يأتي شهر رمضان المعظم وتتلألأ أصوات قراء القرآن الكريم، وتضم مدرسة التلاوة المصرية العديد من الأسماء البارزة التي تعدت شهرتها حاجز الزمان والمكان، أصوات من الجنَّة تشدو على أرض الكنانة، يمتازون بحلاوة الصوت ووضوح المخارج والتمكن من الأحكام والضوابط، فمصر هي مهد التلاوة، فكما قيل «نزل القرآن في مكة وقرأ في مصر»، فغالبية مشاهير القراء مصريون، وهم من علموا العالم الإسلامي أصول وفن التلاوة بأصوات عبقرية متفردة، وأرسى العديد منهم أسس التلاوة، وكانت تلاوتهم لآيات القرآن الكريم مثار إبهار وتعظيم لكل من استمع إليهم، واستمد من أصواتهم شغفًا لفنون التلاوة والإنشاد الديني الجميل.
ويجتمع المصريون في شهر رمضان المبارك؛ للاستماع إلى آيات الذكر الحكيم، من عدد من الشيوخ الذين أثروا في الوجدان المصري، وتقدم بوابة «دار الهلال» يوميًا خلال الشهر المبارك مقطع إذاعي لأحد اشهر القراء الكرام.
وُلد الشيخ علي محمود سنة 1878 بحارة درب الحجازي، كفر الزغاري التابع لقسم الجمالية بحي الحسين بالقاهرة، لأسرة فقيرة، وأصيب وهو صغير السن بحادث أودى ببصره كاملاً.
التحق بالكُتَّاب بمسجد فاطمة أم الغلام بالجمالية، وحفظ القرآن على يد الشيخ أبو هاشم الشبراوي، ثم رتله وجوده وأخذ قراءاته على يد الشيخ مبروك حسنين، من علماء القراءات القرآنية، ودرس الفقه على الشيخ عبد القادر المزني، والموسيقى على يد الشيخ إبراهيم المغربي، وعرف ضروب التلحين والعزف وحفظ الموشحات الغنائية، كما درسها أيضاً على شيخ أرباب المغاني محمد عبد الرحيم المسلوب، الأستاذ في علم الموسيقي في القاهرة حين ذاك.
وأخذ يتلو القرآن الكريم في المساجد حتى ذاع صيته بعد ذلك وأصبح قارئاً كبيراً يتلو القرآن في مسجد الحسين، وصار الشيخ علي محمود أحد أشهر أعلام مصر، قارئاً ومنشداً ومطرباً، وبجانب ذلك أخذ الشيخ علي محمود علوم الموسيقى الأخرى على يد الشيخ التركي عثمان الموصلي، واستفاد منه في الاطلاع على الموسيقى بكل علومها وقواعدها وأداءها، مما جعله أحد أشهر أعلام مصر قارئاً ومنشداً ومطرباً، وبلغ من عبقريته أنه كان يؤذن للجمعة في الحسين كل أسبوع أذاناً على مقام موسيقي لا يكرره إلا بعد عام، وصار منشد مصر الأول الذي لا يعلى عليه في تطوير وابتكار الأساليب والأنغام والجوابات.
وفي 3 يوليو 1939 جاءت التلاوة الأولى للشيخ على محمود كقارئ معتمد ببرامج الإذاعة المصرية في السابعة وخمس عشرة دقيقة، حسبما ذكرت جريدة الأهرام في نفس اليوم، وتضمنت التلاوة التي جاءت من بداية المصحف "فاتحة الكتاب" والربعين الأول والثاني من سورة "البقرة"، وبلغ زمن تلك التلاوة أربعين دقيقة، واعتمدت الإذاعة منذ ذلك اليوم الشيخ علي محمود قارئاً للقرآن مساء يوم الإثنين من كل أسبوع، لتتوالى بعد ذلك وبانتظام لم تقطعه مشاركات الشيخ في الاحتفالات الخاصة بالمناسبات الدينية، ومنها حفل أقيم بدار الأوبرا الملكية بالقاهرة في ذكرى عقد قران الملك فاروق والملكة فريدة، وافتتح الشيخ وقائع الحفل بعد عزف السلام الملكي بتلاوة قرآنية بلغ زمنها ربع الساعة، وهو الذي أنشد عقد قران ولي عهد إيران وشقيقة الملك فاروق.
وقد نزل الذكر الحكيم على رسولنا الكريم بلسان عربي مبين، إلا أن لغة العرب كانت متعددة اللهجات، فأنزل الله كتابه موافقا لتعدد لهجاتهم من باب التيسير، فقد جاء هذا الدين برفع المشقة والحرج، وهكذا فقد يسّر الله – عزّ وجلّ – تلاوةَ هذا القرآن على الأمَّة في القراءات المتواترة، وأنزله على أحرف سبعة؛ لأنه هو الدستور الذي تحيا به أمة الإسلام.
ومن هنا نشأ علم القراءات، وهو اصطلاحًا ما تمت نسبته من القراءة إلى أحد أئمةِ القراءات العشر المشهورين، وقد عرف ابن الجزري القراءات بأنها: "علمٌ بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها مَعزوًا لناقله"، وقال الدمياطي: "علم يُعلم منه اتفاق الناقلين لكتاب الله تعالى واختلافهم في الحذف والإثبات والتحريك والتسكين والفصل والوصل، وغير ذلك من هيئة النطق والإبدال وغيره من حيث السماع".
وقد اقر رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – الصحابة الكرام على مختلف لهجاتهم، وكان يقرئ كل قبيلة بما يوافق لهجتها، فحرص ممثلوها أشد الحرص على ملازمة تلك القراءات التي يعلمهم إياها حرفا بحرف، وحركة بحركة.
وقد نقل التابعون هذه القراءات عن الصحابة بدرجة فائقة الإحكام والدقة والتجويد، وقد كرس ذوو الهمم العالية منهم حياتهم وأعمارهم وجهودهم لإقراء القرآن وضبط ألفاظه وتحقيق رواياته، وجعلوا هذه المهمة الرفيعة هدفهم الأوحد وشغلهم الشاغل، فأصبحوا أئمةً كمصابيح الدجي يقتدى بهم، ويؤخذ عنهم، وتشد إليهم الرحال، وقد نسبت القراءات إليهم.
وفي أواخر عهد التابعين؛ تسللت الكثير من مظاهر العجمة، وبعض من بوادر اللحن إلى القراءة، فانتفض علماء القرآن الفطناء، وأئمته الأتقياء، وعنوا بحصر القراءات وضبطها، وتحري أسانيدها، ونبذ ما شاذ من القراءات، فحازوا ثقة القراء واجتمع عليهم العلماء، وجابت شهرتهم الأمصار، إنهم أئمة القراءات العشر الأخيار، الذين تواترت قراءاتهم، وثبتت رواياتهم، ومن بين تلك القراءات التي اعتمدها العلماء:
1-نافع: وهو أبو رؤيم قارئ المدينة من تابعي التابعين توفي في المدينة196هـ، وراوياه هما: "قالون" وهو عيسى بن مينا المدني، و"ورش" عثمان بن سعيد المصري.
٢-ابن كثير: عبد الله بن كثير قارئ مكة تابعي توفي بمكة 120 هـ، وراوياه هما: "البزي" أحمد بن محمد بن بزة المكي، "قنبل" محمد بن عبد الرحمن المكي.
3-أبو عمرو: زبان بن العلاء البصري توفي بالكوفة 154هـ، وراوياه هما: "الدوري" حفص بن عمر، "السوسي" صالح بن زبان.
4-ابن عامر : عبد الله بن عامر تابعي دمشقي توفي بها سنة118هـ، وراوياه هما: "هشام" بن عمار الدمشقي، "ابن ذكوان" عبد الله بن أحمد القرشي.