الأحد 5 مايو 2024

فنان العمال.. كريم العنصرين


رضا سليمان

مقالات12-5-2022 | 14:36

رضا سليمان

بعد مرور الدقائق الأولى من فيلم "أغنية على الممر" يحكي أحمد مرعي "حمدي" كيف تعرض لمواقف غريبة مع المطربة والراقصة "سهير الباروني" حيث تم رفض ألحانه بحجة أن "السوق" يطلب نوعية معينة من الألحان، يرفض ذلك ويخرج مهمومًا ليسير في الطريق المظلم فإذا بدندنات آتية من مجموعة "عمال" يعملون بجد واجتهاد بعضلاتهم بينما يتحرك بينهم عامل صاحب صوت رائع يغني وهم يرددون خلفه، لحن رائع يتغلغل إلى قلب الفنان الخارج من "هزل" طبقة ماجنة ليندمج بروحه، ونندمج معه نحن كمشاهدين، مع طبقة العمال وهم يشدون بكلمات العبقري "عبدالرحمن الأبنودي" وألحان "حسن نشأت". ولنتذكر معًا بعض كلمات هذه الأغنية البسيطة والرائعة:   
على النبى، صلى على النبى.. على النبى .. وصلى على النبى ..  

عدينىي .. يا ريس عدينى ..  عدينى يا ريس عدينى .. وانسانى .. ع البر التانى .. يا سلام .. ع البر التانى
 
هذا العامل الذي يتحرك بجوار العمال يغني لهم ويرفه عنهم، بل ويحمسهم للعمل، يعود بنا إلى البداية الحقيقية لفنان الشعب "سيد درويش" حينما اضطرته الظروف للتواجد بين مجموعة من العمال، وبالصدفة يغني لهم فيطلب منه صاحب العمل أن يستمر في هذه المهمة، الترفيه عن مجموعة العمال بالغناء، ثم تستمر المصادفة لتُغير مسار حياته.   
لنركب معًا سفينة تبحر بنا فى عمق الماضي مائة وثلاثون عامًا تقريبًا ونجلس معًا لنتأمل البحر الذى أعشقه فى هدوءِه وأخشى ثورته وهياجه، وفى الحالتين لا أملُّ تأمله والتهامه ليل نهار، هذا البحر ومع نهايات القرن التاسع عشر يلد لنا ابنا يحمل صفاته فهو هادئ رائع وقت صفوه ثائر متمرد وقت هياجه، يلد ابنه فى ظل احتلال بغيض وبالتحديد فى 17 مارس من عام 1892 ويختار القدر لابن البحر مدينة الإسكندرية ويلقب بالسيادة منذ يومه الأول ليرى الوجود السيد درويش البحر. ويأتي الإبداع من رحم المعاناة، ولا معاناة لشعب أكثر من كونه شعب محتل، ولا معاناة لشاب حر ينمو تحت قياد أجنبي، والفتى "سيد درويش" يرغب فى الاستقرار بعد طفولة حالمة ليبدأ مرحلة الشباب أو هى رجولة مبكرة فيقرر الالتحاق بالمعهد الديني وهو فى عامه الثالث عشر، وحينما يشتد عوده ويصل إلى عامه السادس عشر وأحلامه وآماله تتسع باتساع بحر الإسكندرية الذى يشعر به يملئ قلبه بمشاعر فياضة، يتأمل الجمال حوله، يترك المعهد الديني ويتزوج وهو ابن السادسة عشرة ليصبح مسؤولًا عن أسرة، صوته الذى يناجى به البحر فى ليالي سمره وبين أقرانه ألقى به بين بعض الفرق الغنائية الصغيرة لكنها لا تحقق طموحه ولا توفر لأسرته الناشئة ما يسد الرمق فينضم ابن البحر إلى عمال البناء يكدح بذراعيه، لكن مزاجه الفني يغلب، فيغنى بين العمال ليُسري عن نفسه قبل أن يسرى عنهم ويكافئ القدر قلبه النابض بالحياة فيأتي باثنين من أهم مَن يعمل بالفن فى ذلك الوقت وهما الأخوين (أمين عطا الله وسليم عطا الله) إلى مقهى قريب من المكان الذى يعمل فيه سيد درويش ويغنى لعمال البناء فإذا بالأخوين ينصتان إلى هذا الصوت العذب الذى يأتى إليهما مع نسمات البحر ولأنهما من أصحاب الخبرة فى هذا المجال فقد أدركا أن صاحب الصوت هو مثل درة فى قلب محارة ترقد فى أعماق البحر القريب يجب الغوص لانتشالها واستخراجها ووضعها فى المكان الذى تستحقه لتبهر الناظر، يقترب الأخوين عطا الله من مكان عمال البناء ولم يجدا صعوبة فى إقناع سيد درويش البحر بمرافقتهما فى رحلة فنية إلى الشام وكان ذلك عام 1908 وكانت تلك نقطة البداية فى حياة سيد درويش الفنية المرتكزة على أصول علمية حيث تعلم فن العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية فقد أدرك أن تلك هى حياته ومنها مكتسبه لمعيشته وفيها يعبر عن ذاته الفنية المتأججة وبدأت رحلة الاحتراف الفنى بعد عودته من الشام حيث لحن الأدوار الغنائية وكان أولها دور "يا فؤادى بتعشق ليه" ويتحول الشاب سيد درويش البحر إلى حديث العامة فى مدينته الإسكندرية لما يتميز به أسلوبه من تجديد وابتكار بالإضافة إلى خفة الظل والسخرية من كل شيء حوله بالغناء وتصل شهرته إلى القاهرة وبالتحديد إلى رائد المسرح الغنائي "سلامة حجازي" الذى يقرر السفر إلى الإسكندرية كى يستمع إليه بنفسه وهناك يبدى إعجابه الشديد بأسلوبه فى التلحين ويقنعه بالسفر معه إلى القاهرة العامرة ويسافر معه فى عام 1914 ولنلاحظ أنه فى هذا العام لم يكن تخطى عامه الثانى والعشرين وفى نفس هذا العام أيضًا يشتعل فتيل الحرب العالمية الأولى ويظهر المطرب الشاب سيد درويش ابن البحر فى خضم هذا المعترك العالمي الثائر لأول مرة مطربًا أمام الجمهور بين الفصول المسرحية ويكون الاستقبال على غير ما يتوقع الشيخ سلامة حجازى الذى يخرج إلى الجمهور ويخبرهم بأن هذا الشاب هو عبقري المستقبل لكن هذا الموقف يؤثر بشدة فى سيد درويش فيعود فى اليوم التالى إلى الإسكندرية ويستقر فيها يبدع ويلحن ويغنى حتى يأتيه الشيخ سلامة حجازى فى عام 1917 ويطلب منه مرافقته إلى القاهرة لتلحين رواية "فيروز شاة" لفرقة جورج أبيض المسرحية وكانت بداية مثيرة أنبته لها الجمهور والفرق المسرحية الأخرى حيث أدرك الجميع أهمية اللحن الغنائي داخل الرواية فكان أن تزاحمت الجماهير على العروض التى يلحنها سيد درويش مما جعل الفرق المسرحية الأخرى مثل فرقة نجيب الريحانى وفرقة على الكسار أن تسعى لاجتذاب هذا الملحن الشاب إليها وهذا ما جعله فى سنوات قليلة الملحن الأول فى مصر متفوقًا على المخضرمين آنذاك مثل كامل الخلعي وداود حسنى. وفى الأيام التالية قامت ثورة الشعب عام 1919 فيلحن ابن البحر "قوم يا مصرى" ومن قبلها لحن نشيد "بلادى بلادى لكِ حبى وفؤادى" وله أيضًا "أنا المصري كريم العنصرين" وغيرها الكثير من الأغاني الوطنية الحماسية التى تعبر عن نبض المواطن الحر الذى يتصدى للمحتل وللقيادة الحاكمة الضعيفة فى هذا التوقيت وتلك الأغاني الحماسية كانت تنتشر بين أبناء الشعب بسرعة رهيبة وتتحول إلى شعارات للمتظاهرين وأحاديث العامة على المقاهى وفى الطرقات وهذه الظروف ما جعلت البعض يؤيد نظرية مقتل الشاب سيد درويش البحر ابن الحادية والثلاثين عامًا على يد الاحتلال والقيادة الموالية. وهنا نتألم معًا على هذا الشاب الذى هز عرش الأغنية والألحان فى العالم العربى وأدخلهما إلى مرحلة جديدة فماذا لو طال به العمر سنوات بعد الحادية والثلاثين؟ أحسب أنه كان قد وصل إلى العالمية خاصة وأنه غنى ولحن عشرات الأدوار الغنائية وأربعون موشحًا ومئة طقطوقة وثلاثون رواية مسرحية وأوبريت. وكان من أول أغانيه التى انتشرت على ألسنة العامة والخاصة أغنية "زورونى كل سنة مرة حرام تنسونى بالمرة" ولنأتى إلى ثورته الغنائية حيث كانت أول حفلة أقامها الشيخ سيد في القاهرة فى مقهى "الكونكورديا" وحضر هذه الحفلة مجموعة كبيرة من فناني القاهرة منهم الممثلون والمطربون حتى زاد عدد الفنانين المستمعين عن عدد الجمهور المستمع وفى هذه الحفلة قدم سيد دوره الخالد الذي أعده خصيصا لهذه الحفلة "الحبيب للهجر مايل" وفيه خرج عن الطريقة القديمة المألوفة في تلحين الأدوار من ناحية الآهات التي ترددها "الجوقة" وكانت غريبة على السمع المألوف ولذا انسحب أكثر الحاضرين لأنهم اعتقدوا أن هذه الموسيقى "كافرة وأجنبية" وقالوا بأن هذا الفن الجديد سيهدد الفن العربي الأصيل، وبالطبع إن فئة الفنانين المستمعين لم ينسحبوا لأنهم أدركوا عظمة الفن الجديد الذي أعده الشيخ سيد لمستقبل الغناء العربي. معظم هذه الأغاني التى أدخلها ابن البحر على الغناء العربي أعادها إلى مسامع الشباب مرة أخرى الحفيد إيمان البحر درويش في أفلامه وحفلاته، ولك أن تتخيل هذا الشاب ابن البحر فى بدايات القرن الماضي ولا توجد وسائل تعليم أو تثقيف ولم يمتلك أى وسائل تكنولوجية وكل ما يمتلكه هى موهبة فطرية فقط وبها يقلب حال الغناء ويُحدث فيه ثورة حقيقية من مزج بين اللحن العربي والأجنبي ويضفر الكلمات العربية بالإفرنجية والأكثر تأثيرًا في النفس هو الحس الوطنى لابن درويش البحر سيد حينما يحول كل حادث سياسى إلى أغنية ساخرة فمثلا يرتفع سعر الجاز فيغنى ساخرًا "استعجبوا يا أفندية ليتر الكاز بروبية" وأنشد في جماعة من المتظاهرين ضد الاحتلال الإنجليزي هذا النشيد محمسا إياهم قال "دقت طبول الحرب يا خيالة .. وآدي الساعة دي ساعة الرجالة" ولنلقى نظرة سريعة نتذكر خلالها بعض أهم أعماله الخالدة فنجد "زورونى كل سنة مرة حرام تنسونى بالمرة" وهناك "شد الحزام على وسطك .. غيره ما يفيدك .. لابـد عن يـوم برضــه ويعدلها سـيدك" و"الحلوة دى قامت تعجن فى البدريـة .. والديك بيـدن كوكو كوكو فى الفجرية" وأغنيات "طلعت يا محلا نورها شـمس الشموسه، وعشان ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي، وسـالمة يا سلامة، وخفيف الروح بيتعـاجب برمش العيــن والحاجب" والأغنية خفيفة الظل "مخسوبكو انداس.. صبخ مختاس.. مفيس فلوس.. بقيتو منخوس.. فلستو خلاص" ويقول سيد درويش إن الموسيقى لغة عالمية ونحن نخطئ عندما نحاول أن نصبغها بصبغة محلية، فيجب أن يستمع الرجل اليوناني والرجل الفرنسي والرجل الذي يعيش في غابات أواسط أفريقيا إلى أي موسيقى عالمية فيفهم الموضوع الموسيقي ويتصور معانيه ويدرك ألغازه. عبقرية درويش تكمن في مقدار ما ترك من أعمال فنية للمكتبة العربية بالقياس إلى الأعوام القليلة التى كُتب له أن يعيشها، ويأتي بعدها ما قدمه فى مجال المسرح الغنائي وتوطئة الغناء من خلاله ليكون أداة للتعبير عن الهموم اليومية لشتى طبقات المجتمع، والحقيقة التى لا مراء فيها أن ابن البحر سيد درويش يستحق لقب "أبو الموسيقى المصرية" حيث كانت منزلته الفنية بالشرق كمنزلة "بيتهوفن" بالنسبة للموسيقى الأوروبية رغم السنوات القليلة التى عاشاها وانتهت يوم 10 سبتمبر من عام 1923م.