السبت 1 فبراير 2025

مقالات

حلم أجيال قادمة

  • 13-4-2022 | 18:18
طباعة

قبل سنوات ليست قليلة التقيت بصديق لى وهو باحث متخصص فى التاريخ وكان مهمومًا ومشغولا إلى أقصى درجة لأنه يعد بحثًا علميًا   فى موضوع يتعلق بتاريخ مصر الحديث وتحديدًا فى المجال السياسى، تصورت أن الوقت لا يسعفه من أجل تقديم بحثه إلى الجهة التى تطالبه به لكنه أخبرنى أن الوقت المتاح على موعد تسليم البحث مازال فيه سعة ولكن مايضايقه أمرًا  آخر وهو شح المعلومات التى تتناول موضوع بحثه إلى حد كبير وأن عدم وجود معلومات دقيقة وموثقة فى بحث علمى متعلق بالتاريخ يعنى أنه يصبح قليل القيمة أو يرفض من الأساس. 
طالبته بأن يبذل مزيدًا من الجهد لأجل الوصول إلى المعلومات التى يريدها فى بحثه، نبهنى إلى أن الأمر لا يتعلق بقلة الجهد لكن هناك أمرًا يبدو غريبًا بالنسبة لمجال البحث فى التاريخ المصرى، ثم ابتسم صديقى الباحث قائلا : إن درجة وضوح الحدث التاريخى فى مصر مثل مشاهدة فيلم على شاشة السينما كلما ابتعدت عن الشاشة زاد وضوح الصورة وتأكدت تفاصيلها و عندما تقترب من الشاشة يتلاشى وضوح الصورة وتضيع التفاصيل . 
أبديت عدم استيعاب للمثل الذى ضربه، قال الصديق موضحا إنك لو أردت معرفة تفاصيل أمر ما، سياسى أو اجتماعى وقعت أحداثه فى عصر الرعامسة مثلا ستجد تفاصيل دقيقة لكل ماتريد ومسجلة على الجداريات فى المعابد والمقابر والبرديات بل وصلت دقة التسجيل إلى وجود برديات تسجل محاضر تحقيقات خاصة بجرائم أرتكبت فى هذا العصر وكيف تم إلقاء القبض على مرتكبى هذه الجرائم وستجد كل هذه المعلومات واضحة بشكل كبير رغم آلاف السنين التى تفصلنا عنها، أما لو أردت البحث وتوثيق حدث سياسى أو اجتماعى لم يمر عليه سوى عقد أو عقدين ستجد عشرات الروايات والحكايات ويصل الخيال بالرواة إلى درجة صناعة الأساطير لأنه لاتوجد منظومة توثق هذه الأحداث ويستطيع بعد ذلك الباحث الحصول على معلومة دقيقة يبنى عليها وجهة نظر منصفة فى الحدث التاريخى، وحتى لو وجدت هذه المنظومة فهى لا تطلع باحثًا مثلى على ما يريد الاطلاع عليه خاصة فيما يتعلق بالحدث السياسى بدعوى سرية الوثائق، أكمل صديقى حديثه ،أخطر ما فى هذا سواء بعدم وجود منظومة تسجل الحدث التاريخى الحديث أو وجودها وحجب ما تسجله أن وجهة نظر الخارج خاصة الغربية فى الوقائع التاريخية المصرية الحديثة هى ماتفرض على المتلقى لأن هذا الغربى يقدم آلاف الوثائق المتعلقة بهذه الوقائع لكن من وجهة نظره هو. 
أعتقد أن ماقدمه مسلسل الاختيار 3 من معلومات وتوثيق حول وقائع  سياسية واجتماعية هى من الأهم والأخطرفى تاريخ مصر الحديث قد حل جزءًا كبيرًا من الإشكالية التى واجهها صديقى الباحث التاريخى  وقبل هذا اطلع المشاهد  الذى هو المواطن المصرى المعنى بتلك الأحداث والمتأثر بها على كافة تفاصيلها بحيادية البحث وجدية التوثيق وليس بخيال الدراما. 
يبقى سؤالا هل بهذا الحل الدرامى والكم من التوثيق وما تم تقديمه من  معلومات حول أخطر أيام الأمة المصرية وصراعها الوجودى مع الفاشية الدينية قد حصنا ذاكرة الأمة وأجيالها القادمة ومنحناهم المصل الدائم الذى يعطى للعقل المصرى مناعة دائمة ضد وباء الفاشية ؟ أتصور أن الدراما رغم أهمية ماتقدمه لا تكفى وأن صناعة ذاكرة الأمم وتحصين الأجيال القادمة يحتاج إلى أعمال أخرى لا تعتمد على المرئى فقط بل يجب أن يكون العمل مؤسسيًا وراسخًا فى الأرض ومستمرًا. 
فى متحف الحضارة بالقاهرة الذى أفتتح قبل عام فى مثل هذه الأيام يتم  عرض الأزياء والنوت الموسيقية وغيرها وأغلب ماتعلق بموكب نقل المومياوات وهى فكرة رائعة وحسب تعليق المسئولين عن إدارة المتحف أنها تلقى إقبالا شديدًا من الزوار بل تنافس المحتوى التاريخى للمتحف فى المشاهدة ويحرصون على التقاط الصور مع هذه المعروضات.
يبدو هذا الحرص من الزوار غريبًا فموكب نقل المومياوات لم يمر عليه سوى عام ويمكن مشاهدة كافة تفاصيله على وسائط السوشيال ميديا ولم يتحول بعد إلى حدث تاريخى فلماذا هذا الحرص من الزوار؟ الإجابة يسيرة هناك فرق كبير بين أن تشاهد الحدث من الخارج وبين أن تلاقى الحدث وتكون جزءًا منه حتى لو بالتقاط صورة مع تفاصيله فيمكن للعرض المرئى أن يبهرك ويجذب كافة حواسك ولكن إلى حين، أما الحفر فى الذاكرة وتثبيت المعنى فيحتاج إلى مواجهة الحدث نفسه وبكافة تفاصيله أمامك مباشرة من خلال العرض المتحفى. 
نترك متحف الحضارة ونتجه إلى الولايات المتحدة بالتأكيد الأمريكان هم ملوك صناعة الدراما بكافة تصنيفاتها ويملكون الإنتاج الأكبر فى العالم فى صناعة الأفلام الوثائقية، غير الأرشيفات الأعظم فى كافة المؤسسات الأمريكية التى تحوى كل كبيرة وصغيرة عن التاريخ الأمريكى والدولى . عندما وقعت أحداث الحادى عشر من سبتمبر فى نيويورك انطلقت كافة هذه الماكينات الجبارة للقوة الناعمة الأمريكية لصناعة تاريخ هذا الحدث فأنتجت مئات الأفلام السينمائية ولا يعد من الأفلام الوثائقية، ونشرت آلاف الوثائق كل ذلك من اجل ترسيخ صورة ذهنية فى وجدان مواطنيها والعالم حول الحدث ومن كانوا ورائه، يبدو لنا هنا أن الولايات المتحدة اكتفت بما قدمته من دراما وتوثيقى وأرشيفى حول أحداث الحادى عشر من سبتمبر لا لم تكتف لأن المؤسسات التى تدير القوى الناعمة فى الولايات المتحدة تدرك جيدًا الفارق بين عرض الحدث بكافة تفاصيله وبناء ذاكرة الأمة وتحصين الأجيال القادمة وتثبيت الصورة الذهنية للحدث التى عرضتها الوسائل الدرامية والتوثيقية والأرشيفية.
على مدار 10 سنوات قامت الولايات المتحدة ببناء المتحف التذكارى بنيويورك لتخليد ذكرى أحداث الحادى عشر من سبتمبر ولضحايا الحدث وتكلف إنشاء المتحف مايقرب من مليار دولار، وبني فى موقع برجى التجارة اللذين تعرضا للتدمير على يد تنظيم القاعدة ، وفى يوم افتتاح هذا المتحف فى العام 2014 قال الرئيس الأمريكى السابق بارك أوباما "إن هذا المكان  شيد لتكريم ضحايا الهجوم الشنيع ولكي لا تنسى الأجيال المقبلة تاريخ بلادها وتوعيتهم بما حدث" . 
عندما نتكلم عن مؤسسة متحفية لتخليد حدث معاصر نحن هنا لا نتكلم عن الشكل الكلاسيكى للعرض المتحفى بل الأساليب التفاعلية فى العرض والموجودة فى متحف ضحايا سبتمبر وأغلب المتاحف الأمريكية .
تنقل لك المؤسسة المتحفية  لضحايا 11 سبتمبر كل مايتعلق بالحدث كعرض مباشر صوت وصورة مستخدمين كل التقنيات الحديثة التى تجسد الأحداث وصور كل ضحايا الحادث وتاريخهم وأسرهم وما كانوا يفعلون وقت الحدث، بالإضافة لكل مايتعلق بتنظيم القاعدة حتى لحظة قتل بن لادن ولا يتوقف عمل هذه المؤسسة على هذا فهى مثلها مثل أغلب المؤسسات المتحفية الأمريكية تقدم الدراسات والندوات واللقاءات والشهادات طوال العام حول الحدث الذى تتولاه، يزور هذا المتحف أو بمعنى أدق المؤسسة سنويًا ما لا يقل عن 2مليون زائر من داخل الولايات المتحدة وخارجها. 
 أقامت الولايات المتحدة كل هذه المؤسسة المتحفية من أجل حدث وجدت فيه أنه مفصلى فى تاريخها رغم أن سياسيًا نار الإرهاب ومن أشعلها تبدو آثار الحروق واضحة فى الأصابع الأمريكية التى كانت وراء إشعالها. 
يحتاج الضمير والتاريخ المصرى مؤسسة متحفية تخلد نضال الأمة المصرية ضد الفاشية الإخوانية على مدار قرن حتى المواجهة المصيرية فى ثورة الـ 30 من يونيو مستعينة بكل وسائل التكنولوجيا الحديثة التى تجسد هذا النضال، يجب أن تخلد هذه المؤسسة ذكرى كل ضحايا إرهاب الفاشية الإخوانية منذ ظهورها فى عشرينيات القرن الماضى وبتوثيق دقيق لحياتهم حتى لانناسهم ، تشرح هذه المؤسسة  للحاضر والأجيال القادمة حجم الجرائم والخطر والشر الذى صنعته وتصنعه هذه الفاشية، توضح لهم مدى ارتباط الفاشية الإخوانية بكل ما هو استعمارى وقبيح وطبيعة هذا الكيان الشرير، والأهم تقدم المؤسسة المتحفية كيف انتصرت الأمة المصرية على الفاشية الإخوانية من خلال ثورة الـ 30 من يونيو .. إن إنشاء مؤسسة متحفية لتخليد نضال الأمة المصرية ضد الفاشية هو حلم وحصانة لعقول أجيال حاضرة وقادمة.
 

الاكثر قراءة