بقلم – عمرو على بركات
1- زئير الأسد؟!
“أسد يُكشر عن أنيابه، محتمياً بلاشئ، يظهر السيد المدير فى زيه العميد، يضحك متشفياً، يمد يده نحوى ليضع فى يدى ختم شعار الجمهورية". أستيقظت من نومى مفزوعاً، تفلت عن يسارى ثلاثاً فى الحمام، ارتديت ملابسى، نزلت إلى رصيف البيت أنتظر الميكروباص، لأتجه إلى عملى بدمياط المدينة التى تبعد عن مدينتى بورسعيد ستين كيلو متراً، الجو حار، والرطوبة مرتفعة على الطريق، خرجت من منفذ الجميل، وعبرت كوبرى الجميل، البحر عن يمينى، والبحيرة عن يسارى، الصهد يملأ الأجواء كلما ارتفعت الشمس فى السماء، وصلت لنقطة مرور شطا حيث تركت دراجتى البخارية المرورية منذ ليلة أمس ذات النغمات المتعددة، والأضواء الحمراء المتلألئة، اليابانية الصنع، والتى تحمل رقم 1محافظة دمياط، وصلت إلى باب الإدارة فى تمام الساعة الثامنة صباحاً، بالبند 3 أحوال، لأجد السيد المدير على صورته بملابسه الرسمية التى قضى معى بها ليلتى، وبنفس ضحكته، واقفاً على باب الإدارة، سمعت الزئير، تراجعت إلى الخلف، محتمياً بنفس اللاشئ، تحول المدير أمامى إلى حديقة حيوانات، أمسكت نفسى عن الجرى مبتعداً، أخذت ألعن السيد المدير فى سرى، هو، وأمه، وأبوه، قطع سيادته حبل تواصلى مع لعناته، قائلاً:" مبروك أنت اتنقلت المنطقة النائية"، ومد يده ليصافحنى بنفاق سافر، شعرت وكأن هناك شيئاً وضعه فى يدى، نظرت إلى يدى وأنا أفكر فى هول الخبر، لم أجد شيئاً، ولكنى وجدت آثارا لحبر الختامة فى كف يدى، اختفى السيد المدير على سلم مكتبه، وقفت مكانى أسترجع الرؤيا، محاولاً تفسيرها بالواقع الذى أنا فيه، لم أجد نفسى إلا وأنا أبصق على السيد المدير وهو يختفى من على يسارى ثلاث بصقات قائلاً: "اللهم اجعله خيراً"، وقف أمامى الصول النوبتجى، يكاد يبكى، ناولنى قرار نقلى إلى مديرية أمن قنا، وقعت عليه:" علم وجارى التنفيذ، والإخطار بالبند والساعة"، وسلمته الطبنجة، والموتوسيكل، والخوذة، ودفتر إيصالات السحب، إلا أنه رفض استلام متحصلات دفتر غرامات الونش وقال وهو يبكى:" خليهم معاك محدش ضامن الظروف"، ولما رفضت قال:" اعتبرهم مكافأة نهاية الخدمة فى المنطقة اللى مش نائية".
2- 88أو77؟!
"أحمل لافتة أجرى بها لاهثاً، نفسى مكروش، على قضبان سكة حديدية، قرأتها مرة 88، ومرة أخرى 77، لم أعرف فى أى مرة كانت معدولة؟ أم أنا المقلوب؟"، إنه القطار رقم 88 وما أدراك ما 88؟! جلست على مقعدى الفردى فى مواجهة "قرفان بك" دفعتى، أنظر إليه وهو يضع كيساً من البلاستيك تحت قدميه، مازال نحيلاً، تذكرت علاقتى به منذ عشر سنوات، عندما تقابلنا أول مرة فى حمام السرية 16فى كلية الشرطة، أثناء فترة المستجدين، وكنا نتزاحم على الدخول، لقضاء أول حاجة لنا فى البوليس، ثم أصبحت لقاءاتنا فى الأعوام التالية فى الحمامات، لتدخين السجائر السوبر، وهو الذى علمنى كيف أدخن السيجارة بسحب نفسها على صدرى إلى الداخل لأول مرة فى حياتى، وأن أفتح فمى عقب الزفير حتى لا أكح، فأرتبط "قرفان بك" عندى برائحة المراحيض، وقضاء الحاجة، والدخان، وجمجمته الحادة بسبب الحلاقة ثلاثة ميرى، وبعد التخرج كان زميلى فى جبل الدويقة، واختفى بعد أول شهر، نقل إلى مكان مجهول، البعض قال إنه نقل إلى مكان سيادى، والبعض الآخر قال إنه دخل السجن، لم أره إلا اليوم فى محطة رمسيس، هو كما هو، بجمجمته، وبسخطه الدائم، على الصف ضباط الكلية، وقائد الفصيلة، وقائد القطاع، حتى العساكر، فأصبح ساخطاً على الوزارة كلها، فكلما سألناه عن السبب؟ أجاب:" بلا قرف..هو أنا بقيت ظابط علشان ألقم الشاى الكشرى الفجر للعساكر فى المطبخ..ليه الوزارة مبتطورش وتجيب لهم شاى فتلة؟!"، فأطلقنا عليه "قرفان بك فتلة"، وتساءلت عن السبب الذى جمعنى به اليوم فى القطار 88غير تنفيذنا لقرار النقل إلى الصعيد؟ تذكرت الدوخة التى ضربت رأسى بسبب أول سيجارة أدخنها باحتراف معه، وأنا أقف معه بين عربتى القطار لتدخين السجائر، أو ربما بسبب رائحة الأحذية المخلوعة التى تملأ الأجواء، وتشبه رائحة البيادات عقب طوابير المشاة فى الكلية، فالتكييف معطل، وبعض الركاب الصعايده قاموا بتغيير ملابسهم، وارتدوا الجلابيب، واتخذوا وضع القرفصاء للنوم على المقعد، وتمكن كل منهم من جعل أطرافه كلها متكورة داخل حدود التذكرة التى دفع ثمنها فقط، فلأول مرة أشاهد طقوس السفر فى القطار 88، وانتظم إيقاع صوت اصطدام عجلات القطار بالفلنكات على قضيبيه، وهو يحاول إقناعى أنى نقلت مثله مستبعداً، وليس للتميز كما أتوهم، وتجاوزنا محطة الجيزة، وأنا أتابع المشاهد من زجاج النافذة القذر المسدل عليه ستائر يبدو أنها تستخدم كفوط لتنشيف أيادى الركاب بعد تناولهم الأكل فى القطار، كانت المشاهدات أشبه بفيلم ملون يتحول بالتدريج إلى فيلم أبيض وأسود، كلما اتجه القطار جنوباً، كما أنه فيلم تتحرك مشاهده ببطء كلما تقدم الزمن داخل محطات الوجه القبلى، فأدركت أننى لا أسافر فى المكان فقط، وإنما القطار 88 يعنى السفر فى التاريخ أيضاً، حتى أن سكوت "قرفان بك فتلة" حوله لفيلم صامت، بعد بنى سويف تحول الناس على أرصفة المحطات إلى أشباح تتحرك، وبعد أسيوط، النساء كانت تظهر وتختفى بسرعة البرق بين البيوت المرصوصة عشوائياً على شريط السكة الحديد، وفى سوهاج عند الفجر سمعت عواء صباح يوم مجهول يتمطع، واستيقظ الركاب النيام مع صياح رئيس القطار بأنه داخل على نجع حمادى، لم تكن محطة نجع حمادى تعنى لى أى معنى، وحدثت جلبة فى القطار حول الباب، لم أتمكن من النوم طوال رحلتى، انتظرت حتى اكتملت يقظة "قرفان بك فتلة" وكنت أود أن أعيد على مسامعه حديثى معه منذ أول لقائنا، ولكنى أشفقت على نفسى فى أن أدافع عنها أمام قرفان، وأُقنعه أننى لم أُنقل إلى الصعيد مستبعداً مثله كما توقع، وإنما نقلت لأنى رفضت كتابة طلب البقاء فى مديرية أمن دمياط بعد ثلاث سنوات لثلاث سنوات أخرى ليكون إجمالى الست سنوات مساوياً لخدمتى فى الصعيد، فتمردت على المدير، وعلى نفسى، وعلى تراث شئون الضباط كله، فنقلت بحكم المدة، على رصيف محطة قنا دفعت نفسى للخروج من باب القطار، أحمل حقيبتى الكبيرة، التى أمضت زوجتى ثلاثة أيام فى إعدادها، بينما "قرفان بك" سحب برشاقة قامته الكيس البلاستيك من تحت مقعده ومشى على الرصيف متسكعاً، لفحتنى الغربة، وحرارة الجو بصورة مقبضة، تطلعت لباب المحطة، هبطت الدرج، أنظر للوجوه من حولى، أسال نفسى من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ ومن هؤلاء؟ وما علاقتى بهم؟ لمحت أمامى على الرصيف لافتة معدنية صغيرة مكتوب عليها رصيف القطار 77، وعندما اقتربت منها وجدتها مقلوبة فهى مثبتة فى عامود بصامولة واحدة، اقترح "قرفان بك فتلة" علىّ فى ورع وهدوء الأتقياء، أن نذهب لصلاة ركعتين فى مسجد سيدى "عبد الرحيم القنائى"، لتحصل لنا البركة، دخلنا المسجد وأنا أحاول أن أتخلص من حقيبتى بسرعة، حملتها بمعاناة لثقلها متبعاً السهم المشير إلى الميضة، خلعت نعلى، وعندئذ تذكرت سيدنا "موسى" عندما أمره رب العزة قائلاً:" اخلع نعليك"، ولكنى لست بالوادى المقدس، وإنما بمديرية أمن قنا؟! فعرفت أنها كانت أمارة سماوية له على الوصول لى منتهى رحلته فى البحث عن الحقيقة فى وزارة الداخلية، وخلعت نعلى فى الميضة لأنى وصلت، فسقطت عنى رخصة المسح على الخُف للصلاة كما كنت أفعل فى القطار، ولكن سيدنا "موسى" كان نبىاً مرسلا، وليس ضابط شرطة ينفذ قرار نقل، فخلع نعلى هنا كان إشارة لتمام تنفيذ تعليمات شئون الضباط، كان صحن المسجد فى هذا التوقيت خالياً إلا من بعض الدراويش، تصفحت وجوههم، عمائمهم، أغلبهم رفاعية، مدد يا رفاعى، وواحد فقط شاذُولى يقف على باب المقام بعمامته الخضراء الكبيرة، وجلبابه المهلهل، ويحمل فى يده عصى خشبية، وضعها على كتفه "كتفاً سلاح"، ويسير بالخطوة العسكرية النشطة، واضعا يده اليسرى خلف خياطة الجلباب الوهمية، رافعا قدمه لأعلى، يقف فجأة، انتباه، "جنباً سلاح"، "سلام سلاح"، ويعود من جديد الى الوضع "كتفاً سلاح"، "الله اكبر"، على من نقلنى هنا، وكأن الدرويش يستقبلنى بتشريفة عرض السلاح الصامت، "نويت صلاة ركعتى شكر"، "حسبى الله ونعم الوكيل"، "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وقرأت الفاتحة لسيدى "القنائى"، وأهل البيت، ولما خرجت من المقام سألت "قرفان بك فتلة" :"على فين الوقت؟"، فقال بقرف :" أصبر علىّ.. أنت من سكة وأنا من سكة"، فوعدته بعدم سؤاله عن أى شئ مرة أخرى، بحثنا عن مواصلة إلى مديرية أمن قنا التى لا نعرف عنوانها؟ وقفنا أمام دفتر أحوال المديرية والتى كانت فيما تبدو مقراً لشيخ العرب "همام"، سمعت قرقعات خطوات المماليك على أخشاب الدور العلوى، قمت بالتوقيع بحضورى تنفيذا لقرار النقل وأخذت البند والساعة، وكذلك فعل "قرفان بك فتلة"، إلا أنه تركنى على السلم الصاعد لمكتب شئون الضباط لمعرفة مكان عملى تحديداً، وأدار لى ظهره وعاد متجهاً إلى الباب الخارجى، سألته بعلو حسى:" على فين يا فلتة؟"، فأجاب دون أن ينظر لى:" أنا مروح ..راجع.. أنا مريض..وملازم الفراش.. بلا قرف!!".