تُعد قضايا الأمن القومى من الأمور ذات الطبيعة الخاصة، وتُصنف عادة بأعلى درجات السرية، ولا يطلع عليها سوى المسئولين المُصرح لهم بالاطلاع، وحتى هؤلاء أيضا لا يمكنهم الاطلاع على كل المحتويات أو الأسرار أو الوقائع، ويرتبط الأمر بحدود معينة لكل فئة ولكل درجة، ويندرج تحت هذه القضايا كل ما يتعلق بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والعلاقات الخارجية والمفاوضات التى تتم بشأن توريدات الأسلحة أو تنظيم فعاليات تدريبية معينة مع بلد آخر أو أكثر، أو المباحثات التى تجرى بين بلدين أو أكثر بهدف خوض حرب ضد عدو مشترك، والأخيرة تحديدا عادة ما تُحاط بأكبر درجات السرية ولا يُعرف عنها الكثير إلا بعد مرور زمن طويل، وحين يكون الحدث ذاته قد انقضت آثاره.
ويبقى لرئيس الدولة وكبار معاونيه والمسئولين ذوى الصلة المباشرة بكل من هذه القضايا الحق الأصيل فى الاطلاع وفى معرفة كافة التفاصيل، وللرئيس وحده الحق فى إعلان كل أو بعض ما يأتى إليه من معلومات فى اللحظة الزمنية المناسبة، إما لشرح موقف أو التأكيد على سياسة ما، أو لجلب تأييد الرأى العام، أو لفض اشتباك فى التفسيرات، وليس ضروريا أن يُعلن الرئيس كل ما يعرفه أو يطلع عليه، فهو الوحيد الذى يقرر ما يُقال وما يجب أن يكون من قبيل الأسرار المُصانة مع الأخذ فى الاعتبار التقاليد المؤسسية والضوابط القانونية، وقد يفوض أحد كبار المسئولين بطرح بعض التفاصيل حول قضية ما وفى حدود معينة وبحيث لا تضر المصالح العليا للبلد.
تقاليد مُتعارف عليها
مثل هذه الأمور باتت من التقاليد المُتعارف عليها فى كل البلدان، وحين يحجب رئيس الدولة قدرا من المعلومات حول شأن ذى صلة مباشرة بمصالح عليا أو له طابع أمنى قومى، فلا تثريب عليه ولا لوم، فهذا حقه انطلاقا من أنه مسئول عن حماية البلاد ومنع تسرب أسرارها إلى الغير. ولذلك فإن ما يُنشر أو يُصرح به من قبيل المكاشفة والعلانية يكون عادة فى حدود المسموح به، وفى حدود ما لا يكشف سرا أو يَضر خطة أو استعدادا معينا. وينطبق ذلك على تفاصيل الإمكانات المتاحة وعلى طبيعة التخطيط وعلى الأهداف المتوخاة.
إن طبيعة قضايا الأمن القومى لأى بلد وتداخلها وتشابكها مع الصراعات الكبرى دوليا وإقليميا تجعلها دائما مثار فضول عند الرأى العام، وحين يُكشف بعض منها فإنها عادة ما تنال حظا وافرا من التحليل والتمحيص ومحاولة سبر أغوارها أكثر وأكثر. وحين يقوم الآخرون بمثل هذا التمحيص فإنهم ينطلقون من حقيقة أهمية بل وضرورة تقدير مدى تعرض مصالحهم الذاتية للتهديد أو الخطر، إذا ما تطورت مواقف معينة على نحو يصطدم بحقوق الدولة ومصالحها، وبالقطع فإن هذه التقديرات تكون عادة أساسا لسياسة محتملة، وغالبا لا ينشر عنها شىء، إلا ما قد يتسرب بصورة غير قانونية.
خبرات الدولة المصرية
مصر بدورها كدولة وكمؤسسات لديها تقاليد راسخة فى حماية المصالح المصرية العليا، وعلى رأسها الحدود والموارد الاقتصادية وحقوق مصر المائية ومنظومة القيم العامة ونمط حياة المصريين، تشكلت لديها خبرات وتراث حول الطريقة الأنسب والأمثل فى التعامل مع قضايا الأمن القومى، ويُستثنى من هذه الخبرات فترة عام حكم الإخوان غير المأسوف عليه، وهو العام الذى شهد استباحة كاملة لهذه الخبرات ولكل المعايير المتعلقة بالأمن القومى المصرى، ولعل ساحة القضاء أثبتت كيف تم تسريب معلومات مصنفة سرية وسرية جدا عن مؤسسات حيوية إلى الغير بمعرفة وعلم الرئيس الإخوانى وكبار معاونيه، وكذلك صدمنا جميعا بالحوار الذى دعا إليه الرئيس الإخوانى لعدد من قيادات حزبية موالية للجماعة الإخوانية ليتحدثوا علنا وعلى الهواء مباشرة بدون أدنى مسئولية تجاه سد النهضة الإثيوبى، على نحو جلب انتقادات لمصر ووضعها فى موضع حرج لفترة طويلة أمام العالم بأسره وخاصة الأشقاء الأفارقة، حتى بعد أن تخلص المصريون من هذا الحكم البائس، ولذا كانت مهمة الحكم الجديد بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ هى محاولة إصلاح هذا الضرر البليغ، والتأكيد على سياسات سلمية مسئولة لحل أية إشكالات بشأن سد النهضة وأسلوب ملئه وإدارته بعد استكمال بنائه من خلال صيغة تجمع بين الحفاظ على حقوق مصر التاريخية فى المياه من جانب، وحق الشعب الإثيوبى فى التنمية بما لا يضر الشعب المصرى من جانب آخر. وهو الأمر الذى تطلب تحركات رسمية فى أكثر من اتجاه وتصريحات وتأكيدات عديدة من الرئيس السيسى وكبار المسئولين المصريين. ففى الحوار مع التليفزيون الإثيوبى ٣٠ مارس ٢٠١٥ أوضح السيسى إمكانية «مراعاة مصالح الشعبين المصرى والإثيوبى بالحوار دون إلحاق أى ضرر بالآخر، فالحوار دائما هو السبيل الوحيد للوصول إلى المصالح المشتركة».
تابع التفاصيل في العدد الجديد في المصور الموجود حالياً في الأسواق .