الإثنين 25 نوفمبر 2024

ثقافة

جابر عصفور بين أسوار الجامعة والفضاء العام

  • 11-2-2022 | 20:18

طارق النعمان

طباعة
  • طارق النعمان

جابر عصفور سردية ثقافية كبرى، سيرة ومسيرة، ملحمة نقدية وفكرية خلاقة وممتدة، رحلة معرفية استثنائية في تاريخ الثقافة العربية، رحلة لم تتوقف لحظة منذ أن انطلقت ولا أحسب أن الموت حتى سيوقفها؛ إذ سيظل ما خلَّفه من فكر ونقد قادرًا دومًا على الحياة بعده، ومُلهمًا ومُولِّدًا ودافعًا للتفكير والتأمل والكتابة، ومن ثم سيعيش خطاب عصفور وسيحيا ليس فقط من خلال كتاباته التي ستظل حاضرة، وإنما سيعيش ويتوالد في تلك الكتابات المنفعلة بـكتاباته والمتفاعلة معها. 

لقد تخرَّج عصفور كما يعلم الكثيرون في العام الخامس والستين من قسم اللغة العربية وآدابها، في كلية الآداب بجامعة القاهرة، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وسجَّل رسالة الماجستير’’الصورة الفنية عند شعراء الإحياء فى مصر‘‘ مع أنبه وأخلص تلامذة طه حسين لقيمه، الراحلة العظيمة الأستاذة الدكتورة سهير القلماوي، ومن هذه الرسالة التي ناقشها في العام التاسع والستين، تولَّد موضوع رسالته للدكتوراة ’’الصورة الفنية فى التراث النقدي والبلاغي‘‘.
 ذلك أن من يراجع رسالة عصفور عن ’’الصورة الفنية عند شعراء الإحياء في مصر‘‘ سيجد أن ثمة مهادًا عاد فيه جابر عصفور إلى مفهوم الصورة في التراث البلاغي والنقدي؛ وهو ما يعني أنه لم يكتفِ بحدود الموضوع كما يُؤطِّرها عنوان الرسالة وأن هاجس التأصيل، الذي استمرَّ معه على مدار حياته كلها، والذي يمثل مكوِّنًا أصيلاً من مُكوِّنات خطابه النقدي، كان يُراوِده منذ ذلك الحين، ولذا تحول هذا المهاد أو التمهيد ليصبح موضوع رسالته للدكتوراه.
 وحين ناقش عصفور الدكتوراه عن ’’الصورة الفنية في التراث البلاغي والنقدي‘‘ عام ثلاثة وسبعين كان لم يبلغ بعد الثلاثين. ومع ذلك فقد تحوَّل عصفور منذ أن أصدر هذا العمل إلى أستاذ ومُعلِّم ومُوجِّه بشكل غير مباشر للعديد من أقرانه وزملائه وطلاب الدراسات العليا بداية من قسم اللغة العربية، في آداب القاهرة، وامتدادًا إلى معظم، إن لم يكن كل، أقسام اللغة العربية في مصر والعالم العربي، في مجال الدراسات البلاغية والنقدية.


 وأنا هنا لا أبالغ، ولنقصر الأمر هنا على تأثيره في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة؛ إذ لا يتسع المقام هنا لرصد تأثيره رصدًا تفصيليًا في أقسام اللغة العربية بالكليات والجامعات الأخرى داخل مصر وخارجها. وفي هذا الإطار نكتشف أن عددًا من أهم وأكثر الرسائل تميزًا في تاريخ هذا القسم كانت نتاج إشارات ثاقبة احتوتها رسالة جابر عصفور عن الصورة الفنية؛ إذ لا شك أن رسالة سليمان العطار عن الخيال عند ابن عربي استلهمت موضوعها من إحدى الإشارات الواردة في الصورة الفنية لجابر عصفور.
كما أن رسالة الراحل الحبيب نصر حامد أبو زيد ’’الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة‘‘ كانت أيضًا مُسْتَلْهَمَة ومُسْتَوْحَاة على نحو مباشر وصريح من الصورة الفنية، وتحديدًا من الفصل الثالث الخاص ببيئة المتكلمين. وكذلك رسالته للدكتوراه عن التأويل عند ابن عربي كانت مُسْتَوْحَاة هي الأخرى من الصورة الفنية وإشارات جابر الباكرة إلى ابن عربي، وكذلك رسالة الصديقة الراحلة  ألفت الروبي 2000 عن الصورة الشعرية في شعر بشار بن برد، ثم بعد ذلك رسالتها الرصينة للدكتوراه عن ’’نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين‘‘ والمُسْتَمَدَّة بدورها من الفصل الرابع من الصورة الفنية بعنوان بيئة الفلاسفة. 
ثم أخذت تتوالى الرسائل الخاصة بالصورة لدى الشعراء القدماء والمُحْدَثين سواء داخل قسم اللغة العربية بآداب القاهرة أو في دار العلوم أو في عين شمس والإسكندرية أو في بقية الجامعات الإقليمية، ثم العربية. 
بعبارة أخرى، لقد تحوَّلت الصورة الفنية والشعرية لتصبح صيحة وصرخة في مجال الدراسات الأدبية والنقدية، في مصر وكذلك في العالم العربي، وكل ذلك بفضل كتاب ’’الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي‘‘ الذي يمكن القول إنه كان فاتحة تحول في دراسة الشعر في الجامعات العربية؛ إذ أخذت تتوارى تدريجيًا بعد ظهوره عناوين رسائل من قبيل ’’فلان حياته وشعره‘‘، ليحل مصطلح الصورة في عناوين عشرات الرسائل المسجلة للماجستير والدكتوراه في أقسام اللغة العربية على مستوى مصر والعالم العربي.
 صحيح أن مصطفى ناصف كان قد أصدر كتابه ’’الصورة الأدبية‘‘ عام 1958 قبل أن ينشر عصفور كتابه بما يقرب من خمسة عشر عامًا؛ إلا أنه لم يُحدِث مثل هذا الأثر. كما أن هناك تلميذًا سوريًا آخر لسهير القلماوي، وهو الأستاذ الدكتور حسن نعيم اليافي كان أسبق من جابر عصفور في تسجيل موضوع عن الصورة بعنوان ’’تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث‘‘، وهي بالمناسبة دراسة ممتازة بمعايير وقتها إلا أنه لا كتاب ناصف ولا كتاب اليافي كان لأي منهما هذا التأثير الذي أحدثته صورة جابر عصفور، من إطلاق تيار في دراسة الشعر العربي والنقد الأدبي.
 وبهذا المعنى يمكن القول إن هذا الكتاب كان كتابًا مُلهِمًا ومولدًا لعشرات الرسائل والأبحاث والدراسات على امتداد مصر والعالم العربي. كما أنه يمكن القول إن عصفور أيضًا هو من وجَّه الصديق الراحل سيد البحراوي إلى دراسة البنية الإيقاعية سواء عند مدرسة أبوللو أو عند السياب من خلال تعريفه وإعارته كتاب كمال أبو ديب ’’في البنية الإيقاعية للشعر العربي‘‘.
 هكذا كانت أستاذية جابر تتدفق وهو لم يزل بعدُ مُدرِّسًا لم يحصل حتى على درجة أستاذ مساعد التي تُمكِّنه من الإشراف على الرسائل. بهذا المعنى كان جابر دومًا مصدر إشعاع وإلهام وتحفيز. وفي هذا السياق، يمكن القول أنه خلق حلقة داخل قسم اللغة العربية قوامها هو ونصر وألفت وسليمان، وسيد البحراوي لبعض الوقت، وبالتأكيد فإنها الحلقة والجماعة الأكاديمية التي جذبتني داخل قسم اللغة العربية، وشرفت بالانتساب إليها وإلى ما تمثله من قيم منذ أن عُيِّنت معيدًا في القسم، وقد كانت هذه الحلقة تحظى بالحضور الوارف  لكوكبة من الأساتذة الكبار ممن ينتسبون إلى تراث وقيم طه حسين، وأمين الخولي، سهير القلماوي ابنة طه حسين الأثيرة، وعبد العزيز الأهواني الذي يُهدي إليه عصفور كتابه الصورة الفنية رغم أنه لم يكن هو المشرف عليه وإنما سهير القلماوي، وعبد الحميد يونس، وعبد المحسن بدر، وعبد المنعم تليمة، ونبيلة ابراهيم. إلا أن ما أحدثته الحقبة الساداتية وما تلاها من آثار على الواقع المصري انعكس بدوره على قسم اللغة العربية الذي أبعد السادات ستة من أعضائه في سبتمبر 1981 كان من بينهم جابر عصفور ونصر أبو زيد، وعبد المحسن بدر، وعبد المنعم تليمة، وسيد البحراوي. وقد أخذ ينحسر تدريجيًا تأثير هذه الدائرة أو الحركة، نتاج ما أحدثته الحقبة الساداتية من تأثيرات في الفضاء الجامعي المصري؛ وبحكم ما أتاحه السادات من دعم للقوى الظلامية في رحاب الجامعة، سواء على مستوى الطلاب أو الأساتذة. وهو ما كان نصر حامد أبو زيد بعد ذلك ضحية مباشرة له، واضطره لمغادرة جامعته التي تَعَلَّم وعَلَّم فيها.
كما كان الموت والسفر يلعبان أيضًا دورهما في انحسار وانزياح هذه الحلقة وتَفَكُّكها، إذ أخذ الموت والسفر يختطفان كبار الأساتذة تباعًا الأهواني 1980، وعبد الحميد يونس 1988، وعبد المحسن بدر 1990، وسهير القلماوي 1997، ثم ألفت الروبي 2000، ثم نصر أبو زيد 2010، ثم عبد المنعم تليمة 2017، ثم سيد البحراوي 2018، ثم سليمان العطار 2020 وأخيرًا جابر عصفور الركن الأخير الذي كان آخر ما يحفظ لهذا القسم بعضًا من عبق وبهاء كل هذا التاريخ. 
وبهذا المعنى، فإن رحيل عصفور على الصعيد الأكاديمي تجسيد لرحلة فقد طويلة، ليس لمجرد أشخاص وإنما لقيم ومعانٍ ومدرسة علمية تأسَّست على قيم العقلانية والمنهجية والمعاصرة، وهو رحيل يُضْمِر أيضًا في ثناياه جزءًا من تاريخ مُؤسَّسة كان يُعوَّل عليها الكثير، مُؤسَّسة أهدى إليها جابر عصفور كتابه عن طه حسين ’’المرايا المتجاورة‘‘، هذا الإهداء البالغ الدلالة، والذي على ما أتصور كان يحمل حدسه الثاقب بما ستؤول إليه هذه المُؤسَّسة التي ما كادت تحلم حتى أخذت أحلامها تتداعى وتنهار، هذا الإهداء الذي نصه  ’’إلى الجامعة التي أنتمي إليها ...‘‘، وتحت هذه العبارة عبارة أخرى تحمل الكثير الكثير وتنسخ بكل تأكيد العبارة الأولى، وهي ’’إلى الجامعة التي أحلم بها‘‘ هكذا يعكس تراتب هاتين العبارتين، على الصعيد السيميوطيقي، وعلو العبارة الأولى على العبارة الثانية أي الجامعة التي ينتمي إليها على الجامعة التي يحلم بها على ارتفاع الجامعة الواقع على الجامعة الحلم، وكتم أنفاس هذه الجامعة الحلم، ناهينا عن المسكوت عنه في ثنايا تلك النقاط الثلاث من دلالات وما تحمله في ثناياها من معان ينطق الواقع بها، وللأسف فإن الجامعة الواقع هي التي نسخت الجامعة الحُلم. 

وأخذت تنطلق وتتوالى مقالات عصفور عن التنوير التي أسفرت بعد ذلك عن مجموعة من الكتب المهمة والتأسيسية ’’التنوير يواجه الإظلام‘‘، و’’محنة التنوير‘‘، و’’دفاعًا عن التنوير‘‘، و’’هوامش على دفتر التنوير‘‘، و’’أنوار العقل‘‘، و’’للتنوير والدولة المدنية‘‘، وسواها من المقالات والكتب الأخرى التي ظل هاجس التنوير يلاحقها ويلح عليها، والتي تستحق وتستأهل هي ذاتها العديد من القراءات والدراسات سواء في سياقها التاريخي الخاص، أو في إطار السياق التاريخي الذي تتناوله.
 ومنذ تلك اللحظة وحتى رحيله، لم يغب اهتمام عصفور بتنوير عقل الأمة والحركة عبر كل السُّبُل التي يمكنها أن تفضي إلى إنارة العقول. 
لقد ظل عصفور يمارس هذا الدور سواء من خلال مجلة فصول التي ترأس تحريرها لسبع سنوات سمان، أو في أمانته للمجلس الأعلى للثقافة الذي حوله من كيان بيروقراطي شبه ميت إلى مؤسسة ثقافية حية ومعاصرة تنبض بالثقافة والفكر والمعرفة من خلال عشرات المؤتمرات والندوات الدولية، واستضافة قامات عالمية بارزة من أمثال فيلسوف التفكيك الكبير جاك دريدا، أو في تأسيسه للمشروع القومي للترجمة؛ ثم بعد ذلك تحويل هذا المشروع القومي للترجمة إلى المركز القومي للترجمة، ولنلاحظ هنا دلالة ’’وصف‘‘ القومي ومغزاها، وهو ما ألهم بدوره بلدانًا عربية أخرى أن تُطلق مؤسسات أخرى للترجمة، أو في مقالاته وكتبه وترجماته، أو عضويته في المجلس القومي للمرأة، أو عضويته في لجنة الآداب والدراسات اللغوية بمكتبة الإسكندرية، أو ما أصدره من مخطوطات في فترة قيامه الوجيزة بأعمال رئيس هيئة دار الكتب، والتي لم تتجاوز أشهرًا معدودات، ومع ذلك أصدر خلالها مجموعة من دُرر المخطوطات من أبرزها مخطوط برسلاو من ألف ليلة وليلة. 
هكذا ومنذ أن كان جابر عصفور مُدرِّسًا وهو مُحرِّك أكاديمي وثقافي وفكري، لم ينقطع عطاؤه وإشعاعه، ونوره؛ إذ ظل يبث الطاقة والحركة والحياة والضياء في كل ما يلمسه فكره وعقله. ولا شك أن تأثير عصفور وفعاليته لم تنحسر في نطاق مصر وإنما كان له أيضًا حضوره البارز والفاعل على الصعيدين العربي والعالمي، سواء من خلال مشاركاته هو في عشرات المؤتمرات والمنتديات والمعارض والمحافل الثقافية العربية الكبرى، أو من خلال ما كان يقيمه هو في مصر من مؤتمرات وملتقيات دولية تشارك فيها قامات من أبرز القامات الثقافية العربية والأجنبية، أو من خلال زياراته المتكررة للعديد من الجامعات العالمية وعلى رأسها جميعًا جامعة هارفاد التي ظلت تحرص على مدار سنوات عديد لدعوته للتدريس بها لفصل دارسي كامل.
 وعلى الرغم من تعدد مهام عصفور العامة، وخروجه إلى الفضاء العام بكل هذا القدر من الفعالية والحضور، فإنه قد  ظل محافظًا على دوره كأستاذ جامعي من طراز فريد يمارس حضوره الأكاديمي بفعالية وتأثير لافتين.
وكنتُ من بين المحظوظين ممن تتلمذوا على يدي هذا المُعلِّم الكبير، سواء في مرحلة الليسانس أو في مرحلة الماجستير والدكتوراه، كما ربطتني به علاقة خاصة امتدت لأكثر من نصف قرن بحكم صداقته وزمالته لأبي في قسم اللغة العربية، ومن ثم فإن فقدي لجابر عصفور له خصوصيته الفريدة؛ إذ بقدر ما هو فقد عام، فإنه أيضًا فقد خاص، وخاص جدًا؛ إذ أنه ليس مجرد هذا الفقد للمثقف الكبير الذي كان يملؤ الدنيا بحضوره المتوقد الحي، وإنما هو إلى جانب كل هذا فقد للصديق والأستاذ والعم الذي لطالما سعدت بصحبته وونسه الإنساني الحميم منذ أن كنتُ طفلاً وحتى آخر مرة رأيته فيها وهو في المستشفى طريح الفراش، فعلى روحه السلام والرحمة جزاء ما منح لأمته المصرية والعربية من علم وفكر وعمل وحب ووفاء.    


نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022

أخبار الساعة

الاكثر قراءة