الأربعاء 24 ابريل 2024

رحلة إلى السودان

مقالات27-2-2022 | 13:11

فى رحلتى إلى السودان الأسبوع قبل الماضى حملتنا باخرة نيلية تتبع نادى البترول بدعوة من مضيفنا بعد أسبوع عمل لنرى النهر الخالد، وبدأت الرحلة فى اتجاه الحبشة حيث النيل الأزرق ثم عدنا قبل غروب الشمس لنرى تعانق النيل الأبيض بالنيل الأزرق قرب أم درمان، وأمعنت النظر جيدا..

فعلا هذا النيل أزرق وذاك القادم من أوغندا أبيض، ومؤكد ليس لأن هؤلاء من عرق أزرق وأولئك قلوبهم بيضاء، ولكن نظرا لعمق المنطقة، إذ يصل لأكثر من عشرة أمتار ومنطقة النيل الأبيض لا تزيد عن مترين فالطمى يعطيه اللون الأبيض.. وعلى الفور استدعت الذاكرة أغنية عبد الوهاب التى صاغها له أمير الشعراء أحمد شوقي "النيل نجاشي.. حليوة أسمر.. عجب لونه دهب ومرمر.. أرغوله فى ايده يسبح لسيده.. حياة بلدنا.. يا رب ديمه"..

فهل النيل نجاشى فقط.. أكيد لا.. ولكن شوقى أراد أن يربطه بذاك الرجل الذى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يأمر اتباعه بالهجرة الأولى إلى الحبشة تفاديا لبطش قريش.. "اذهبوا إلى الحبشة فان فيها ملك لا يُظلم عنده أحدا".. ما أجمل هذا الوصف من رسول الإنسانية برغم أن الرجل لم يكن مسلما.. وفى خطاب رسول الله عبرة وحكمة لكل المتشددين.. وسبحان الله الذى بدل النجاشى بحاكم آخر لا يحمل أياً من صفات ذاك الرجل، ومع هذا يهديه العالم المسيس جائزة نوبل للسلام، فيستخدمها كأنها رخصة للقتل والدمار واغتصاب حقوق الدول المجاورة.

 

واستمرت رحلتنا وأنا أرى الحليوة الأسمر والذى يصف به سمرة أهل النيل ربما أكثر من وصفه للنيل ذاته، وبرغم أن محمود حسن إسماعيل قال: "سمعت فى شطك الجميل ما قالت الريح للنخيل.. وأغصن تلك أما صبايا شربن من خمرة الأصيل".. ولكنى وبرغم كثافة الأشجار على جانبى النهر لم أر النخيل، وهالنى ما رأيت من تخريب إثر ثلاث سنوات من الثورة وعدم الاستقرار وقطع الطرق وتهدم الأرصفة والبلاعات بلا غطاء والتى ربما ابتلعت عشرات أمثال "ريان".. وعاد المشهد فلاش باك إلى ما بعد يناير ٢٠١١ فى بلدنا المحروسة وإن كان المشهد هناك ربما يكون أكثر ظلاما.. برغم العقول المتفتحة وذوى الرأى السديد الذين تبادلنا معهم الحديث والرؤى.

 الغريب أننى ونحن فى ضيافة أحد الأصدقاء فى استراحته (يعمل فى مفوضية الأمم المتحدة هناك وكنا نجلس فى حديقة الاستراحة) مساء وسألته عن الشجرة الضخمة التى تجاورنا، فقال لى إنها شجرة النييم.. فسألت باستغراب أنا أعرف ان هذه الشجرة تمنع الناموس ومع ذلك الناموس يحيط بنا واضطررنا لاستخدام دخان خاص لتطفيش الناموس...فقال لى لأن هذا الشارع الذى نسكن فيه كان يتم تنظيفه وغسله صباحا ومساء.. فاندهشت لان الشارع قد أصبح وكأنه من شوارع برلين فى الحرب العالمية الثانية... ولم افكر كثيرا وأنا أرد.. الحمدلله على نعمة مصر.. فقد اصبغ الله نعمته علينا بفيض كريم ومن لا يشعر بهذه النعمة عليه أن يزور أى من دول الجوار... ولكن فى خضم هذا الخلل الثورى ترى مبان فخمة وجميلة ووزارات ونوادى راقية.. واستغربت أن هناك وزارة للمعادن غير وزارة البترول.. وعلمت من مصدر شعبى أن السودان ينتج قرابة المائة وعشرين طنا من الذهب سنويا.. ولكن للأسف انه يتم تصدير معظمها بطرق مختلفة وملتوية ولا تحقق الاستفادة المرجوة... واتضح من المساحات الشاسعة والمياه الوافرة اننا أمام بلد أبسط ما يقال عنه أنه يمكن أن يكون سلة طعام الوطن العربى كله سواء من الزراعة أو الثروة الحيوانية....فعلا بلدة طيبة وشعب أطيب ورب غفور....وتمضى الرحلة مع وفد المنظمة العربية لحقوق الانسان لتقديم الدعم المؤسسى لكل القطاعات الحكومية والمجتمع المدنى للمساعدة فى بناء القدرات.. والتى صاحبها انفراجة كبيرة عمن تم احتجازهم على خلفية الاحتجاجات وكان ذلك بطلب من رئيس الوفد ورئيس المنظمة العربية.. كبادرة حسن نية حتى نستطيع توقيع بروتوكول التعاون واستمرار الدعم المؤسسي.

ولا يمكن ان نطوى صفحة الزيارة دون ان نذكر أن هذا الشعب الواعى والذى يحتسى السياسة مع اكواب الشاى التى ترى لها أركان بجلسات فى كل مكان سواء على ضفاف النيل أو فى الشوارع الرئيسية وغير الرئيسية..واللافت فيها أيضا أن جميع من يقومون بهذا العمل من السيدات..وعلمت أيضا انهم استطاعوا إشهار نقابة لهم إذ يصل عددهم لأكثر من ثمانية آلاف سيدة... وفى نفس السياق وانا اقرأ بعض الاخبار فى الصحف السودانية احزننى خبر أن هناك حوالى خمسة ملايين طفل سودانى يعانون من شبح الجوع بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية فكما أن للثورات وجه مشرق فإن لها ثمن فادح تدفعه الطبقات المهمشة والتى تعيش حياتها يوم بيوم وتقتات من فتات الايام..

ولكنى برغم ذلك على ثقة بأن الفجر لن يغيب وستقف السودان الشقيق على قدميها بجهود رجالها المخلصين وما اكثرهم.. وكم لمست فيهم حبهم الشديد والازلى لكل ماهو مصرى والأجمل انهم مؤمنين بوحدة الدم والتاريخ والمصير.

Dr.Randa
Dr.Radwa