السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

قراءة أخرى في الأزمة

  • 2-3-2022 | 12:14
طباعة

.. فى اللحظة التى تدوى فيها طلقات المدافع وتحلق الطائرات وتغادر البوارج موانيها معلنة بداية حرب كبرى يجب التأكد أن قبل الطلقات والتحليق والمغادرة كانت هناك أفكار صنعت سياسات ووضعت خططًا وأخيرًا تحركت الجيوش. 

يمكن أن نتفق مع سياسات الولايات المتحدة أو نرفضها لكن المؤكد أن هناك سياسات تمتلكها وكان وراؤها مدارس فكرية بها عقول خططت من أجل تحقيق مصالح الدولة الأعظم حتى لو كانت هذه المصالح وما يأتى وراءها من مكاسب للولايات المتحدة على حساب معاناة الشعوب لكن تبقى فى المرتبة الأولى المصالح ثم المصالح. 

عندما نتابع تداعيات الأزمة الأوكرانية فالنظرة الأولى تقول إن روسيا بوتين تحقق على أرض المعارك ما أرادته وسعت إليه طوال سنوات من استعادة هيبتها ومجالات نفوذها المفقود منذ انهيار الاتحاد السوفيتى فى تسعينيات القرن الماضى.

الحقيقة أن روسيا كدولة عظمى لم تحرك جيوشها وفق عملية غير محسوبة بل امتلكت هى الأخرى مدرسة فكرية يقودها المفكر الروسى ألكسندر دوجين صاحب النظرية الرابعة أو كما يطلق عليه فى موسكو دماغ بوتين، وأنتجت هذه المدرسة سياسات ووضعت  خططًا  حتى تتحرك على بوصلتها الجيوش.

على الضفة الأخرى كانت هناك مدرسة أمريكية تمتلك ترسانة من الأفكار تحولها إلى سياسات تسير عليها واشنطن وإداراتها الحالية وتعمل عليها انتظارًا للحظة المناسبة من أجل التنفيذ، فهذه المعارك الدامية التى تدور على الأرض سبقها صراع أكثر شراسة بين عقول لا تهدأ من أجل تحقيق المصالح، الغريب أن صراع الأفكار هذا ليس سريًا بل كان منشورًا فى كتب ودراسات لم تكن مكتوبة بلغة الشفرة بل كان أمام جميع العيون ولكنها عيون اعتادت على مشاهدة الحدث ولم تستخدم عقولها لمعرفة أسباب الحدث وحقيقته وتداعياته وإلى أى ميناء سترسو سفينة مصالح المنتصرين. 

عند قراءة الأزمة الأوكرانية ونحن نطل من نافذة المدرسة الأمريكية السائدة الآن فى واشنطن يجب أن نتوقف عند هذه المقولة " المصلحة الأساسية التى خضنا من أجلها حروبًا من الحرب العالمية الأولى إلى الثانية والحرب الباردة كان سببها العلاقة بين ألمانيا وروسيا فاتحادهما هو القوة الوحيدة التى يمكن أن تهددنا والمصلحة الأساسية للولايات المتحدة ألا يحدث هذا " يقف وراء هذه العبارة" المفكر السياسى والمؤلف جورج فريدمان مؤسس شركة ستراتفور للاستشارات السياسية والاستخبارية وحاليًا هو رئيس  Geopolitical Futures أو المستقبل الجيوسياسى وهى تقدم نفس الخدمات التى كانت تقدمها ستراتفور.

ألف فريدمان عددًا من الكتب منها المائة عام القادمة والعاصفة التى تسبق الهدوء التى تقدم أفكاره وفى نفس الوقت هو منتمى إلى مدرسة المفكر الاستراتيجى ومستشار الأمن القومى السابق زبجنيو بريجينسكى وبشهادة خصوم الأمريكان أو الروس فبريجينسكى هو أهم عقل استراتيجى أنتجته الولايات المتحدة، ويعتبر بريجينسكى هو المخطط الأساسى لتوريط الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان وفى حوار له قبل رحيله أجراه بريجنسيكى مع المجلة الفرنسية لو نوفيل أوبسرفاتور عام 1998، قال "الولايات المتحدة قبل دخول السوفيت إلى أفغانستان دعمت العناصر المعادية للسوفيت فى كابول حتى استفزت السوفيت ووقعوا فى الفخ ليدخلوا إلى أفغانستان بجيوشهم" ثم بدأ العد التنازلى لسقوط الامبراطورية السوفيتية، وعندما سُئل مرة أخرى عن حركة طالبان وأنها نتيجة لماحدث فى أفغانستان وأصبحت تهدد مصالح الولايات المتحدة ، أجاب ماهى طالبان إن طالبان أثر جانبى ألم تسمعوا عن انهيار امبراطورية تسمى الاتحاد السوفيتى كانت هى الخطر الحقيقى على الولايات المتحدة ، ولعل التلميذ فريدمان يطبق أفكار الاستاذ ولكن بدلا من الاتحاد السوفيتى فالآن روسيا الاتحادية.

بالعودة إلى مقولة جورج فريدمان حول الاتحاد الروسى الألمانى وتهديده للمصالح الأمريكية يجب أن نراجع التاريخ البعيد نوعًا ما والأحداث القريبة حتى نصل إلى ذروة الحدث أو الأزمة الأوكرانية الحالية، فهذا الاتحاد حاولت ألمانيا النازية فرضه بالقوة على روسيا فى الحرب العالمية الثانية عندما غزت الجيوش الألمانية الأراضى الروسية فى يونيو 1941 بقوات بلغ حجمها 4 ملايين جندى فى العملية التى أطلق عليها بارباروسا ، كان الهدف الأساسى لألمانيا النازية من هذا الغزو الاستيلاء على الموارد الهائلة التى تمتلكها روسيا وتفتقدها ألمانيا وعلى رأسها النفط والمساحات الشاسعة من الأراضى القابلة للزراعة غير الاطلالة على البحار المفتوحة التى تفتقدها ألمانيا، وكانت أوكرانيا وقتها ضمن حدود الاتحاد السوفيتى، بهذا الاستيلاء يصبح للتكنولوجيا الألمانية الأحدث فى العالم ظهيرًا من الموارد لا ينضب أو بمعنى آخر تتحول ألمانيا من دولة قوية إلى امبراطورية كبرى مهيمنة ومكتفية بمواردها. 

عقب هذا الغزو المفاجئ تحولت أمريكا زعيمة العالم الرأسمالى إلى أكبر داعم للاتحاد السوفيتى الشيوعى فمدت السوفيت بأطنان من الأسلحة والعتاد وكل مايحتاجه السوفيت حتى لا تسقط روسيا فى أيدى الألمان وتظهر فى الواقع هذه الامبراطورية المخيفة التى تمتلك رأسًا تكنولوجيًا ألمانيًا لامعًا و عضلات روسية جبارة من الموارد، واستمر سيل المساعدات الأمريكية إلى الاتحاد السوفيتى حتى دخلت الولايات المتحدة الحرب رسميًا عقب هجوم اليابان على قاعدة بيرل هاربر البحرية وانتهت الحرب بهزيمة ألمانيا النازية واختفاء فكرة الاتحاد بالقوة. 

لم تكتف الولايات المتحدة بهذا النصرعلى فكرة الاتحاد بالقوة  بل قام مكتب الخدمات الاستراتيجية أو جهاز المخابرات الأمريكية قبل تأسيس المخابرات المركزية بتنفيذ عملية "مشبك الورق" وكان هدف هذه العملية إحضار 1600 عالم ألمانى إلى الولايات المتحدة حتى لا يقعوا فى أيدى السوفيت وتبدأ الولايات المتحدة إنشاء حضارتها الحديثة على أيدى هؤلاء العلماء الألمان رغم أن أغلبهم خدموا فى الجيش الألمانى مقتنعين بالأفكار النازية ومنهم من ارتكب جرائم ضد الإنسانية ولكن فى لعبة المصالح هذا لايهم.

يكفى أن من بين هؤلاء العلماء "فيرنر فون بروان"عالم الصواريبخ الذى صنع لهتلر منظومة الصواريخ التى قصفت مدن أوروبا وقتلت الآلاف من الأبرياء، وغضت أمريكا الطرف عن هذه الجرائم لأن فون براون هو من صمم وأنشأ صناعة الصوايخ الأمريكية ومنها الصاروخ ساتورن الذى حمل رواد الفضاء الأمريكيين إلى القمر فى رحلة أبولو 11. 

فى فترة الحرب الباردة استطاعت الولايات المتحدة بمشروع مارشال إحياء ألمانيا التى احتلتها وجعلت ألمانيا الغربية هى الأغنى فى أوروبا وحليفتها الرئيسية، وفى نفس الوقت استفزت السوفيت حتى أجبرتهم على بناء حائط برلين فى 1961 وحاصرت الشيوعية وروسيا وراء الحائط حتى لحظة الانهيار والأهم أن العقل الألمانى أصبح حليف واشنطن وبعيدًا عن الروس. 

منذ وصل بوتين إلى الحكم فى روسيا المنهارة فى العام 2000 كانت عينه دائما تجاه برلين دارسًا بفهم للتاريخ الأوروبى وتحولاته بين السلم والحرب ويعلم جيدا أن قيادة أوروبا ثم تركيع الولايات المتحدة وإقصائها عن قيادة العالم لن يأتى إلا بالاتحاد بين الموارد الروسية والعقل الألمانى، وكان المفتاح السحرى الذى يمتلكه بوتين هو الغاز هذا المورد من الطاقة النظيفة الذى تفوق على البترول فى أهميته مع بداية وصول بوتين للحكم وكانت الصناعة والتكنولوجيا الألمانية متعطشة لهذه الطاقة متخلية عن مفاعلاتها النووية لتصبح روسيا مورد الطاقة الأول لألمانيا عن طريق خط غاز نورد ستريم 1. 

راقبت واشنطن هذا التطور فى ريبة ولكنها لم تعتبره خطرًا قد يؤدى للاتحاد الذى تخشاه وحاربت طوال قرن بألا يتم لكن مع بداية إنشاء خط نورد ستريم 2 الذى يصل مباشرة إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق تحولت الريبة إلى فزع مع شبه اكتمال الخط فى فترة إدارة ترامب، رأى ترامب وإدارته التى تنتمى مرجعيتها إلى مدرسة هنرى كسينجر، ووضح أثرها فى حركة ترامب وإدارته فى الشرق الأوسط من اتفاقيات ما سمى بالسلام التى تمت. 

تميل تطبيقات مدرسة كسينجر إلى العقاب ثم الاحتواء ــ كما حدث مع كوريا الشمالية ــ  فتم فرض العقوبات على كل من يشارك فى إنشاء خط نورد ستريم 2 لكن النواة الصلبة داخل الإمبراطورية الأمريكية لم تكن راضية عن إدارة ترامب وتطبيقات كسينجر مع هذا الخطر الذى يهدد الوجود الامبراطورى الأمريكى فكان لابد من التخلص من هذه الإدارة والمدرسة التى تتبعها واللجوء إلى إدارة ومدرسة أخرى لمواجهة خطر الاتحاد الروسى الألمانى الذى يلوح فى الأفق. 

وصل بايدن إلى البيت الأبيض وعاد معه تلاميذ مدرسة زبجنيو بريجينسكى الذين كانوا متواجدين وقت إدارة أوباما وهيأوا المسرح الأوكرانى للحظة التنفيذ للولا الفاصل الترامبى الذى أطاح بهيلارى كلينتون.

ترى مدرسة بريجينسكى أن الإرهاب وأفعاله لا يمثل خطرًا على الوجود الامبراطورى للولايات المتحدة ويجب التركيز على الأخطار العظمى فكان الانسحاب من أفغانستان، إن بقاء النفوذ الامبراطورى الأمريكى يعتمد دائمًا على وجود ثنائيات متضادة بين القوى التى تحاول تهديد الولايات المتحدة وبينهما دولة "الفتيل " التى تشعل الأزمة فيصبح التضاد بين روسيا / ألمانيا، الصين / اليابان، ليس على الولايات المتحدة أن تتورط فى الغضب أو تحارب بنفسها فلتترك الثنائيات تتصارع وتنفذ سياستها ، يجب تهيئة مسرح الصراع بالبروباجندا والحراك السياسى العنيف الذى يصل إلى درجة الاستفزاز و الثورات الملونة لتنشغل هذه القوى بصراعاتها وتأكل بعضها البعض. 

أول مافعله ثعالب بريجنيسكى وفى لقاء بين أنجيلا ميركل وجون بايدن أن تم رفع العقوبات عن خط نورد ستريم 2، ضحك قيصر روسيا من سذاجة الإدارة الجديدة ورأى حلم الاتحاد بدأ يخطو خطواته الأولى على الأرض ، لكن السبب الرئيسى فى رفع العقوبات مرجعه تطبيقات مدرسة بريجينسكى فلايجب أن تظهر الولايات المتحدة غضبها من شيء تخشاه حتى لا يتكتل ضدها رأى عام.

بعد فرض العقوبات على نورد ستريم 2 كانت ألمانيا بكاملها عدا قلة قليلة تريد أن تحقق مصالحها مع القيصر الروسى وتتحرر من الهيمنة الأمريكية لكن مدرسة الثعالب تريد أن تترك ألمانيا بنفسها تتخذ الخطوة وتعلم أن القيصر ماهو إلا دب روسى سيلتهم ألمانيا. 

المسرح الأوكرانى التى تم بناؤه فى عهد إدارة أوباما كان ينتظر العرض الرئيسى و أوكرانيا دولة "الفتيل" تنتظر الإشعال ليحترق حلم الاتحاد الروسى الألمانى وكانت ماكينات بروباجندا الغزو والحراك السياسى العنيف تعمل بكامل طاقتها حتى تحول الاستفزاز الروسى إلى فعل غزو ويرى الألمان حقيقة الدب الروسى ليعلنوا بأنفسهم إيقاف خط نورد ستريم 2 ولا يكتفون بذلك بسبب الصدمة بل تخرج ألمانيا عن حيادها منذ الحرب العالمية الثانية وترسل السلاح إلى أوكرانيا أى تشارك فى الحرب على روسيا وتقود أوروبا إلى حصار موسكو وتعيد الدب الروسى خلف الستار الحديدى من جديد وسط ترحيب الولايات المتحدة وثعالب المدرسة الأخطر. 

فى ديسمبر 1942 كان رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل فى مركز القيادة مأزوم بسبب الغارات الألمانية التى لا تتوقف على لندن ، دخل عليه أحد مساعديه وأخبره أن الولايات المتحدة دخلت الحرب ترك تشرشل كل شيء لينام قائلا لقد انتصرنا  ولم يكن تشرشل يتوقع أن العملاق الأمريكى الذى استيقظ سينهى على الإمبراطورية البريطانية، هل فعل بايدن نفس فعل تشرشل عندما علم أن ألمانيا دخلت الحرب ضد روسيا وأن الدب الروسى أصبح محاصرًا، لكن ألا يتوقع أن فى نفس لحظة حصار الدب فتح الباب الحديدى المسجون خلفه الذئب الألمانى منذ 77 عامًا.

الاكثر قراءة