حين يقف الإنسان (رجلاً كان أو امرأة) أمام المرآة، ويلحظ بعض التجاعيد تتسلل خلسة إليه، ولكن بثبات وإصرار لتترك بصماتها على قسمات وجهه، وينتبه لتلك الشعيرات البيضاء التي تزاحم بقية شعر الرأس لتحتل مكانًا لها عنوة واقتدارًا. قد يستغرب المرء في باديء الأمر ما يراه، وينكره، ويظن أن ما يرى أعراض طارئة زائلة، ناجمة عن تعب وإرهاق، ولكنه حين يتيقن أنها باقية لن تزول، بل قد تتزايد في المقبل من الأيام، يُصَاب بهم وغم. لكن سرعان ما يتأقلم مع هذا الطاريء البغيض. ويحاول مغالبته باستخدام الأصباغ والمساحيق حينًا، واتباع أسلوب «التغافل» في معظم الأحيان!!
وسوف نتناول في هذا المقال معنى ومغزى فلسفة «التغافل» التي ينتهجها الإنسان في تعامله مع مستجدات حياته، التي تأتيه نتيجة لتقلبات «الزمن» ومرور السنين.
تمر السنون، والإنسان في غفلة من أمره، مشغول بسنوات دراسته وتكوينه العلمي، ثم سعيه للالتحاق بعمل وبناء أسرة، وما يترتب على ذلك من تربية الأولاد، والانشغال بمستقبلهم. كل ذلك يستغرق سنوات العمر. هذا إذا سارت الأمور سيرًا حسنًا، فما بالنا بالأغلبية الساحقة التي يضيع عمرها هباءً في وطننا العربي دون أن تحقق شيئًا، لا أسرة ولا عمل ولا أمل!
مهما يكن من شيء، فإن الإنسان يدرك جيدًا أنه يكبر في السن ويشيخ، تمامًا كما يدرك أنه سوف يموت، ومع إدراكه أنه «ميت»، فإنه يسلك في حياته اليومية كأنه يعيش أبد الدهر، وأن الموت لن يطرق بابه يومًا. كذلك الأمر فيما يتعلق بالشيخوخة. الإنسان حتى لو وصل إلى سن الخمسين أو الستين أو حتى السبعين لا يعترف – أو لا يرغب في الاعتراف – بأنه وصل إلى سن الشيخوخة. إنه يتوهم (رجلاً كان أو امرأة) إنه مازال يتحلى بما كان يتحلى به في شبابه من حيوية وحسن وجمال.
صحيح إن كل الأوراق الرسمية تقول إنه تجاوز سن الشباب بسنوات، وصحيح أيضًا إن ملامح وجهه تشير إلى ذلك بوضوح، ورغم هذا يشعر بعنفوانه، وبتدفق حيويته، وأنه يفيض مرحًا وتألقًا، ليس هذا فحسب، بل تتنفجر بداخله رغبات شرهة في حاجة ملحة إلى إشباع. كل ذلك يجعله «يتغافل» عن التغيرات التي طرأت على ملامح وجهه، ويظل متشبثًا بصورته حين كان شابًا. في حين أن من ينظر إليه لا يرى سوى صورته الحالية التي هو عليها الآن. بينما لا يرى هو شيئًا من تلك الصورة المرسومة في أذهان من يتعاملون معه، أو تلك التي تنعكس على سطح المرآة التي يقف أمامها أحيانًا. إنه طول الوقت لا يرى في نفسه سوى صورته التي يرسمها هو لنفسه، والتي تفيض حيويًة وتألقًا ومرحًا. ولذلك قلنا إن داخل كل فرد شخصيتين، وربما أكثر. ملامحه تكشف شخصية إنسان تجاوز سن الشباب تشي ملامحه بالوقار والرصانة والاتزان، في حين تملؤه مشاعر كلها حيوية وتدفق، وقد ينم سلوكه في بعض الأحيان عن نزق وتهور.
وإذا تركنا ملامح الوجه، واتجهنا إلى خبايا النفس، سنجد ما يثير الدهشة حقًا، إذ إن الإنسان غالبًا ما يُظْهِر غير ما يبطن، إنه لا يقتصر على استخدام الأصباع والمساحيق لتجميل صورته في نظر الناس، بل يتلاعب بالألفاظ ومعسول الكلام، ويلجأ إلى فنون التضليل والخداع، لإيهام الناس بحقيقة غير حقيقته، قد يكون داعرًا، ويسير بين الناس مرتديًا مسوح الرهبان، ويتعفف تعفف العاهرات، إذ يُظْهِر الورع والتقوى ومحبة الخير للغير، في حين أنه يبطن تهافتًا وفجورًا وحقدًا أسود. فهو يسلك في الخفاء سلوكًا مشينًا ينطوي على رذائل يندى لها الجبين. هو يُظْهِر للناس الجانب الحسن من شخصيته، وقد يأتي بأناس يشهدون على ورعه وتقواه وحسن خلقه، وقد يُقْسِم هؤلاء بأن هذا الإنسان هو من أفضل خلق الله. ولكنهم لو اطلعوا على ما يفعله في الخفاء، لخجلوا منه ومن أفعاله. إنه يحمل في جوفه الشيء وضده، يُظْهِر للناس الحسن ويخفي السيء. اثنان في واحد، وأحيانًا أكثر من اثنين في واحد.
في المقابل هناك من الأشخاص من يتمتع بسلام داخلي، وتصالح مع النفس. كما تتسم كافة مواقفه مع الكبير والصغير، والقوي والضعيف بصلابة مستمدة من قوة المستغني، ومستندة إلى الوضوح والصدق. إن مثل هؤلاء الأشخاص يستمتعون بكل مرحلة من مراحل أعمارهم، لا يخشون الشعر الأبيض أو التجاعيد، أو أي مظهر من المظاهر التي تطرأ على الجسم نتيجةً للتقدم في العمر، كما يدركون أن لكل سن جماله وبهجته.
وإذا نسيت فلن أنسى ما كان يردده الفنان المصري العالمي «عمر الشريف» في الكثير من مقابلاته التليفزيونية، حين كان يُسأل عن شعوره كفنان ونجم عالمي له جمهور عريض، ومعجبات في كافة بلدان العالَم: «بماذا تشعر الآن بعد أن تجاوزت السبعين، ولم تعد ذلك الشاب الوسيم؟» دومًا كان يجيب رحمه الله بثقة وطمأنينة: «إنني أشعر بالرضا بما أنا عليه، إن كل مرحلة عمرية لها جمالها، إنني أحب شكلي وشعري الأبيض الذي أنا عليه الآن في هذا السن بعد أن تجاوزت السبعين، مثلما كنت سعيدًا وراضيًا ومقتنعًا بشعري الأسود حين كنت شابًا في العشرين من عمري. لقد أحببت كل مرحلة من مراحل عمري. إن تجاوزي لسن السبعين لا يسبب لي أي قلق أو انزعاج، إنني لا أسعى لتغيير شكلي أو لون شعري عن طريق الأصباغ أو المساحيق. إن من يتشبث بمرحلة الشباب ويتوهم أنها ستلازمه، ويلازمها أبد الدهر، مهما بلغ من العمر، فإنه يثير من الشفقة، أكثر مما يثير الحنق».
نعود ونؤكد إن المرء يحمل في جوفه شخصيتن أو أكثر، يُظهر في العلن واحدة، ويخفي عن أعين الناس أخرى، وغالبًا يخفي الأقبح، ويُظهر الأفضل. غير أن هناك فئة من البشر – وإن كانت قليلة – تتصف بمقدرتها على التعامل مع الجميع بوجه واحد.