السبت 4 مايو 2024

اجْعَلْ لِلْعَمَلِ الواحدِ نِيَّاتٍ صَالِحَةٍ مُتَعَدِّدَة

مقالات13-4-2022 | 19:30

المؤمن الذكي هو الذي يستثمر أنفاسه وحركاته وسكناته، ويتعرض لنفحات الله (عز وجل) وعطاءاته وإكرامه، طالبًا سعة فضله ومزيد ثوابه بتعدد النيات.
النِّيَّة هي الباب وهي المفتاح، وهي التي تعطي الثواب لصاحبه أو تمنع عنه الثواب، والله (عز وجل) إنما يجزي على النيات بإخلاصها.
والنِّيَّة أصل أصيل في استصحاب الثواب العظيم ، وصناعة الخير والجمال في الكون، فمن خلصت نيته صدق عمله وأثيب عليه حتى ولو لم يقم به.
وحتى نستطيع على وجه الدقة فهمَ النِّيَّة، لا بد من الوقوف بتأني وبعمق مع مراحل صناعة العمل.
لقد قال (صلى الله عليه وسلم): "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"( )، والمتأمل لهذا النَّفَسِ المحمديِّ المُنِير، يدرك أن النِّيَّة هي الركنُ الرَّئِيسُ في قَبُولِ الأعمال والثواب عليها ، وأنه يَعودُ على المسلمِ مِن عَملِه ما قصَدَه منه، فمَنْ قصَدَ بعَملِه مَنفعةً دُنيويَّةً لم يَنلْ إلَّا تلكَ المَنفعةَ ، فَلا ثَوابَ له عليها، ومَن قصَدَ بعَملِه التَّقرُّبَ إلى اللهِ تعالَى وابتغاءَ مَرضاتِه، نالَ مِن عَملِه المَثوبةَ والأجر.
وقَصْدُ الإنسان الذي ينال عليه الثوابُ أو يُمنع عنه، إنما يتحقق من بداية الفكرة التي تَرِدُ على الذهن ، أو المعنى الذي ينزل في القلب . ومن هنا لا بد من هذا البيان المُركّز والموجز لمراحل صناعة العمل، الذي كان فكرةً قبل تَرْجَمَتِهِ إلى قول أو فعل أو تصرف أو سلوك أو تعبير ....، فهناك جملة من المراحل يجب أن ينتبه إليها الإنسان، وأن يجعل الله (عز وجل) في خاطره منذ المرحلة الأولى مرورًا بسائر المراحل ليصل إلى العمل الذي يصنع به خيرًا وجمالًا، ويعود نفعه على الكل، ومن ثمَّ ينال الخيرَ والثوابَ منه (عز وجل)، وهذه المراحل هي: (الخاطر، والهاجس، وحديث النفس، والهَمّ، والعزم، ثم النِّيَّة  والتنفيذ "العمل).
• والخاطر: هو معنى من المعاني عَبَرَ وخَطَرَ في القلب ولم يستقر، بمعنى أنه كان مجردَ عابرٍ وانتهى، ولم يأخذ مساحةً لا من استقرارٍ ولا من تفكير  .
• والهاجس: هو معنى من المعاني عَبَرَ وخَطَرَ في القلب واستقر، بمعنى أنه بدأ يتردد ويملأ النفس.
• وحديث النفس : هو معنى من المعاني عَبَرَ وخَطَرَ في القلب واستقر، وزاد التفكير فيه، بمعنى اتساع الفكرة وأخذ مساحة من تأملها ، حتى بدأ التفكير في كيفية تنفيذها، إلا أنه مع هذا لم يؤخذ القرار بشأن التنفيذ أو لا.
• والهمّ: هو معنى من المعاني عَبَرَ وخَطَرَ في القلب واستقر، وزاد التفكير في كيفية تنفيذه، ثم تَرَجَّحَ أن يفعل أو لا يفعل ، بمعنى أن الهمَّ هو مرحلة أخذ القرار.
• العزم: هو جزم الأمر بالفعل أو عدمه. 
• النِّيَّة: وهي الاقتران بالتنفيذ.
والثلاثةُ الأُوَل (الخاطر والهاجس وحديث النفس) غير معتبرة في الطاعة ولا في المعصية؛ ذلك لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : " إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتي عَمَّا حَدَّثَتْ به أَنْفُسَهَا، ما لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَكَلَّمْ بهِ"( )، فهذا النص النبويُّ المشرّف مَظهَرٌ مِن مَظاهرِ رَحمته (عز وجل) بهذه الأُمَّةِ، حيثُ إنه سبحانه وتعالى لا يُؤاخِذ أحدًا بما حدَّثَ به نفْسَه مِنَ الشَّرِ، مِن غيرِ إرادةٍ منه، فهذا مَعفوٌّ عنهُ، ومعنى هذا أنه لا يَترتَّبُ عليه إثمٌ ما دامَ لمْ يَعمَلْ بجَوارحِه هذا الشَّرَّ، أو يَتكلَّمْ به بلِسانِه، وهذا مِن فضْلِ اللهِ علينا، إذن فهذه الثلاثة (الخاطر والهاجس وحديث النفس) لا تؤدي إلى المؤاخذة الشرعية .
أما النوع الرابع: (الهَمّ)، فهو مُعْتَبَرٌ في الطاعة وليس في المعصية . بمعنى أنَّ مَنْ نَوَى طاعةً ، يُسَجِّلُها الله له، وَمَنْ نوى معصيةً، يتجَاوَزُ الله عنها، وهذا يدل على سَعة فضلِ الله (عز وجل) علينا، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) قَالَ: قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً" ( )، ويفهم من هذا النص المشرّف أن مَنْ همَّ بطاعة أو حسَنةٍ ولم يفعلها لعذر أو لغير عذر، تُكتَب له حسنة كاملة، وأنَّ مَنْ هَمَّ بمعصية أو سيِّئة ولم يفعلها، يُثاب على ترْكها؛ لأنه تركها ابتغاء مرضات الله ، وتورع عن أن يُدنّسَ قلبَه بخواطر المعصية.
وأما النوع الخامس: (العَزْم) ، فهو معتبر في الطاعة وفي المعصية ، بمعنى أن الكل مُسَجَّل؛ لأنه عقد العزم على الفعل أو عدم الفعل ، فإن كان في خير كان له الأجر ، وإن كان في شر كان عليه الوزر.
وبناءً على ما سبق : فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يُخْبِرَنَا في قوله الشريف : "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"أنه قبل وقوع العمل يجب أن تجعل الله (عز وجل) في خاطرك منذ بداية الفكرة، وأن يكون تفكيرك هو كيف أستطيع من خلال هذا العمل (الذي لم يصدر بعد) أن أصل إلى الله (عز وجل)، وأن أكون صانعًا للخير والجمال، وأن أكون مانعًا من كل شرٍّ أو قبح؟، فإذا كان هذا الاستدعاءُ مع الفكرة منذ عبورها الأول في القلب، فأنت بذلك قد نجَحَت في ألا تجعل شيئا من الخلائق يصدُّك عن الله (عز وجل)، أو أن يكونَ حِجَابًا بينك وبينه سبحانه وتعالى، ومن ثمّ تأتي تصرفاتُك وسُلُوكياتُك بالخير والنفع وصناعة الجمال .
والإنسان يستطيعُ أن ينالَ الخيرَ الوفير والثوابَ العظيم من خلال تعدُّدِ النيَّات، فينوي وجوهًا كثيرةً في الخير المتعلق بعملٍ واحدٍ ، كمن قصد بالأكلِ دفعَ الجوع، وحفظَ النفس، والتقوى على العبادة، وما أشبه ذَلِكَ، كذلك تعدد النيَّات في الصوم، وفي المُكث في المسجد، والمشي إلى المسجد، وفي الصدقة، وكثير من الأعمال الأخرى، وبسبب تعدد النيات يتعدد الثواب، بل إذا كان الإنسان حريصًا على الحصول على جميع ثواب الطاعة (أيًّا كان نوعها) التي يريد فعلها، لكنه نسي بعض ذلك الثواب أو جهله فإنه -إن شاء الله تعالى- يحصل على جميع ثواب تلك الطاعة ولو نسي بعضه أو جَهلَه؛ لأن هذا ما تقتضيه سعة رحمة الله تعالى وعظيم وفضله، ومعلوم أن فضلَ الله (عز وجل) واسِعٌ ، وعطاءَه سبحانه وتعالى بلا حدّ، لقد ذكر ابنُ الحاج (رحمه الله) في كتابه (المدخل) قولَه : (كُنْت مَعَ سَيِّدِي حَسَنٍ فِي حَائِطٍ لَهُ يَعْمَلُ فِيهِ، وَإِذَا بِشَخْصٍ يَدُقُّ الْبَابَ، فَمَشَيْت إلَى الْبَابِ لِأَنْظُرَ مَنْ هُوَ، فَإِذَا هُوَ سَيِّدِي حَسَنٌ قَدْ لَحِقَنِي، فَسَأَلَنِي عَنْ قِيَامِي بِأَيِّ نِيَّةٍ قُمْت؟ فَقُلْت: قُمْت لِأَفْتَحَ الْبَابَ. قَالَ: لَا غَيْرَ. قُلْت: هُوَ ذَاكَ أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَ: فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيَّ وَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: فَقِيرٌ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ عَارِيَّةٍ عَنْ النِّيَّة، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَامَ لِفَتْحِ الْبَابِ وَعَدَّدَ لِي مَا قَامَ بِهِ مِن النِّيَّاتِ، فَإِذَا هِيَ نَحْوُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ نِيَّةً ( ).
ولتوضيح المثال السابق : فهذا أحد الشيوخ كان جالسًا ومعه أحد تلاميذه ، فقرع الباب ، فأراد التلميذ أن يقوم ويفتح الباب ، فمنعه الشيخ وقام بنفسه ليفتح الباب ، ثم بيّن له لماذا منعه ، فقال : عندما قمتَ لَتَفْتَحَ البابَ كم نيّة نَوَيْتَ ؟ فذكر شيئًا قليلًا ، ربما ذكر أنه من باب التواضع والإجلال لشيخه أن يقوم هو بفتح الباب وليس الشيخ ، فقال الشيخ : أما أنا فقد نويت كذا وكذا وكذا نية .
فهناك فارقٌ بين أن يفتح الإنسانُ الباب بحكم العادة ، وبين أن يفتحه وهو ناوٍ أنه :
• إذا جاءه ملهوف أن يَسُدَّ لَهْفَتَه. 
• وإذا جاءه مُحْتَاجٌ أن يُعْطِيَه. 
• وإذا جاءه جَائِعٌ أن يُطْعِمَه. 
• وإذا جاءه سَائِلٌ أن يجْزِلَ له في العطاء.
• وهكذا...... فهو ينوي عددًًا من النيّات وهو مأجور على عدد هذه النيّات التي نواها إن شاء الله تعالى .فاجعل للعمل الواحد نيات صالحة متعددة.
ومن هنا نقول : إن أَعْظَمَ النَّاسِ مَنْزِلَةً وَأَكْثَرَهُمْ خَيْرًا وَبَرَكَةً الْوَاقِفُ مَعَ نِيَّتِهِ فِي حَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، والذي اسْتَصْحَبَ وجُوهَ الخَيْرِ المُتَعَدِّدَة فِي العَمَلِ الوَاحِدِ.
والمؤمن الذكي هو الذي يستثمر أنفاسه وحركاته وسكناته، ويتعرض لنفحات الله (عز وجل) وعطاءاته وإكرامه، طالبًا سعة فضله ومزيد ثوابه بتعدد النيات.

Dr.Randa
Dr.Radwa