

يمثل المفكر والفيلسوف المصري الراحل الدكتور حسن حنفي حالة فريدة من نوعها على مدى تاريخ الفكر الفلسفي العربي والإسلامي بوجه عام، والفكر والثقافة المصرية بشكل خاص، وذلك لغزارة إنتاجه، وعمق أفكاره، وإضافاته القيمة للمكتبة العربية المعاصرة، فهو رائد التجديد وفيلسوف التنوير العظيم الذي تربع على عرش الفكر الفلسفي المعاصر حيًا وميتًا من خلال ما تركه لنا من نتاج فكري هائل.
      ذلك لأنه هدف من خلال فلسفته؛ إلى التحول إلى الحداثة الفكرية مع الحفاظ في الوقت نفسه على جوهر فكرنا العربي الإسلامي؛ وذلك من خلال تحقيق التوازن بين تراثنا العربي القديم والفكر الغربي والواقع المعاصر؛ حتى نتمكن من خلال هذا التوازن من مواجهة تحديات العصر، ووقف حركات التطرف الشديد في رفض ثقافة الغرب والدعوى إلى الانعزال التام عنه، ذلك في مقابل حركات التغريب والحث على الاندماج التام في الحضارة الغربية، وهذان التياران يمثلان خطرًا كبيرًا على العالمين العربي والإسلامي.
     كما هدف إلى نقل الفلسفة إلى الواقع، وإلى حقل المعرفة الشعبية، لأنّ الفيلسوف لديه يجب أن لا يعيش في برج عال بعيدًا عن تطورات العصر، بل عليه أن ينشغل دائمًا بمشكلات وقضايا عصره، وعليه أيضًا أن يعمل على تحرير المفاهيم الفلسفية من أجل الوصول بها للثورة من أجل التجديد، ورفع سُلطان القداسة عن مُفسرِّي النّصوص الدينية، والثورة التي يراها حسن حنفي هي ثورة عقل ووعي، ولذا فإنَّ كثيراً من كتبه تحمل مصطلح الثورة مثل "من العقيدة إلى الثورة" في أجزائه الخمسة، و"الدين والثورة في مصر" بأجزائه الثمانية، و"من النقل إلى الإبداع"، و"التراث والتجديد"، وغيرها مما يحمل مضمون الثورة والتجديد. 
     والثورة لديه أيضا تعني الإبداع والتجديد، والحوارات الدائمة النَّقدية مع الغير، وهذا ما جعل فكره وآراءه محلَّ جَدلٍ ونقاش دائم على الساحة العربية والإسلامية، وتلك سمة الشخصيات المؤثرة التي تُزعج من يضعون أنفسهم أمام باب السماء، وتُزعج الذين يريدون إبعاد العقل عن فهم النّص الديني فهماً يُواكب الحياة وينسجم مع الواقع، وبين أولئك تُوجد نخبة في الوسط ترفض سيادة حرّاس السماء، كما ترفض سلطان العقل وحده على أوَّليات الحياة، وهؤلاء لا يعترضون على حسن حنفي في إبداعاته، وإنَّما الإشكال الظاهري لديهم  في الموقف من التراث القديم وإعمال العقل معًا.
     وبالطبع لا مجال للحديث عن ثورة فكرية حقيقية تستطيع تحقيق أهدافها وتؤتي ثمارها المرجوة دون الحديث عن حرية هذا الثائر، إن مشكلة الحرية بمعنييها السياسي والاجتماعي هي مشكلة في غاية الأهمية، إذ كان لفظ الحرية قديماً يُقال في مقابل الرق، ولكن ليس المهم اللفظ فمعنى الحرية موجود في التوحيد، وتحرر الوجدان الإنساني من كل قيد في فعل النفي المتمثل في شعار -لا إله- ثم تأكيد شمولية القيم في فعل الإيجاب -إلا الله-، وهو موجود أيضا في العدل في إثبات الفعل الحر المختار المسئول كوسيلة لإثبات التفرد بعد التوحيد، "أنا حر فأنا موجود"، وقد قامت ثورات القرامطة والزنج والعبيد لممارسة الحرية الاجتماعية والسياسية وإن لم تستعمل اللفظ، وممارسة الحرية والوقوف أمام الظلم دون تبريره في الثقافة خير من البحث عن اللفظ وتحليل الألفاظ،  كما هو الحال في الوضعية المنطقية والمنهج التحليلي، كما أنه من الظلم البيِّن القول إن تراثنا لم يعرف السلطة المنتخبة من الشعب بل عرف نظام الخلافة، فالإمامة في تراثنا بنص الأصوليين عقد وبيعة واختيار وإن لم تتم صياغتها بألفاظ الفكر السياسي الغربي الحديث، فالقول إن مشكلة الحرية لن تجد لها حلاً في التراث ظلم للتراث وعدم معرفة كافية به.
     فإذا كان يرى الدكتور حسن حنفي أن أيّة نهضة للأمة العربية لابدّ من أن تنطلق من تراث الذات؛ وذلك لأنّ التراث لا يزال حيّاً في وجدان الجماهير وحياتهم، ولا يزال التراث القديم بأفكاره فاعلاً في حياتنا، ومن ثم فمن الضروري تجديد نظرتنا إلى التراث بإعادة تفسيره وفق حاجات العصر.
     والحقيقة عندما نحاول الحديث عن الدكتور حسن حنفي نجد أنفسنا أمام فيلسوف عربي موسوعي عرفه الغرب أكثر مما عرفناه نحن العرب، فقد ملأت مؤلفاته مكتبات العالم شرقًا وغربًا وجال جامعاته أستاذًا ومعلمًا، فهو الفيلسوف العربي الذي يملك مشروعًا فكريًا متكاملًا، وقد كُتبت عنه مئات الدراسات والمؤلفات إلا أنه لم يسلم من الاتهام والنقد من قبل قطاع كبير من المفكرين والمثقفين، فعلى الرغم من كثرة ما كُتب عنه فقد اخُتلف عليه.. فهو عند السلفيين ماركسي لأنه لا يستخدم سوى مناهج التحليل الاجتماعي، وعند الماركسيين سلفي لأنه يتمسك بالتراث الإسلامي، ووصف أيضًا بأنه مثالي هيجلي، وإلى آخر تلك الاتهامات التي وجهت له والتي نراها ما هي إلا محاولة لوضع هذا الفيلسوف في قالب بعينه لا يمكنه الخروج عنه، وإذا خرج عن هذا القالب أو الإطار المحدد رآه كل تيار منتميًا للتيار الآخر فيرفض فكره كاملًا، إلا أننا نراه فيلسوفًا عربيًا مسلمًا وجد نفسه محاصرًا داخل مثلثًا من ثلاثة أضلاع: الضلع الأول يمثل تراثنا العربي الذي أصبح بحاجة إلى تجديد حقيقي لكي يستطيع أن يواكب تطورات العصر، والضلع الثاني يتمثل في الثقافة الغربية بكل ما أتت به وأبهرت به العالم العربي لتجعل بعض مفكريه يدعون إلى الاندماج التام فيها والتخلي عن تراثنا الفكري تمامًا بدعوى أنه لم يعد مواكبًا لثقافة عصرنا، وأما الضلع الثالث فكان الواقع المباشر الذي نعيشه الآن.   
     نراه قد بدأ من التراث ولكنه لم يتوقف عنده فقد أعاد بنائه كما حاول دراسة واقع المسلمين ورعاية مصالحهم، وبالتالي فهو فقيه الأمة الذي أتى ليجدد لها دينها باجتهاده الذي هو أحد أصول مصادر التشريع نفسه، إذًا فهو ليس إلا واحدًا من المجتهدين الذين حاولوا ترسيخ مبدأ ضرورة قبول الرأي والرأي الآخر وهذا هو جوهر الدين الإسلامي، كما حاول أيضًا من خلال مشروعه تحويل الغرب إلى موضوع للدراسة كما جعلونا هم موضوعًا لدراساتهم، فهو فيلسوف لم يرد لنفسه أن يكون إما سلفيًا أو ماركسيًا وإنما استطاع كسر تلك القاعدة ليضع نفسه بمشروعه داخل إطار كذا وكذا أي الجمع بين التراث والتجديد لقد أخذ من التراث وأيضًا من الغرب واهتم بواقع المسلمين ومصالحهم. 
     إذًا من خلال النظر لهذا المشروع التنويري الذي بين أيدينا الآن وتلك الانتقادات التي وجهت لصاحبه، نرى أنه سيظل موضعًا للأخذ والرد حاضرًا ومستقبلًا نظرًا لعمقه وشموليته وسنظل نتساءل هل سيجود الزمان علينا بمثل عميد الفلاسفة ورائد التجديد والتنوير، "دكتور حسن حنفي"؟ وستترك الإجابة للزمان وحده، وإن كنا نعلم أن الزمان قلما يجود بمثله.


نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022

Egypt Air