بَاتَ أخشى ما أخشاه؛ وطأة أصَابعها القَاسية، تَغرزها في جِلدي، تُمرِّرها بغلظةٍ حَول رقبتي المُلتهبة، أشعر بانسحابِ روحي لحظتئذ، تَهرس اللَّوزتين هَرسا مُؤلِما تَحتَ شَلالِ الزّيت الغامق، تُغرِقُ في هَوجٍ كُلّ شيءٍ حتّى ملابسي، يَتسرَّبُ فوقَ جلدي خيط بارد، يَتَشبّعُ بهِ جسدي الذي انتَفضَ تَحتَ نيّر الحُمى يَصطلي لهيبها، لم تُفلِح تَوسلاتي ولم تشفع أنّاتي.
تُمرّر "الجدّة" يدها في سكونٍ ولذة، وكأنّها تَعزِفُ لحنا موسيقيّا، ومن حَولها تَراصّ الصّغارُ في فُرجةٍ مُفزِعة، مع الوقتِ تَتصاعد رائحة الزَّيت العَطنة، تملأ أنفي تسدّ عليّ مجرور الهواء الذي يوشك أن ينقطع، أخيرا أنهت مهمتها، صَرَخت بنبرةٍ قلقة: "ناوليني عقد الفره يا بت"، نزلت هذه الجملة بردا وسلاما على صدري لتنزع عنها شكوكها، لحظات قليلة سيطرتُ فيها على لهاثي المكروب، أُلقي بطَرفِ عيني عليه محمولا بين الأيادي كوليدٍ مُدلّل، تتأرجحُ حبات (الزلط) الملوّن في زَهوٍ، يُحدّثُ نَغما مُريحَا، يُخيّمُ مزيج الألوان المُتآلِف ليَنفضَ عَنّي بقَايا الذَّاكرة السَّيئة.
يقولُ الشَّيخ "فاعود": "عقد الفره تركة يتوارثها آل الشيخ، هي أحجارٌ كريمة، هبطت من السّماءِ"، يتناقل أهل القرية مُؤمّنين، رؤيا الخالة "زكية" حين زارتها الشَّيخة "أم الخير" ابنة الشِّيخ "عطا القليوبي" في المنامِ فوصفت لها العقد، بعدما عَجَزت جميع الوصفات أن تشفي رقبتها، جَلّ خطره، واكتسب آل الشيخ مكانة فوقَ مكانتهم، يَطرقهم المريضُ في توسلٍ إطراقَ الذّاهل، وقد تفتّحَ لقلبهِ اليائسُ فُرجَة مِن أمل.
أقسَمَ "سيد الحرامي" بتربةِ أمّه؛ إنّ العقد فيهِ سرّ عظيم، قَالَ في صَوتٍ مِلؤه الجَدّ: "حَاولت سرقته وبيعه لمشترٍ في البنّدرِ، وعند القنطرةِ حَرَنت الحمارة، فرمتني فاقد الوعي"، تَحت شمس الضُّحى الوليدة، استجمَعَ بقايا عافيتي، أتلمّس حَبّاته الغلاظ مُنتشيا، تنبسطُ الأرض أمامي كمن آوى إلى رُكنٍ شديد، تتزاحم الكلمات في حزمٍ تُوصيني بالعقدِ، تمتلئ العيونُ تلقاني في شهوةٍ غريبة، وهمسات النّسوة تتغنّى بالعقد وفعله.
حَاولت مرارا أن أصنَع شبيها، التَقط حَبّات ( الزلط ) بألوانها الفتّانة، أجاهِد في إحداثِ فجوة فيها بمسمارٍ محمي، باءت محاولاتي بالفشلِ، نصحني الأهل أن اعدِلَ عن هذا السّلوك، فهذه الأحجار ليست من صخورِ الأرض، بعد أسبوعٍ بالتمام جاءنا من يطلبُ العقد، اقتربت عجوز مني، نَزعت عن رقبتي المنديل، وفي خشوعٍ أزالت "العقد"، بابتسامةٍ نحيلة يملأها الزّهو، برَقت بعينين، قائلة:" أحسن الوقت؟!"، استجمعت شجاعتي المُوزّعة، هَززتُ رأسي مُجيبا: "الحمد لله".
ها أنا ذا أقضي جُلّ نهاري في عِيادةِ الطّبيب أنتظر لابني موعدا، بعد مُعاناةٍ؛ أوصى بحتميةِ استئصال اللَّوزتين، تتسلّل شمس ما قبلَ حلولِ المساء فاترة على غيرِ وهجها المعتاد، تقف مُودّعةٌ، أجدني انتزع نفسي من براثنِ الذِّكرى، أتحسّس رقبتي، مُتمنّيا للجميعِ السّلامة .