الأربعاء 24 ابريل 2024

حديث النفس.. إليها.. إليه.. إليهم

مقالات17-3-2022 | 12:09

لكل منْ امتلك فؤاد أم موسى.. قلب يمحو صخب الحياة وعناءها.. يحتضن ويطيل الاحتضان حتى نلملم شتات أنفسنا.. لمن يهمس في أذننا أننا أقوياء سعداء.. لمن يُزيل عنا ضعف أنفسنا ويُشعرنا بقوتنا.. لذلك الحضن الذي نشتاق إليه لنلقى ما أثقلته الأيام من همّ وحزن.. للقلب الذي يتسع للجميع واليد التي تمسح الدموع.. لكل أمّ ولدت وأكملت مع وليدها قصتها.. لكل أمّ لم تلد فأشاعت فيض الأمومة حولها.. لكل أب عوض أبناءه حنان أمهم الضائع.. لكل أخت أفاضت حنانها على أخواتها.. لكل إنسان حنون عطوف داخله عاطفة تحمل فيضا هائلا من الحب الراقي ذي النبع الطاهر.. إليكم جميعا يا من اتخذتم من رحم الأمومة عنوانا للرحمة والحب والفيض الإنساني.. كلكم جميعا أمهات حتى وإن لم يلدن صغارا.. إلى كل محب فاض حبه على منْ حوله فأشاع نورا.

لن أكون متحيزة للمرأة في امتلاكها لعاطفة الأمومة وحدها، على الرغم من كل ما تعانيه من صعاب في الحمل والرضاعة والرعاية والتضحية في سبيل أبنائها.. لكنني أتحيز بشدة للإنسانية بمفهومها الأشمل والأوسع الذي يغمر كل شيء حولنا فيحيله لأمور ربانية روحانية تخلق فى نفوسنا الرحمة والتراحم.. صحيح أنها اشتقت من الرحم الذي خص الله به المرأة، لكن الواقع أن المرأة حنونة والرجل أيضا.. وقد يكون فى أبناء ذكور حنان غير موجود فى شقيقاتهم.. إذن نحن أمام مفهوم أشمل وأوسع للحنان والعطف يتواجد عند الإنسان سواء كان أبا أو أمّا.. على الرغم من توافره بكثرة لدى الأم وقلما نجده بنفس القدر لدى الأب، أو لأنّ الحكايات التى نتناولها بالتكرار نادرا ما يذكر فيها دور آباء ضحوا وأثروا فى حياة أبنائهم.. وقد نأخذ بالقشور من فرضية التوصية ببرّ الأم أكثر من الأب لما عانته فى الإنجاب والتربية، وما خلق الله بها من ضعف فى جسدها يجعل معاناتها أكبر بالطبع فى ظل وجود غريزة الأمومة داخلها تدفعها للتحمل والتضحية، لدرجة أنها تجعل طفلها عضوا من أعضائها، حينما يخرج للحياة من أحشائها تشعر وكأنه جزء مقطوع منها.. فلذة كبدها تسير على الأرض.. تظل تتابعه فى حياته وتود لو أنها أعادته فى بطنها مرة أخرى لدواعى الحماية والخوف عليه.. حتى إننا دائماً ما نضرب الأمثال بأن من بلغ من الحنان والعطف والحب مداه يماثل الأم فى حنانها.. وحينما نفقد هذه المشاعر نُصاب باليتم.. ولا يختلف الطفل عن الرجل الكبير فى شعوره بهذا الفقد.. فهذا الفقد لا يعوّض أبدا.. فكل فقد لحنان الأبوين يعنى انتزاعا لجزء من قلب الإنسان لا يمكن تعويضه ويود لو يعود له وتعود ذكرياته معه.. فدائما ما نحِنّ لذكرياتنا البريئة لمثل هذه الأيام، على الرغم من لهو الطفولة الذي كان يتملكنا، فيدفع رغبتنا فى أن نصير كبارا مستقلين، لا نتلقى الأوامر أو الانتقاد لتصرفاتنا أو حتى معاقبتنا للتصويب والتأديب والتهذيب.. إلا أننا حتما نشتاق لصخبنا وكل ما كانت تحمله نفوسنا من ذكريات فى دار آبائنا وأمهاتنا.

 ودائما ما يحلو لنا أن نقول “فين راحوا حبايب الدار”.. كنا هنا وكان أبى وأمى هنا.. كان لنا حضن دافئ.. أبواب قلب أبى وأمى.. باب الجنة المملوء بالصبر والعزم والتضحيات والعطاء.. فكم اعتدنا على الأخذ دون إدراك المعاناة التى كانوا يتكبدونها عن طيب خاطر.. ونكبر ونتقدم فى العمر ونصير آباء وأمهات فندرك طيشنا ونشعر بنعمة الأبوين فى حياتنا ونشعر كم كانوا محاربين من أجلنا.. ولا نكف عن الذهاب إليهم نشكو لهم قلوبنا الموجوعة لنجد الراحة والطمأنينة والسكينة.. نحتاج أن نعود إليهم لنلملم انكساراتنا وتحطماتنا.. ومن غيرهم يشعر بنا بمجرد النظر إلى أعيننا؟ هى الشفرة وتلاقي الأرواح التى تتناغم لنلقى الراحة؛ حتى بعد رحيلهم يأتون إلينا فى منامنا برسائل قد تكون تحذيرات لنا من شرور أو طمأنة لنا أننا نسير على الطريق الصحيح؛ لنعلم أن أي خير لنا في هذه الحياة هو إرث أبوينا فى الحياة الدنيا “وكانا أبوهما صالحا”، وأنه لا خوف علينا طالما أن التقوى إرث فى الذرية الصالحة بقول الله تعالى: «وليخش الذين لو تركوا من ورائهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا».

وإذا ما أكرمك الله بأن يمد عمر أبويك أحدهما أو كلاهما فى رحلة مختلفة للبرّ ورد الجميل فى الكبر وعلى قدر العطاء يكون الرد.. بعدما بلغ الضعف والوهن أجسادهم بعد رحلة الشقاء والكفاح، فتجد الأبوين يشتد تمسكهما بأبنائهم، لكن يشعرون معهم أنهم هم آباؤهم وليسوا أبناءهم، فتشتد حاجتهم للعطف والود ما يجعلهم يشعرون أن رحلة العطاء التى جاهدوا فيها ليست هباء.

الكل يبحث عن الحب في كل مراحل حياته، يمنحه، ويسترده، أو يرتد عليه.. ينمو بالتبادل.. لا تتعجب.. ففي عواطفنا نجد العزاء فى كل شيء.. نبحث عن الحنان فى كل أحوالنا وفى كل الأشياء وفى كل الأشخاص.. نبحث عن شيء من هذه العاطفة.. فنجد الشاب يبحث عن حنان أمه فى زوجته وشريكة حياته.. والابنة تبحث عن حنان الأب فى زوجها.. فنرى صور الأب والأم فى كل صديق دون أن نشعر.. هى الرغبة فى الرحمة.

 نريد أن نجد الحب الذى عرفناه أو حتى افتقدناه على أبواب قلوب آبائنا عند الآخرين فى كل علاقاتنا.. لكن لا وجه للمقارنة، فأمك وأبوك حينما أحبوك وأعطوك فيضا من الحنان كان حتى قبل أن تولد وأنت مازلت مضغة فى أحشائهم.. قدموا لك الحب مهما كان شكلك ولونك وميزاتك وحتى عيوبك.. هى عيون المحب التى تهدى الرحمة والرأفة فى نظرات حانية.. فى علاقات تختلف عن تلك التى تقابلها خارج نطاق الأسرة.. قد تكون قائمة على المصلحة وتبادل المنفعة، ومع ذلك نبحث عن غلاف من علاقات الحب الذى تلقيناه فى أسرنا أو حتى فقدناه داخلها.. فليست كل الأسر تمنح نفس الحب والتضحيات، فلكل قاعدة شواذ، فالأمومة والأبوة فسيولوجية بالولادة ولا تكتمل إلا بالعلاقة النفسية التى يتذكرها الأبناء طوال فترة تربيتهم، فهى التي يدركونها فى فترة الطفولة.

 لذلك هناك كثير من الحالات ما تكون علاقات الأمومة والأبوة بديلة وتكون ناجحة بما تمنحه من حنان ورعاية.. ولا يصح أبدا أن نحرم أصحاب هذه العاطفة من ألقاب الأمومة والأبوة، بل على العكس فهم يقدمونه لمن لم تكن لهم بهم صلة عضوية.

ونتساءل لماذا تنجح مثل هذه العلاقات رغم عدم وجود صلة دم بين أصحابها؟ لأن داخل كل واحد منا غريزة الأمومة أو الأبوة التى يسعد بإشباعها فى علاقاته مع الآخرين، فيعوض بها قسوة الأيام وغدرها.. قد تقدمه أنت فى حياتك، وقد تكون أنت من بحاجة إليها فتبحث عنها، قد تجدها، وقد لا تجدها، لكنها موجودة.. وكأن الله خلق هذا الفيض لكى لا ينقطع بعد انفصال الإنسان عن أبويه اللذين يعطيان بدون حساب أو مقابل.

فالحب والعطف والحنان مشاعر قابلة للزيادة والنمو بالتبادل، حتى فى تكوين الإنسان نفسه ومراحل تربيته، فمن كان محظوظا ونما وتربى فى بيئة تفيض بهذه المشاعر مع تحقيق التوازن الذى يدعم الإنسان حتى لا يتحول لتدليل وكسل وتراخٍ.. يخرج إنسانا سويا يتعاطى الحب مع الآخرين بشكل صحى لا يحمل كرها أو حسدا لمن حوله.. وكلما تقدمنا فى العمر وأصبحنا نساء ورجالا دائما ما نبحث عن هذه المشاعر، فنريد لمحة مما كنا نتمتع به فى طفولتنا من عطاء الأم وحنو الأب.. فلا يمكن أن نستغنى عما تعودت عليه أنفسنا مهما تقدمنا فى العمر ولا خجل فى ذلك.. فحينما ينضج الزوجان ويتقدمان فى العمر يكونان فى أشد الحاجة لعلاقات المودة والرحمة والعطف، وكأننا نصبح صغارا مرة أخرى أصحاب مشاعر مرهفة تتوق للعناية والتدليل.. فمن أسوأ ما يتعرض له الإنسان فى حياته كلما تقدم فى العمر وانفض عنه المقربون هو شعوره بالوحدة وحرمانه من لمسة حانية أصبحت واجبة بين الزوجين بعضهما لبعض وكذلك من الأبناء البارين بآبائهم.

تجدنى لا أفرق فى درجة بر الأبناء الواجبة لكلا الأبوين دون تمييز بينهما.. لأنى أحتسب قدر التساوى فى المعاناة والعبء بينهما رغم آلام الحمل والرضاعة والولادة التى ميز الله بها المرأة.. لكنى أشهد أن الأب لا يقل حنوا عن الأم بأى حال من الأحوال، فكثيرا ما تتعمد الأم من أجل التربية الصحيحة أن تكون صلبة وقوية، لكن الأب بحكمته وفطنته يعمل على التوازن، حتى يكون الطفل لينا فلا ينكسر فى تربيته.

ولا أنكر أن الأم يجب أن تتحلى بالصلابة باعتبار تواجدها بصورة أكبر وأكثر مع أبنائها.. فيصبح لزاما عليها أن تتحلى بلباس الحزم والقوة وعدم الشكوى، وإذا كان الأب متفهما لمعاناتها فى التربية.. تجده لا يفسد رباطة جأشها أمام الأبناء.. لكنه يتدخل فى وقت يحتدم فيه الصراع التربوى بين الأم والأبناء ويحسمه للصالح العام.. هى المسئولية التى يتقاسمانها وشعرنا معها بضخامتها بعدما صرنا آباء وأمهات.. وأصبحنا نتعجب من عدم إظهار ضعفهما أمامنا وعدم الملل أو الكلل أو الضجر.. وحتى الآن لا شيء يعجزهما أو يضعفهما.. حتى إننا نحب أن نمدح أنفسنا أننا مثلهما أقوياء.. لكن هيهات فمتى التقينا بهما شعرنا أنه لا وجه للمقارنة.. فقد كنا أكثر عددا والمسئولية أضخم.. لكن لا غضاضة، فالأم ماهرة فى تدبير كل شيء وتقسيمه وجعله يمر بسهولة.. الحب على أبواب قلوب كل الأمهات لكنهن يكرهن التدليل والإضعاف وأن يرونا مهانين مستهانين.. دائما يزرعن داخلنا أننا أقوياء لأنفسنا وبأنفسنا فى معركة الحياة.

لغز الأم القوية فى تربية أبنائها.. التى لا تخشى على أبنائها مما تخشاه سائر الأمهات.. تتركهم للحياة ليكتسبوا الخبرة والمعرفة.. وتحتفظ لنفسها بحق المراقبة والتصويب بأساليب قد تصل للديكتاتورية فلا تسمح بالمعارضة أو المخالفة.. تريد كل شيء فى نصابه الصحيح دون هامش للخطأ.. تصّدر القوة المعدية.. تعطيك الأمل بعد كل خسارة تحققها فى أن الغد يحمل العوض والخير الذي يغيب عنك مع كل خسارة، فهى تراه وتجعل عينيك تريانه؛ حتى وإن كان غير موجود فى المستقبل القريب.

فإليهم جميعا أقول: قلب الأم وحنانها داخل كل إنسان وهبه الله الرحمة والرأفة؛ لينعم منْ حوله، قد يكون داخل المرأة بالفطرة الإنسانية الخالصة، وقد يكون داخل الرجل نعمة وباب رحمة وجنة له لم يكن يحلم بها. قد تنجب وتمنحها لأبنائك.. وقد لا تنجب وتمنحها لأبناء حرموا منها، فتكون قدرا خيرا لك ولغيرك ليستمر الحب والرحمة للإنسانية كلها.

Dr.Randa
Dr.Radwa