الأربعاء 22 مايو 2024

الشهيد أحمد حمدي صانع كباري العبور


الشهيد أحمد حمدي

مقالات21-3-2022 | 18:52

حمدي لطفي

هذه قصة بطل من عمالقة قواتنا المسلحة تحكى ببساطة نوعية القائد المصري الذى ظل دائماً يقاتل فى مقدمة جنوده، مثل أبطال كثيرين غيره  سجلوا صفحات الشرف والفخار للعسكرية المصرية وجادوا بحياتهم فداء للوطن.

 

إنه أحد عمالقة وحدات الكباري بسلاح المهندسين، أعطى الكباري والعبور كل حياته، وأكد صدق دعواه وهو يقاتل بجانب الكوبري الذى شيده دفاعاً عن سلامته، بين كبارى الجيش الثالث.

 

إنه البطل الشهيد لواء مهندس أحمد حمدى عبدالحميد.

 

يتوقف الزمن فوق الأرض، وتتوهج الشمس فى السماء إجلالاً وخشوعاً لسيرتهم النقية حين يأتي ذكرهم العطر، الأبطال العمالقة شهداء قواتنا المسلحة، أبناء الإرادة المصرية، الذين أعطوا الوطن بقتالهم، اقتداره المجيد، وقدموا بسخاء بطولي فى معاركهم أعظم الفداء، جادوا بأغلى ما يملكون، أعطوا حياتهم، فصنعوا باستشهادهم المشاعل الشاهقة تضيء الطريق أمام تقدم قواتنا إلى سيناء.

 

إن البطل لا يولد بطلاً، بل البطولة صفة وسلوك تنمو لديه مع نمو عمره، حتى تأتى اللحظات التى يرتفع فيها بقدراته ويتجاوز إمكانيات البشر كما حدث فى ملحمة المصير، ملحمة حرب أكتوبر، ويتألق فى قتاله، ويؤكد صدق دعواه، ويختار الفداء بالروح فداء للنصر.

 

بطلنا اليوم هو «اللواء مهندس أحمد حمدى عبدالحميد» نائب مدير سلاح المهندسين وقائد قوات كبارى العبور إلى سيناء، وأحد أذرعتها المرفوعة دائماً بالحماية، كان دوره خلال المعركة علامة غنية بأعظم الدلالات.. بل كان وقودها، إنه أحد الفصائل البشرية التى أضافت الجديد إلى سجل معارك قواتنا المسلحة، صفحة فخار وشرف للعسكرية المصرية وقتالها المشروع.

 

منذ الصدمة التى أصابتنا فى يونيو 1967، واللواء مهندس أحمد حمدى لا يتوقف لحظة مع رجاله الضباط والجنود عن دراسة الإمكانيات الهندسية المتاحة للعبور إلى سيناء، أعادوا مناقشة الموقف، تدارسوه باستيعاب، طرحوا الثغرات والعيوب، تصارحوا بكل نقاط الضعف لديهم، امتلكوا رؤية جديدة للصورة بكل أبعادها، وضعوا الخطط الجديدة والخطط البديلة، وبدأوا يوفرون احتياجات هذه الخطط بدأب وإصرار، ذهبوا إلى مختلف المناطق والبلاد بحثاً عن شكل قريب للهدف، واتصل ليلهم بنهارهم، وعملوا وعيونهم على اليوم القادم حتماً لا محالة، وأصبحت كبارى العبور ومياه القناة وهدم حصون وقلاع بارليف، هى كل حياتهم، وبات دورهم «دور المهندسين» فى معركة التحرير غرامهم وسرهم الكبير..

 

ولقد حققوا الحلم..

 

قبل أن أسترسل.. كيف اُستُشهد البطل؟

 

إننى ألجأ إلى التقرير العسكرى الذى وضعته القيادة العليا عن معركة اللواء مهندس أحمد حمدى عبدالحميد، وفيه جاءت هذه السطور:

 

- «واتته الفرصة التى انتظرها طويلاً، واللحظة التى طالما أعد نفسه لها وأحسن الإعداد عندما بدأت طلائع الزحف المقدس تعبر الهزيمة إلى النصر على جسد من أجساد أشرف الشهداء، ورأت روحه الطاهرة أبناء الوطن يعبرون القناة ويتسابقون من أجل النصر أو الشهادة، وأدرك البطل قيمة تخطيطه السابق لعمليات المهندسين العسكريين المقاتلين، وكان إدراكه السليم لأهمية عمليات وحدات الكبارى باعثاً أكبر لبذل المزيد من الجهد وتذليل كل ما يعترض طريق القوات العابرة من مصاعب، غير عابئ بما تتعرض له حياته من خطر تحت غارات الطائرات الإسرائيلية وقذف مدفعية العدو المكثفة، ويشهد الرجال الذين كان لهم شرف العمل تحت قيادته، بأنه كان دائماً بينهم، فى مقدمتهم طوال النضال، وقد أشرف على كل صغيرة فى عملية كبارى العبور وتدعيمها، إنه أسهم بجهده الجسدى بجوار جنوده الصناديد فى إعادة إنشاء الكبارى التى تحطم بعض أجزائها نتيجة قصف قنابل الطائرات العدوة منذ الساعة صفر فى معركة التحرير يوم 10 رمضان الخالد، وبقى طوال ثمانية أيام حول الكبارى لا يفارقها، وفى يوم 14 أكتوبر أو 18 رمضان، قام مع رجاله بإعادة إنشاء كوبرى كان قد سبق فكه تقديراً منه لمدى أهمية عمليات الإنشاء، وظهرت مجموعة براطيم غارقة متجهة بفعل تيار المياه إلى الجزء الذى تم إقامته من الكوبرى مما يعرض هذا الجزء لخطر التدمير، وهنا قفز البطل إلى ناقلة برمائية من ناقلات السلاح قادها بنفسه، واتجه إلى مجموعة البراطيم وقد سبقها، وأمسك بها وسحبها بعيداً عن منطقة العمل، ثم عاود مباشرة استكمال بناء الكوبرى بجوار جنوده وبينهم، قائداً وزميلاً وجندياً، رغم استمرار القصف الجوى فوقهم وكثافة نيران المدفعية الإسرائيلية دون أن يبتعد عن منطقة العمل والخطر، مدركاً أنه إن فاضت روحه، فإنها تفتدى ألوف الأرواح التى لا بد وأن تصنع النصر للوطن، وأصابته إحدى الشظايا المتطايرة، وكانت إصابة قاتلة، واُستُشهد «البطل» بجانب الكوبرى فداء للمعركة.

 

دفعة البطل

 

لقد كرمت القيادة العليا لقواتنا المسلحة اسم العملاق الشهيد فأطلقته على أول دفعة من ضباطنا الجدد، تخرجت فى الكلية الحربية بعد معارك أكتوبر، وذلك يوم 2 يناير 1974، وأعلن وزير الحربية والقائد العام أن القائد الأعلى للقوات المسلحة - يهدى سيف الشرف العسكرى لأسرة الشهيد، وترقية البطل من رتبة عميد إلى رتبة لواء، ومنح سيرته العسكرية نجمة الشرف تقديراً لبطولة العملاق وعظمة التضحية التى جاد بها.

 

ولقد دعت القيادة والدة الشهيد وزوجته وأطفاله الثلاثة وأشقاءه، إلى حفل التخرج الكبير حيث وقفت الأسرة مع وزير الحربية ورئيس هيئة الأركان، وقائد الكلية الحربية وأساتذتها.. يستعرضون طوابير الخريجين الجدد من مقاتلى مصر، حاملى اسم البطل لواء مهندس أحمد حمدى عبدالحميد.. أحد العلامات البارزة على أصالة الإرادة المصرية وجسارة المقاتل المصرى، واقتداره الحى المتجسد أبداً فوق تاريخ الأوطان، دفاعاً عن الحق والكرامة واستقلال الأرض.

 

طفولة البطل

 

ولقد ذهبت إلى أسرة ذلك الرجل أبحث عن مكونات البطولة فى حياته، وإلى رفاق السلاح، إلى جنوده الذين اُستُشهد بينهم، بل وفى مقدمتهم.. كما كان دائماً طوال خدمته..

 

إنه من أبناء الدقهلية، والده كان من رجال التعليم الذين حسبت عليهم وطنيتهم وتحمسهم لجلاء قوات الاحتلال البريطانى عن مصر، وقد أوضع أول أولاده الذكور، بطلنا الشهيد، قصة النضال الوطنى لشعب مصر، منذ أصبح طفلاً يعي ويفهم..

 

تحكي السيدة أم الشهيد؟

 

- رزقنا الله قبل أحمد بفتاتين ثم بذكر مات طفلاً، وجاء أحمد عام 29، وتعلق أبوه به تعلقاً شديداً، وكان يروي له وعمره عشر سنوات كل مساء عن ثورة 19، وامتلأت كراريس ولدي بموضوعات الإنشاء عن الجلاء والاستقلال وتضحيات شعب مصر منذ فجر التاريخ، حتى التحق بالمرحلة الثانوية، ورفض أبوه أن تضمه المدرسة التى يتولى نظارتها وهى مدرسة الرشاد الثانوية، خشية أن يجامله المدرسون فألحقه بالمنصورة الثانوية، وظل دائماً من المتفوقين.

 

وفى عام 1951 تخرج البطل مهندساً ميكانيكياً وانضم إلى «الجيش الاحتياطى» وكان قائماً تلك الأيام، ريثما يحقق حلمه ويصبح ضابطاً فى الجيش المصرى.. وما ضاع الهدف منه على الإطلاق.

 

وفى 18 أغسطس عام 1951، استطاع أن يلتحق بورش القوات الجوية برتبة ملازم أول، ثم سرعان ما انتقل إلى سلاح المهندسين ليبدأ صفحة جديدة من حياته الخصبة..

 

ولقد اشترك البطل الشهيد فى حرب 1956 وكان يتحرك بجسارة وثبات تحت نيران وانفجارات القنابل التى أسقطتها طائرات العدوان الثلاثى على منطقة «شعير» بسيناء وكأنه يتحرك تحت الأمطار، وانعكست هذه الجرأة الفريدة على زملائه رفاق السلاح وجنوده وقد أطلقوا عليه صاحب اليد النقية، فقد أبطل بيمناه ألوف الألغام التى بثها العدو قبل أن تنفجر فى رجالنا، وكان سريع العثور على حقول الألغام واكتشافها دون أن يتعثر مرة واحدة.

 

وتروي السيدة زوجته عنه، فتتذكر إجازة قصيرة قضوها فى غزة، كان يعمل فى الإسماعيلية وكنت معه، وذهبنا إلى غزة، لقضاء عدة أيام، وسمع من زملائه أن ثمة مشكلة فى «العريش» حيث يتوقعون ألغاماً مدفونة بإحدى المناطق العسكرية، فتركنا واستقل سيارة إلى هناك، وعاد بعد يومين بعد أن تطوع للقيام بالمهمة، وقد فرغت الإجازة ورأيته سعيداً بتطوعه... وقال لى ونحن فى طريق عودتنا «إن الجندية هى هوايتى».

 

وبعد 1967 كان البطل العملاق يعمل 18 ساعة، وأحياناً 20 ساعة كل يوم، فى إعداد كبارى عبور قواتنا والعربات البرمائية، والبراطيم، وقد أشرف على صناعتها صناعة وطنية مائة فى المائة.. وعاش يحلم بيوم العبور إلى سيناء وكثيراً ما طلب من السيدة أمه أن تدعو له بالبقاء حياً حتى يشترك فى معركة تحرير سيناء، وقد استجاب الله لدعوات الأم وحقق أمنية البطل.

 

تقول الأم:

 

- «لقد سافر بعد زواجه عام 1958، إلى بعثة خارج البلاد، وكان قد مضى على زواجه ثلاثة أشهر فقط، وقال يومها إن زوجتى تستطيع الانتظار، لكن الجيش لا يستطيع انتظاري، وقد جاءته كبرى بناته «أمنية» يوم عودته إلى الوطن فى إجازة قصيرة، وكانت أمنيته أن يحضر ميلاد أول أطفاله، وحقق الله له أيضاً هذه الأمنية حين ولدت «أمنية» كما سماها بعد وصوله إلى الوطن بساعات قليلة».

 

موسوعة علمية

 

قال لي «المقاتل منتصر» أحد الأبطال الذين جرحوا بجانب البطل الشهيد:

 

- «لقد درس فى الاتحاد السوفييتى وغيره وكان الشهيد أستاذاً فى كثير من العلوم، عشنا نراه ونقترب منه وهو أشبه بموسوعة علمية هندسية.. فى الميكانيكا، فى المعمار، فى التكتيك، فى كل العلوم العسكرية كانت ثروته هى قراءاته وفكره، وعقليته المرتبة وذهنه الحاضر أبداً، وكثيراً ما رأيته يستمع للجنود المثقفين ويناقشهم فى قضايا مختلفة، واهتمامه بأي معلومات جديدة لا يضعف أبدًا حتى ولو حصل عليها من أحد جنوده، كما كان اهتمامه كبيراً بأدق الأمور وأبسطها، وبنفس القدر من الاهتمام يقوم يومياً لأداء التفتيش على جنوده ومظهرهم، حتى أحذيتهم وخيامهم وزمزميات الماء لديهم.

 

وطوال شهر كامل قبل حرب رمضان المجيدة بقي العملاق البطل بين وحداته وقد اتصل ليله بنهاره وظل يعمل طوال أيام هذا الشهر من 9 صباحاً حتى 4 صباح اليوم التالى، وكان أحياناً ينام جالساً، وتواجده بين قواته دائماً استمر اعتباراً رئيسياً لديه يحرص عليه حرصه على أغلى الأشياء عنده.

 

فى اليوم الثانى للمعركة أصيب أحد كبارى الجيش الثالث، وكانت الإصابة كبيرة وانزعج أكثرنا، وإذ به يستقل سيارته بعد أن أبلغته بما حدث ويحمل معه كمية من البسكويت، ويذهب إلى الكوبرى ويجمع جنوده ويوزع عليهم البسكويت والشاي بنفسه، ويعمل معهم وبينهم فى إصلاح الكوبرى

بأعصاب فولاذية، وحنانه يفيض علينا، قد تحولنا إلى طاقات هائلة من النشاط، وجاءت طائرات العدو مرة ثانية بعد أن أصلحنا الكوبرى وألقت قنابلها عليه، وتحطم جزء آخر، وطوال الغارة الجوية لم يتركنا البطل أو يحاول اللجوء إلى أحد المخابئ القريبة منا، بل ظل فوق الكوبرى يتحرك بخطوات بطيئة وهو يعلم أنه فوق هدف مكشوف، وعلى الفور عاد الرجال إليه يعملون بكل الإيمان والصلابة التى استمدوها من قائدهم فى إصلاح الجزء المدمر من الكوبرى، وقال لنا يومها:

 

- «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا».

 

ليلة الرحيل

ويروى مقاتل آخر، عن قائده:

 

- «فى أحد الأيام وكنا نقوم بمشروع تدريب بجانب أحد مصانع القطاع العام، شب فجأة حريق كبير بالمصنع، فجمعنا واشتركنا على الفور بكل إمكانياتنا فى إطفاء الحريق دون أن يطلب أحد منا ذلك، وتلقت قيادة المهندسين خطاب شكر من مدير المصنع وقد ذكر قصة تطوع اللواء البطل أحمد حمدى وضباطه وجنوده فى إنقاذ المصنع.

كان دائماً يبادر إلى الأعمال العظيمة البارزة.

وقال لى ولده عبدالحميد، من مواليد 1963:

 

- «كان أبى يقول لنا، إننى أصاب بالصداع حين لا أعمل أو أقرأ، وقد أرسل لي لوحة معدنية كانت مرفوعة فوق أول موقع إسرائيلى نسفه المهندسون بالديناميت وكانت آخر رسائله إلينا قبل استشهاده بيوم واحد».

ليلة استشهاد البطل جاء «بالشيخ زين» واعظ وحدات الكباري، وكان من قبل مجنداً بهذه القوات، وقرأ الاثنان فى القرآن الكريم، ثم أديا صلاة العشاء، كان ذلك يوم 14 أكتوبر 1973، وقام بتفقد كباري الجيش الثالث، وإذا بطائرات العدو تلقي بقنابلها حوله، ولم يبتعد البطل، ولم يتحرك بعيداً عن الكباري التى شيدها بيديه، ظل بجانبها يحاول إنقاذها وحمايتها حتى أصيب، وتناثرت دماؤه فوق سطح الكوبري الذى أعطاه كل حياته، ودفن جثمانه بجواره على الشاطئ الشرقى لسيناء، ومنذ صباح 19 رمضان، وعصفوران خضر اللون يهبطان كل فجر ويقفان طويلاً فوق القبر ويتجمع المقاتلون لرؤية المشهد الفريد، ويتذكرون البطل الذى قال لأسرته وهو يرحل إلى يوم 6 أكتوبر المجيد:

 

- «لو أراد الله أن يكرمنى ويكرمكم، لكتب لي الشهادة وأنا أحارب بين جنودي، فى معركة تحرير سيناء».

ولقد أكرمه الله وكتب له أعظم الرحيل فوق أشرف الساحات وأخلدها فداء للصمود والنصر.