لطالما عشقت السفر والترحال والتعرض لثقافات مختلفة وإطلاق العنان لنظري لتسجيل كل ما تقع عليه عيناي، وكنت في ذات الوقت شديدة الحنين لوطني الأم، أنتظر رحلة العودة بفارع الصبر وكأني فارقته لعقود لا شهور، لا أعلم حتى اليوم كيف نشأت حالة الحنين تلك أو كيف تجاوزت حدودها الطبيعية بداخلي، غير أنني نشأت في أحضان أسرة شديدة الارتباط بالهوية المصرية، تقدر اللغة والدين والتاريخ، وفي نفس الوقت تمارس مهامها الطبيعية في إطار العمل المسند إليها.
وعليه، كانت من أسعد لحظات حياتي هي تلك التي نستقل فيها طائرة العودة وأشتم معها رائحة الوطن في رحلة مصر للطيران وجدرانها التي يزينها مفتاح الحياة، ثم تبدأ الرحلة بدعاء السفر وأبدأ في استنفاذ ملل عد ساعات الطيران في ممارسة عبادة تأمل خلق الله في طبقات السماوات والسحاب وما إلى ذلك، وصولاً إلى لحظات إعلان كابتن الطائرة دخول المجال الجوي المصري وقرب الهبوط بمطار القاهرة الدولي، تلك اللحظات التي كنت أختلس فيها النظر من نافذة الطائرة لأرى ملامح وطني الذي حرمت منه، لم تكن المشاهد لتتغير من عام لأخر بأي حال، هي نفس سحابات الدخان والمنازل المتهالكة لا علامات تحضر من أي نوع، بخلاف مجرى النيل والأهرامات الذي يتصادف أحياناً رؤيتهم وتمييز موقعهم.
كنت عادة من مُفَضِلي الرحلات التي تصل في المساء حتى أتفادى مشاهد الصباح التي تعكر علي صفو رحلة العودة المٌنتَظَرَة، وخجلي من سماع تعليقات بعض المسافرين الأجانب معي بنفس الرحلة التي لم تخرج عن إطار توقع كوننا مازالنا نستخدم الجِمال في التنقل، وننام بالخيام في الصحراء.
وتشاء الأقدار أن تكبر أحلام الطفلة بداخلي كما كبرت أنا من خارجي لتعاصر تغير الملامح والتفاصيل وشغف الحنين بالعودة حتى وإن أصبح الوطن هو المٌستّقّر والترحال هو الموسمي، فرحلات المساء بعد أن كانت تستهويني لأرى فيها ملامح القاهرة الساحرة المضيئة كما اللآلئ بالبحر المظلم، أصبحت أميل لاستقلال الرحلات الصباحية أيضاً لأرى حجم التغير الحادث من آن لأخر، فمشاهد العشوائيات بدأت في الانحسار بشكل متواتر وملحوظ، وأبراج العاصمة والجلالة شرقاً والعلمين غرباً أصبحوا من علامات التطور العمراني الحاصل على أرض الواقع المصري، ما بين إحلال للقديم، وإعمار للجديد، حالة عامة من استنهاض العزيمة وتطبيقها الحي، ومن ثم محاولة اللحاق بالركاب العالمي الذي فوتناه لعقود عديدة.
التطوير العمراني والتوسع فيه الذي كان ضرورة حتمية منذ عهود، أصبح الآن ضرورة ملحة لا جدال فيها ولا مزايدة، ضرورة تقابل الزيادة السكانية المطردة وتعنت العديد من الأسر المصرية في التجاوب مع كل دعوات الدولة لتنظيم الأسرة وتقليل نسب المواليد، وهو بالأمر الذي آن التصدي له بحزم وبصرامة تتعدى حدود إبداء النصيحة والدعوة والتوجيه، الإلزام في أمور كتلك مع إقرار غرامات أو رفع بنود دعم هي الأدوات الحازمة للتنفيذ الفوري بديلاً عن التسويف والتطويل الذي أصبح سمة مميزة لشرائح متعددة استمرأت صفة اللامبالاة الذميمة.
كما أن فكرة التطوير العمراني والتمدد فيه أصبح ضرورة تتفق مع أهداف الأمم المتحدة التنمية المستدامة التي تلتزم بها الدولة مع معظم دول العالم للوصول إليها بحلول عام 2030، وهي أهداف في مجملها تدعو إلى الاستغلال الأمثل للموارد مع الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة فيها، بما يعني أن الاستمرار في التمركز حول ضفتي الوادي والنيل لا يمكن الاستمرار فيه بأي حال، وأن حالة التوسع التي تشهدها الأرض المصرية ما بين إنشاء مدن جديدة كظهير للمحافظات الأساسية، وتأسيس لمدن أخرى جديدة من مدن الجيل الرابع، بخلاف النهضة المحورية بإنشاء عاصمة إدارية جديدة كنواة للجمهورية الجديدة المنشأة على أساس الطاقة النظيفة واستغلال الطاقات الطبيعية كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وخلافه، والربط بين كل تلك البقع التي يجري بنائها على قدم وساق بأحدث سبل النقل كالمونوريل والـ LRT والقطارات السريعة، كلها خطوات عظيمة تشهد لها أعين العالم بتعجب وإعجاب وتقدير لسرعة ودقة التطبيق.
الطفلة التي فاقت التوقعات أحلامها مازالت في حالة المتابعة والتأمل والترقب وتسجيل الإعجاب، ودوماً تنتظر الأفضل الذي يستحقه هذا الوطن المتفرد.
فالطائرة هي دائماً دليلي في كشف الحقائق بمشهد رأسي شديد الاتساع في الأفق