الجمعة 19 ابريل 2024

النعم المجانية مكافأة المتأملين

مقالات26-3-2022 | 22:31

ليست كل النعم التي تجلب السعادة هي بالضرورة نعم تُشتَرى، والأمر لا يتعلق فقط بالتعليمات الدينية التي تحضنا على تقدير نعم الله في المطلق، لكنه يتعلق برؤية كل فرد للعالم المحيط به، وفقًا لنشأته وقناعاته، لا مستواه الاجتماعي أو المادي.

فنعم الله اللانهائية التي نشترك فيها جميعًا وننتفع بها تحت نفس السماء وعلى نفس الكوكب ليست محل نقاش أو تعداد أو تفنيد أو مزايدة، لكنها النعم الأخرى التي أصبحنا نأخذها على محمل الضمانة المُطلقة أو على سبيل التسلسل الطبيعي للأحداث الزمنية، في حين أنننا أصبحنا نعيش زمن اللابديهيات.

الأمر جدًا بسيط وملهم ومحل تأمل، فكل لون أخضر أو أزرق في الطبيعة المحيطة هو نعمة، وكل نور ساطع من نافذة أو باب هو نعمة، وكل طفل أو أكثر في عائلة هو قلب النعمة، سعيك على عملك واهتمامك بتفاصيل أسرتك هما نعمة، كل فكرة إيجابية تمر على عقلك هي نعمة حتى وإن كانت مجرد ابتياعك لقلم جديد، بحثك عن العلم والمعلومة وتحصيل الاستفادة هو نعمة، إيجاد حلول لآخرين وسعيك لقضاء حاجاتهم هي نعمة، نظرتك التفاؤلية مهما اشتدت قتامة المشهد وحسن ظنك بالله هما أعظم نعمة، رائحة أحبائنا وصوتهم وأحضانهم هم نعمة وقوة وشفاء من أمراض الحياة.

الأمر ليس بالسطحية ولا الرفاهية ولا المبالغة التي قد يظنها البعض في تفسير الأمور، ولا هي المدينة الفاضلة أو الرؤية الأفلاطونية، بل هو بما يأتي بين السطور ولا نلتفت له إلا حينما يذهب ولا يعود، تلك النعم المجانية التي لا تقدر بأثمان ولا نعيرها بالاً أو اهتماماً هي الترياق الحقيقي لتفاصيل أيامنا التي أصبح الامتعاض والاعتراض والانتقاص من قدرها يكسوها.

كانت أبسط التفاصيل كفيلة بأن تصنع يومي منذ صغري وأن تجعلني وكأنني أحلق خارج الإطار الزمني والمكاني للأحداث، شجرة الياسمين التي كنت أشتم رائحة عطرها وهي تكسو أرضية بعض العقارات في طريقي لمدرستي، الطريق "الصحراعي" الذي اخترعه أخي بديلاً عن الطريقين الزراعي والصحراوي الذي كنا نسلكهما مشياً من المنزل إلى المدرسة مع باقي جيراننا، طبق القلقاس الساخن الذي كنت أنتظره من يد أمي بعد العودة، المسابقات والفوازير التي كان ينظمها أبي لأطفال العائلة في مناسبات أعياد الميلاد وفزورته الشهيرة التي أوقع فيها الكبار قبل الصغار (أي الفريقين ينهي تقشير برتقالته أولا، أصحاب البرتقالة المقشرة أم التي بدون قشر) ثم مكافته للفائز بأقلام لا ألعاب كما هو معتاداً. 

تلك التفاصيل وغيرها من آلاف المواقف والأفكار والذكريات التي شكلت مخرزوناً استراتيجياً يضاهي صوامع القمح التي نتعيش منها لاستمرار الحياة، فثقتي في الله التي بدأت منذ طفولتي -لا بعد كامل إدراكي- كانت درعي الذي لم أكن أعلم عنه دون وعي، فقد كنت أشكي له كل همومي في ورقة وأقوم بربطها بخيط ثم أفلتها من نافذة حجرتي وأنا على يقين أنها ستعلو وتعلو إلى أن تصله، الله وحده أعلم كم من جيراني سقطت عندهم عشرات البالونات بعشرات الأوراق التي تحمل هرطقات طفلة، لكنها كانت على يقين بالاستجابة أو على أقل تقدير بحل المشكلات وفقًا لمفهوم الصغار.

ممارسة التأمل كل فينة وأخرى تقود الفرد إلى إعادة تقييم الأمور والنظر إليها بطرق مختلفة، الفائز هو من يمعن ويخرج بالنتائج المنطقية التي تؤكد أن النعم المجانية التي منحها لنا الخالق على اختلافها وتنوعها وتعددها واستمراريتها هي جواز مرور للحياة من أوسع الأبواب، وهي الجائزة التي يمنحها الشخص لذاته مكافأة على حسن تقديره للتفاصيل وثناياها.

دمتم في نعم من الله، ودام تقديركم لها.