العالم يحبس أنفاسه كل دقيقة، مخاوف وأسئلة عديدة، أنا وأنت في أوروبا وأمريكا وآسيا وروسيا والمنطقة العربية، نتنقل بين شاشات التلفاز، والمواقع الإخبارية، ومنصات التواصل الاجتماعي، تدمي قلوبنا صور الأطفال الهاربين من ويلات الحرب، لم أفكر لحظة في انتماءات الضحايا، إن معايير العدل والضمير واحدة، لا تختلف باختلاف العقيدة واللون والعرق أيها العالم الحر.
بينما كشفت حرب روسيا أوكرانيا عن الوجه الآخر لضمير العالم الحر المتحضر، عن الصورة التي يراها لخريطة العالم، "أرى أطفالا بعيون زرقاء وشعر أشقر.. إنهم أوروبيون مثلنا" كانت جملة تأتي بصيغ مختلفة على لسان مراسلين لوسائل إعلام ذات تاريخ مهني راسخ في عالم الصحافة العالمية، بل صنع بعضهم مقارنات بينهم وبين آخرين كانوا ضحايا أيضا لكنهم عرب من ذوي البشرة السمراء من أصل عربي، والذي يصنف باعتباره إرهابي حتى يثبت العكس، وتناسى هؤلاء إنهم في وقت ما دعم الغرب والولايات المتحدة أسامة بن لادن في مواجهة روسيا خلال صراع الطرفين في أفغانستان.
تصمت وسائل الإعلام الدولية أمام مشاهد قتل الأطفال في فلسطين المحتلة، بل في بعض الأحيان تبرر القتل بحجة دفاع كيان مغتصب لدولة فلسطين المحتلة عن نفسه بحجة الأمن القومي، وهي نفس وسائل الإعلام التي ترفع شعارات حقوق الإنسان بهدف الاستخدام السياسي لها، إنها المصالح التي تحكم هؤلاء، وهي نفس لعبة المصالح علي رقعة الشطرنج الآن، صراع بين القيصر الحالم باستعادة مجد روسيا القيصرية، والثعلب العجوز القابع في البيت الأبيض الراغب في الحفاظ علي نفوذ الولايات المتحدة التي تحكم العالم، ومعها أوربا العجوز، لكن المعركة تجري الآن علي أرض الغرب، ويدفع الثمن ضحايا من ذوي العيون الزرقاء والشعر الأشقر، وهنا للمعركة حسابات آخرى.
استمرار الحرب يكشف وجوه كثيرة لذلك العالم الحر، أمريكا تسوقها للعالم على أنها حرب علي الديمقراطية من جانب روسيا، والأخيرة تسوقها باعتبارها دفاعا عن أمنها القومي، وفي النهاية لا يحق لباقي دول العالم أن يقف على الحياد كلا الطرفين يتفق على أمر وحيد "من لا يقف معي هو في مربع الأعداء"، إنها مؤشرات حرب عالمية، القيصر يعلن تأهب قواته لاستخدام قوة الردع النووية، "ما قيمة العالم بدون روسيا؟" سؤال استنكاري جاء على لسان أحد مقدمي برامج التليفزيون الروسي عقب تلويح القيصر باستخدام السلاح النووي.
أصبح السؤال الآن هل نحن على أعتاب نهاية العالم؟!
أعتقد أنه من الصعب الآن الإجابة على ذلك السؤال، لكن ما يمكن الجذم به حاليا هو أن العالم يعاد تشكيل خريطة نفوذه من جديد، فلن نعود إلى مرحلة ما قبل صراع القيصر والثعلب العجوز، أو بلغة العلوم السياسية لن نعود لعالم القضب الواحد بشكله التقليدي، الصراع سوف ينتج عنه تحالفات جديدة وفق لنتائج الصراع، وإعادة بناء الجيوش من جديد والبداية سوف تكون من ألمانيا ذلك المارد الاقتصادي والدولة الفتيه في أوروبا، نتائج الصراع سوف تعيد صياغة مفاهيم جديدة في السياسة الدولية.
وفي اعتقادي أن رقعة الشطرنج، سوف تشهد استخدام أدوات جديدة، إلى جانب محاولات الغرب عزل الجانب الروسي، لكن هذه المرة سوف تقوم على نشر المعلومات، وفضح شخصيات وحسابات بنكية، واستخدام كلا الطرفين لأدوات الإعلام الجديد كأحد أدوات الضغط لبناء المواقف وضم آخرين لأحد أطراف الصراع.
نتائج الصراع أيضا سوف تعيد تشكيل المنظمة الأممية من جديد، والإشارات بدأت بالفعل، بالأمس ذكرت الصحافة الإنجليزية أن دبلوماسيين يبحثون إمكانية إزالة روسيا من العضوية الدائمة لمجلس الأمن الدولي على أساس أن روسيا أخذت مقعد الاتحاد السوفيتي بعد حله في عام 1991 دون تفويض مناسب.
الاقتصاد سيكون له تأثير قوي في إعادة بناء خريطة النفوذ لكن الأمر سوف يأخذ شكلا مختلف مرتبط بالاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا، والسيطرة على خريطة الطاقة في مختلف مناحي الأرض.
الصراع سوف يلقي بظلاله أيضا على وسائل الإعلام الجديد التي أصبحت جزء مهم من مسرح الصراع سواء على جانب المحتوى الذي يسعى لتسويق وجهة نظر أحد أطراف الصراع في مواجهة الآخر ومحاولة شيطنة صورته وحشد المؤيدين، ووضع الخطط التي يمكن من خلالها هدم الأنظمة من الداخل للوصول لمرحلة الفوضى الخلاقة، أي تحقيق الهدف دون تحريك جندي واحد لساحة القتال.
والمراقب للصراع الجاري سوف يلحظ إيقاف وحظر بث وسائل الإعلام الروسية على اليوتيوب، وهو ما يعني تقويد يد الخصم، إذن الهيمنة على الإعلام الجديد سوف تكون أحد أسلحة الحرب في المستقبل، خاصة في بناء صورة ذهنية تحمل ملامح تمكن من يملك الإعلام التقدم على الخصم.