لم ينشأ الشعر العربي المعاصر من فراغ، وإنما جاء نتيجة تفاعلات كثيرة، يرتبط بعضها بالحالة الاجتماعية والسياسية والفكرية، التي مثلت فترة مخاض عسير كان من نتائجها بروز هذا الشكل التعبيري الذي فرضته الظروف السياقية آنذاك.
وقد كان الشعر الحر القالب التعبيري الملائم لمواكبة التحولات التي مست جسم المجتمع، حيث وجد فيه الشعراء حرية جعلته يصادف هوى في نفوسهم، وبحيث تقتضي معالجة الواقع وجدوا فضاء أرحب وأوسع، وهو ما لم يكن متوفرا في القالب القديم.
وقد كان لتلك التحولات التي شهدتها المجتمعات العربية أثرًا كبيرًا في بلورة الظاهرة الجديدة، فكان لزامًا على الشاعر أن يتجاوز حدود الذات إلى واقع المجتمع، ويواكب ما يجري فيه من أحداث وتطورات، وهو ما جنح إليه الشعراء المعاصرون جاعلين من الصراعات العربية مسرحًا لإبداعهم، وملتقى لأفكارهم.
وقد كان صدى القضية الفلسطينية يتردد في كيان الشاعر العربي، ويحرك وجدانه وأحاسيسه، لذلك مثلت هذه القضية قبلة الشعراء، فتناولوها بكل ألوانها، ورسموا لوحات حزينة عن مآسيها، بل اعتبروها الذات الوجودية الحقيقية للعرب والمسلمين.
فنرى أمير الشعراء أحمد شوقي يقول:
جاشتِ الأشواقُ وانزاحَ الكَرَى *** ولظى الحُزنِ بلَيلِيْ مؤنِسِيْ
آهِ! لو أمكنَ يا روحَ السُّرَى *** ما برحْتُ لحظةً في مجلِسي
كنتُ أسريتُ إلى تلكَ الرُّبى *** في بِقاع طُهِّرَتْ مِن دنَس
فلَقدْ طال على القلب النَّوَى *** وهوَى الأشواقِ بيتُ المَقدِس
يا بلادَ النورِ.. يا مهْدَ النُّبوَّهْ *** أزِفَ النصرُ فلا تستسلِمي
لم تزلْ في أُمّتي بعضُ فُتوَّه *** تَنسُجُ الأنوارُ رُغمَ الظُّلَمِ
ولنا -يا قُدْسُ- في الإيمانِ قوَه *** تجعلُ الأبطالَ مِثل القممِ
سيذوق المجرمُ الباغي عُتُوَّهْ *** فاصبِريْ -يا قدسَنا- لا تسأَمِي
ستُغنِّي القدسُ أنغامَ الإِبَاْ *** مِن ذُرَى مِئذَنةٍ في الغَلَس
تشحذُ العزمَ وتدعوْ للفِدا *** طالَ في الأَسرِ ثَرى الأندَلُس
وبكتْ بغدادُ مِن ظُلْمِ العِدا *** كلَّ يومٍ كأسَ ذلٍّ تحتسي
أينَ من يعشَقُ أسبابَ الرَّدى *** ويرى الموتَ شبيهَ العُرُسِ؟
ونرى الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي متاضمنًا مع القضية الفلسطينية ويقول:
العفو - يا فلسطين
أنا.. آسف قوى.
الليل - طويل وحالِك
حالِك - صعب قوى
إتأخرتى.. كتير
إتأخرتى.. قوى
على ما فهمتى الحكاية
كان القوى.. قِوى!!
فاكر يوم ما اتولدتى
استبشرنا.. قوى
دبّ الحماس فى عروقنا
وإيقاعه قِوى.. قَوى
وفى حروبنا المريرة
ونستينا.. قوى
واما اتحمستى يومها
اتحمستى.. قوى
صرتى طليعة أمَّه
فى وقت قصير قوى
أخطأتى فى تقديراتك
فى بلاد غضبت قوى
مات فيها «عبدالناصر»
كان.. سندك القوى
رحلتى ألف مرة
واتعذبتى.. قوى
وصبرتى ع المكاره
وضميرك كان قوى
شلتى حمول تقيلة
وأنينك كان قوى..
واحنا انحزنا لأنينك
وصبرك القوى..
وشِعْرِنا يا غالية
كان حضنك القوى
فلسطين فى قلوبنا
مهما العدو.. قِوى
فلسطين فى عيونا
متبتة.. قوى
جنين.. رفح.. ونابلس
واللى بعيد.. قَوى
مالهاش فروق قوى
وقسمتها لغزة
ورام الله كتير قوى
إيه اللى باقى فيها؟
خلاص صِغرت قوى
كل العدو ما يزحف
إحنا نكمش قوى
كل العدو - ما يوسع
بيوتنا تضيق.. قوى
شلتى حمول تقيلة
وأنينك.. كان قوى
لكن ما سمعناهوش
دارتيه عنا.. قوى
وعلى ما فهمتى الحكاية
كان القَوِى.. قِوِى!!
ومتأسف يا غالية
أنا.. آسف قوى
إذ سرعان ما اختلفتى
خلاف.. عجيب قوى
وحتى أما اختلفتى عداوتك
كانت قوى...
وصار لك ألف فِرقة
عملوا فُرقة.. قوى
اتفرقت بهمة.. اتفرقت قوى
آدى العدو ميت فرقة
يبانوا.. بعيد قوى
أحزاب كئيبة غريبة
متفرقين.. قوى
لكن فى الحرب ضدك
متوحدين قوى
هذا العدو اللى شافكم
بتبعدوا.. قوى
ماعادش يخاف وجودكم
من موقعه القوى
خلاص هرش الحكاية
وفهم حالكم قوى
استفرد بالفصايل
وأضعف القوى
وآسف يا فلسطين
فعلاً.. آسف قوى
الليل لاكْحَل بيكْحَل
وبيعتّم قوى
وانتى الصابرة الصبورة
صبرك.. طِوِل قوى
على ما فهمتى الحكاية
كان القوى.. قِوى!!
وقال الشاعر المصري أحمد محرم:
فلسطينُ صبراً إنّ للفوز مَوْعِدا...فَإِلَّا تفوزي اليومَ فانتظري غدا
ضمَانٌ على الأقدارِ نصرُ مُجاهدٍ...يرى الموتَ أن يحيا ذليلاً مُعَبَّدا
إذا السّيفُ لم يُسْعِفْهُ أَسْعَفَ نَفْسَهُ...بِبأسٍ يراه السّيفُ حتماً مُجرَّدا
يَلوذُ بِحدَّيْهِ ويمضي إلى الوَغَى...على جانبيهِ من حياةٍ ومن رَدَى
مَنَعْتِ ذِئابَ السُّوءِ عن غِيلِ حُرَّةٍ...سَمَتْ في الضّواري الغُلْبِ جِذماً ومَحْتِدا
لها من ذويها الصّالحين عزائمٌ...تَفُضُّ القُوى فضّاً ولو كُنَّ جلمدا
إذا صدمت صُمَّ الخُطوبِ تَطَايرتْ...لدى الصّدمةِ الأُولى شَعاعاً مُبدَّدا
لكِ اللهُ من مظلومةٍ تشتكِي الأَذَى...وتأبَى عوادِي الدّهرِ أن تبلغَ المَدَى
جَرَى الدّم يسقِي في ديارِكِ واغِلاً...من البَغْي لا يَرْضَى سوى الدّمِ مَوْرِدا
تجرَّعه ناراً وكان يظنُّه...رحيقاً مُصَفَّى أو زُلالاً مُبرَّدا
كذلك يُشقِي وعدُ بِلفورَ مَعْشراً...مناكيدَ لاقوا منه أشقى وأنكدا
نَفَتْهُم فِجاجُ الأرضِ من سوءِ ما جَنَوْا...فجاءوا على ذعرٍ عَباديدَ شُرَّدا
يُريدون مُلكاً في فلسطين باقياً...على الدّهرِ يحمِي شعبَهم إن تمرَّدا
يُديرون في تهويدِها كُلَّ حيلةٍ...ويأبى لها إيمانُها أن تُهوَّدا
بلادٌ أعَزَّتْها سيوفُ مُحمّدٍ...فما عُذرُها ألا تُعِزَّ مُحمَّدا
أفي المسجدِ الأقصَى يَعيثُ الأُلىَ أَبَوْا...سوى المالِ طُولَ الدّهرِ ربّاً ومسجدا
أَحَلُّوا الرّبا فالأرضُ غُبْرٌ وُجوهُها...تُرينا الصّباحَ الطّلقَ أَقْتَمَ أَرْبَدا
تَنُوءُ بأعباءٍ ثِقالٍ من الأَذَى...ويُوشِكُ فيها الخَسفُ أن يتجدَّدا
رموها بخطبٍ هدَّ مِن أهلِها القُوَى...وغَادَرَهُمْ مِلءَ المَصارعِ هُمَّدا
أَيُمْسِي عبيدُ العجلِ للنّاسِ سادةً...وما عرفوا منهم على الدّهر سيّدا
لهم من فِلسطينَ القُبورُ ولم يكن...ثراها لأِهلِ الرِّجسِ مَثوىً ومرقدا
أقمنا لهم فيها المآتِمَ كُلَّما...مَضَى مَشهدٌ مِنهُنَّ أَحْدَثْنَ مَشهدا
فَقُل لِحُماةِ الظُّلمِ من حُلفائهم...لنا العهد نحميهِ ونمضِي على هُدَى
نَرُدُّ على آبائنا ما تَوَارَثَتْ...قَواضبُهم لا نَتَّقِي غارةَ العِدَى
نَضِنُّ بهم أن يُفضَحوا في قُبورِهم...ونحمِي لهم مجداً قديما وسُؤْدُدا
وتظل قصيدة لا تصالح للشاعر المصري أمل دنقل باقية ومعبرة بكل ما تحمله من معان، حيث قال:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما فجأةً بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ مبتسمين لتأنيب أمكما.. وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن يا أمير الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
(3)
لا تصالح ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
وتذكَّر..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنتَ أخيك "اليمامة"
زهرةٌ تتسربل في سنوات الصبا
بثياب الحداد
كنتُ، إن عدتُ:
تعدو على دَرَجِ القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي..
فأرفعها وهي ضاحكةٌ
فوق ظهر الجواد
ها هي الآن.. صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداءِ الثياب الجديدةِ
من أن يكون لها ذات يوم أخٌ!
من أبٍ يتبسَّم في عرسها..
وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها..
وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)
ويشدُّوا العمامة..
لا تصالح!
فما ذنب تلك اليمامة
لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً،
وهي تجلس فوق الرماد؟!