كمصريين نتميز عن الأمم التى جاءت بعدنا أننا كنا الأول فى كل شيء، جئنا ثم جاء بعدنا التاريخ، بنينا وشيّدنا، وكنا الدولة الأولى التى لديها جيش، والأولى التى لديها مؤسسات، بل والدولة الوحيدة فى العالم التى يمتلك شعبها توثيقا دقيقا للحياة اليومية ومختلف مجالات الحياة لأجداده الفراعنة منذ آلاف السنين مدونة من خلال النقوش التى حُفرت على جدران مقابر قدماء المصريين، ووثقت أسرار أقدم حضارة أجمع الجميع على عظمتها وهى الحضارة المصرية القديمة.
وفى العصر الحديث تمتلك الدولة المصرية أضخم وأهم وثائق ليس فقط التى تخص مصر، بل تخص المنطقة والعالم كله موجودة فى مكتباتها وأراشيف مؤسساتها الإعلامية، ولايزال الباحثون يأتون قاصدين المعلومة والتوثيق من شتى المؤسسات المصرية التى تعتبر أكبر أرشيف فى المنطقة، بالتالى تمتلك مصر رصيداً كبيراً من الخبرات فى هذا المجال، حتى إن الرواة الشفهيين فى بعض العصور أنقذوا مصر بتسجيلهم بعض الأحداث من فترات تاريخية معينة أو كما يقول الكاتب الأمريكى "راندال جيمسون" إن توثيق الأحداث المختلفة التى يمر بها الإنسان والبلدان ليست مهمة فقط لكى لا ننسى تجاربنا أو لكى نوثق التاريخ لمجرد التوثيق، بل هى مهمة لتحقيق العدالة الاجتماعية فى العالم من حولنا.
جاء مسلسل "الاختيار" ورمى حجراً كبيراً فى مياه راكدة وغفلة عن توثيق ما حدث فى مصر خلال سنوات هى الأعظم والأهم فى عصرها الحديث، إن لم نكتب تاريخنا اليوم ونحن فى قمة الوعى بكل ما جرى، فقد يكتبه غيرنا بمنظوره الخاص ويشوه الحقائق ويزيفها لتتناسب مع توجهاته وأيديولوجياته وتتكرر أخطاء ثورة 23 يوليو 1952 عندما انشغلت الدولة المصرية عن كتابة وتوثيق أحداث الثورة والآن تحصل كل الأبحاث والدراسات عن هذه الفترة من مصادر أغلبها كتبها الطرف الثانى ونشرها على نطاق واسع خاصة فى الغرب، وبالتالى فنتائج هذه الدراسات والأبحاث عن هذه الفترة غير دقيقة.
ولأن قراءة التاريخ تهدف فى الأساس لزيادة وعى المجتمعات بأوطانهم، واعتزازهم بأمتهم، إذ يعد التاريخ ملهماً ومحفزاً للإنسان لإخراج إبداعه، ما يجعل للتاريخ قيمة كبيرة فى ترسيخ مفاهيم الوطنية والانتماء، فدائماً ما تكون أهمية التاريخ لمعرفة الأبناء كفاح الأجداد حتى وصلوا لما عليه الآن من استقرار وأمان، ودائما ما يعرف فى أذهان قارئى التاريخ أن التاريخ هو الأحداث القديمة والتى مرتّ عليها السنون وأن أبطاله احتوت الأرض رفاتهم، مما يجعلها عرضة للتشكك والاتهام بعدم الدقة فى الروايات التاريخية.
ولكننا بصدد الحديث عن التوثيق الآنى لأحداث تمت فى الوقت القريب، ولأن التاريخ له مصادر عديدة، وله طرق متعددة لكتابته، إلا أننا نقتصر هنا على التوثيق التاريخى عن طريق الدراما التليفزيونية، وخاصة ونحن فى شهر رمضان والذى تكثر فيه الأعمال الدرامية، لكن فى هذا الشهر الكريم من العام الحالى لفتت الأنظار مجموعة أعمال توثق لأحداث تمت خلال السنوات الأخيرة، وبالتحديد منذ أحداث يناير 2011 مروراً بثورة 30 يونيو المجيدة وما تلاها من أحداث عشناها ولايزال أبطالها أحياء يرزقون.
وهنا لُب الموضوع وسبب لفت الأنظار، إنها جرأة تُحسب لصناع أى عمل درامى يوثق لأحداث تمت وأبطالها مازالوا يعيشون بيننا، وأظن أنها أصعب طرق التوثيق والتأريخ للأحداث وخاصة إذا كانت أحداث جسام كان لها تأثير على مسيرة وطن بحجم مصر.
وبما أن المنتصر هو من يكتب التاريخ، كما يقول جميع المؤرخين، فإنه يجب علينا كتابة تاريخنا ونحن فى قمة وعينا به قبل أن يكتبه آخرون ويزيفونه ويشوهون حقائقه بهدف طمس إنجاز يحسب للمصريين ولجيشهم العظيم، وليعرف الجميع ملحمة الفداء والتضحية التى قدمها أبناء هذا الوطن المخلصين لتخليصهم من سرطان إخوانى كاد يعصف بأمة لها تاريخها ويقزمه أمام أحلام السلطة الواهية لأعداء الداخل وهدم الدولة ومؤسساتها من أعداء الخارج واتفق الأعداء جميعاً على طمس هويتها وكسر إرادتها، لكن عناية الله أنقذت البلد من مصير محتوم.
ا
لدراما أيضا توثق من خلال عرض التسجيلات فى سياقها التاريخى والدرامى مثل مسلسلى "الاختيار" و"العائدون" اللذان يوثقان لفترة من أهم فترات تاريخ مصر المعاصر، وهى الفترة التى أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى ثورة 30 يونيو والأحداث التى تلتها، ونرى فى الاختيار حفظاً للتاريخ على لسان معاصرين للأحداث لهم مصداقيتهم من أبناء الشعب، ويصور الوقائع كما هى بجميع حيثياتها من أحداث اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية، خاصة بعدما حدث نوع ما من تحريف بعض الأحداث وتشويهها، لذا كان لابد من توثيق كل حدث بكل حيادية لتعلم الأجيال الحالية والقادمة ما مرت به البلاد من أحداث كانت سببا فى تأخير كثير من الخطط التنموية، بل وكادت تدخلنا فى فترات صعبة لولا عناية الله ووضعه لأشخاص تحملوا المسئولية لا يبغون منها سوى وجه الله وإنقاذ مصرنا من براثن جماعة إرهابية فاسدة، حيث عكفت جماعة الإخوان الإرهابية على مدار السنوات الماضية بعد أن عزلها الشعب من الحكم بعدما ثبت فشلها وخيانتها، على تكريس فكرة المظلومية وتزييف الحقائق التى لم ينسها التاريخ وتخريب وعى المواطن بالأكاذيب، مخططات خبيثة للهيمنة على الدولة وتفخيخها بعناصرها بهدف أخونتها، إلا أن جهودهم فى هذا الأمر ذهبت هباء منثورا، حيث نجح مسلسل الاختيار 3، فى كشف ألاعيبهم ورغبتهم فى السيطرة على مصر، ووثقها بمقاطع الفيديو والصور، واعترافات قيادات الإخوان بالصوت والصورة على أنفسهم والتى كشفت نواياهم الخبيثة، وحجم المؤامرة التى كانت تقوم بها جماعة الإخوان الإرهابية والجماعات المتطرفة التى كانت تدعمها.
وأظن أن التوثيق كان ضروريا فى تلك المرحلة بل بات أمراً ملحا بسبب ما تتعرض له ثورتنا الأبية (30 يونيو) من تشويه متعمد، بعدما قلت نسبة القراءة الورقية، لذا كان لابد من استخدام الدراما فى التوثيق لتوازى التأثير الواقع والواسع من وسائل التواصل الاجتماعي، فكانت أهمية الدمج ما بين التوثيق الحقيقى والدراما لتفهم الأجيال الجديدة تاريخها وما يسببه هذا من نتائج اجتماعية وسياسية لا يمكن الاستهانة بها، وكل هذا يفرض مسئولية أكبر على المؤرخين والمثقفين، وكذا الإعلام لمواجهة هذا التحدى الكبير.
التسجيلات الخاصة بالإخوان والتى يتم عرضها بعد نهاية كل حلقة من المسلسل بالصوت والصورة نجحت فى الوصول بالمعلومة والشرح للرأى العام الجمعي، ووضعه أمام مفردات خطورة مخططات الإخوان، التى كانت تستهدف الدولة وأمنها والمنطقة العربية بالكامل، مستغلا تأثير الأعمال الدرامية خاصة مع وجود إثباتات بها وغير قابلة للتأويل.
الاختيار والعائدون ملاحم وطنية جسدت معاناة الشعب المصرى والتحامه فى مواجهة جريمة اختطاف الدولة، ومحاولة طمس الهوية المصرية، والإصرار على التلاعب بعقل الشعب المصرى ومشاعره من أجل حصول فئة على مكتسبات طالما سعوا إليها مئات السنوات لهدم الدولة، وهم جماعة الإخوان، لذا فمسلسل الاختيار هو عمل ملحمى هادف تجتمع حوله العقول للارتقاء بمشاعرهم.
هذه الأعمال الدرامية حائط صد فى محاولة طمس الهوية المصرية ومنع اضطراب الهوية، وأحبطت محاولات لغسل عقول الشباب وطمس الهوية، هنا لابد أن نلتفت إلى التحصيل الفكرى لأبنائنا ضد الفتاوى الإخوانية التكفيرية، ما يجعلنا ننجب جيلا وسطيا يتمتع بسماحة الإسلام ويجعل الشباب يتعامل مع مشاكل مجتمع بشكل أحسن ولا يسمح للعبث فى عقله.
هذه الأعمال جسدت قيمة الروح الوطنية والترابط بين أبناء الوطن، وأكدت على معانى الثقة المتبادلة بين الشعب ومؤسساته وقيادته، ما رفع الروح الوطنية فى نفوس الشباب وأعطتهم الشعور بالانتصار على الإخوان، وهو حماية مرجعية لتراه الأجيال القادمة.