فى العام 2009 وعندما أعلن وحيد حامد أنه يستعد لكتابة الجزء الأول من مسلسله الجماعة، تواصل معه عدد من قيادات جماعة الإخوان، قالوا له أنهم يمكن أن يوفروا له المراجع التى يمكن أن يستعين بها فى كتابة عمله.
رفض وحيد، وقال لهم أن كل المراجع التى يمكن أن تكون فى مكتباتهم لديه بالفعل، وأنه لا يحتاج إليهم، لأنه سيكتب التاريخ بشكل محايد.
قبل أن يتلاشى أثر اتصال قيادات الإخوان بوحيد، وجد عددا من القيادات الأمنية يتواصلون معه، ويبدون استعدادهم لوضع الوثائق الرسمية والمحاضر وأوراق القضايا التى تخص جماعة الإخوان، وهى حتما ستساعده فى كتابة تاريخ دقيق للجماعة.
رفض وحيد عرض القيادات الأمنية، ورد عليهم بنفس الرد، فلديه كل الوثائق التى تخص الجماعة، وهو يريد أن يكتب ما وصل إليه، لا ما يريده الآخرون.
وعندما شرع وحيد فى كتابة الجزء الثانى من الجماعة فى العام 2017، وجد من يطرق بابه من المهتمين بتاريخ الجماعة، يعرضون عليه المساعدة، لكنه اعتصم بمنهجه، وهو أن يكتب ما توصلت إليه نتائج بحثه وحده.
الآن من حقنا أن نسأل: هل كتب وحيد حامد ما يرضى ضميره، وما يرضى عنه التاريخ؟
أعتقد أن وحيد وهو الدراماتورجى الأعظم فى تاريخنا مات وهو راض تماما عما فعل، وأنه لم يلتفت إلى الانتقادات الكثيرة التى نالت منه، ووضعت مصداقيته على المحك.
لكن هل يكفى رضا وحيد عن نفسه وحده، لنسلم له بأن ما قدمه عن تاريخ جماعة الإخوان فى الجزأين الأول والثانى هو ما جرى بالفعل، أم أنه وهو الذى لم يكن باحثا تاريخيا فى يوم من الأيام لم يكن موفقا؟
أستطيع أن أقول الآن –وهو ما قلته له في حياته– أن ما قدمه لم يكن إلا رؤيته هو، وجهة نظره فيما جرى، لكنه لم يكن معبرا عن الحقيقة، أو ما نعتقد أنه حقيقة.
كان يحلو لوحيد حامد أن يقف فى المنطقة الفاصلة بين النظام والإخوان، لا يميل إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كان يقول أنه صوت الناس، بعيدا عن إدعاءات الجماعة ومزاعم النظام، ورغم أن هذا حقه تماما، لكن يمكننا أن نقبل هذا لو أنه هو الآخر يعبر عن رأيه فى مقال صحفى أو حوار يجريه معه مذيع تليفزيونى، لكننا ولأننا أمام عمل درامى يقول هو أنه توثيق للتاريخ، فمن حقنا أن نراجعه.
حاول وحيد أن يحمى نفسه، ويضع بين مصداقيته ومن يريدون خدشها حاجزا عاليا، فأثبت فى التيتر الأخير لمسلسله بجزئيه قائمة مراجع طويلة، قال من خلالها أنه لم يركن إلى خياله، أو ما يعتقد أنه صحيح، ولكنه أخذ من مراجع الطرفين، ونسج حالة درامية هى إلى الحقيقة أقرب.
مر الجزء الأول من الجماعة دون صخب يليق بأول عمل درامى يسير مع تاريخ الجماعة خطوة بخطوة، ربما لأن حالة الاستقطاب التى خرج فيها الجزء الأول من الجماعة لم تكن قد تمكنت من المجتمع المصرى، لكن فى الجزء الثانى تعرض وحيد إلى ما يمكننا اعتباره سبا وقذفا وتكذيبا وتشهيرا، وجاءه ذلك كله على هامش رصده للعلاقة بين جمال عبدالناصر وسيد قطب، والتى كانت العمود الفقرى للجزء الثانى.
الذين شاهدوا الجزء الثانى من مسلسل الجماعة سيتخيلون أن سيد قطب هو الذى صنع جمال عبدالناصر، ووضع فى رأسه فكرة الثورة، بل ظل إلى جواره مستشارا أمينا له، بل إن البعض يمكن أن يلتبس عليه الأمر ويعتقد أن قطب كان يحرك عبدالناصر مثل الدمية بين يديه.
بدا سيد قطب الذى صنعه وحيد حامد كمرشد يأخذ جمال عبدالناصر من يديه، يضعه على الطريق الصحيح، يصوب له أخطاءه، ويعلمه كيف يفكر وكيف يخطط، ولا يتردد عن تعنيفه إذا ما قال ما لا يعجبه.
واجه وحيد اعتراضات كثيرة على ما صاغه دراميا عن العلاقة بين عبدالناصر وقطب، لكنه أصر على أنه كتب الحقيقة التى استند فيها إلى عشرات المراجع المعتمدة، لكن وحيد سامحه الله لم يكن دقيقا فيما كتبه، وعندما راجعته فيما كتبه فى مقابلة بينى وبينه، وجدته غاضبا ممن هاجموه، وقال لى: إنهم لا يقرأون... وإذا قرأوا فإنهم لا يفهمون، لكن الحقيقة أن وحيد هو الذى لم يقرأ جيدا.
وهنا سأعرض لبعض مما جاء فى مقال مهم كتبه "عمرو صابح" وهو كاتب وباحث مهتم بالتاريخ وكتب العديد من المقالات والدراسات والأبحاث التى تكشف خفايا تاريخنا العربى المعاصر.
لدى عمرو مشروع واضح لإعادة كتابة تاريخ جمال عبدالناصر بالرد على النقاط الخلافية فى تاريخه.
فى مقاله مسلسل "الجماعة 2" وحقيقة العلاقة بين جمال عبدالناصر وسيد قطب، يذهب عمرو إلى أنه تم تصوير عبدالناصر كتلميذ مخلص وتابع أمين لسيد قطب، يستشيره فى شتى الأمور، بدءًا من التخطيط للثورة وصولا لاختيار مسمى الانقلاب العسكرى، وكيفية إدارة البلاد، والتعامل مع الأحزاب السياسية وجماعة الإخوان، ويحتوى المسلسل على عدة مشاهد يبدو فيها سيد قطب كزعيم للضباط الأحرار الذين يجلسون بين يديه كالأطفال، يستلهمون حكمته وحنكته السياسية والفكرية.
يكشف عمرو صابح أن وحيد حامد اعتمد فى رسمه للعلاقة بين عبدالناصر وسيد قطب على كتاب واحد وهو "عبد الناصر والإخوان بين الوفاق والشقاق" الذى أعده سليمان الحكيم ونشره فى العام 2010، وبه حوار مع المستشار الإخوانى الدمرداش العقالى الذى كان من أعضاء الجهاز السرى للإخوان وزعيم الطلبة الإخوان بالجماعة، كما أنه وهذا هو المهم بالنسبة لنا كان الصديق المقرب من سيد قطب خلال مرحلة الطفولة والشباب، حيث كان زوجا لابنة أخت سيد قطب.
فى الكتاب يقول الدمرادش العقالى إن سيد قطب كان مفكر الثورة ومنظرها الأول، وأنه كان رسول جمال عبدالناصر للتجمعات الطلابية، وكان القلم المعبر عن الثورة، وكان يتعامل مع عبدالناصر على أنه العقل وعبدالناصر الجسد، ولا يقبل أن يوجه الجسد العقل، بل يجب على العقل أن يوجه الجسد.
ويرصد عمرو صابح أنه فى الحوارات التى دارت بين سيد قطب وجمال عبدالناصر خلال المشاهد التى جمعت بينهما فى المسلسل، قام وحيد حامد بتحويل مقالات سيد قطب المؤيدة للثورة، والتى كتبها فى الفترة من 8 أغسطس حتى 20 أكتوبر 1952 فى صحف الأخبار وروزاليوسف والرسالة، إلى آراء ومقترحات وأفكار يمليها سيد قطب على عبدالناصر والضباط الأحرار، وهم فى حالة انبهار بحكمته وبراعته السياسية.
ما حدث فعلا وطبقا للمصادر التى استعان بها عمرو صابح، فإن هناك مصدران فقط تحدثا عن لقاء سيد بالضباط الأحرار قبل قيام ثورة 23 يوليو.
المصدر الأول هو مقال للأديب سليمان فياض بمجلة الهلال عدد سبتمبر 1986، وقال فيه إن قطب أخبره أنه كان على صلة بالضباط الأحرار، وكان بعضهم يزوره فى منزله بضاحية حلوان.
أما المصدر الثانى فهو كتاب "سيد قطب من الميلاد للاستشهاد" للكاتب الإخوانى القطبى صلاح الخالدى، ويتحدث أيضا عن علاقة بين قطب والضباط الأحرار، وأن الإعداد للثورة وتنفيذها كان تخطيطا مشتركا بين الضباط الأحرار وقطب.
لكن كل هذا الكلام يتلاشى فى الهواء، لأن من كتبوا عن سيد قطب والضباط الأحرار اعتمدوا على روايات قطب نفسه الذى لم يكن عليها شاهد سواه.
ويعدد عمرو صابح أدلته على أنه لم تكن هناك علاقة بين سيد قطب وجمال عبدالناصر بالصورة التى يصورها لنا من تحدثوا عن ذلك.
أولا: لا توجد صورة واحدة تجمع بين جمال عبدالناصر وسيد قطب، علما بوجود العديد من الصور لعبدالناصر مع حسن الهضيبى ومحمد فرغلى وعبدالحكيم عابدين وعبدالقادر عودة وصالح عشماوى وغيرهم من قادة الجماعة.
ثانيا: سيد قطب فى كتابه "لماذا أعدمونى؟" وهو كتاب يضم شهادته عن علاقته بالإخوان المسلمين وثورة 23 يوليو، ويعده الإخوان من أدبياتهم لم يذكر مطلقا أى علاقة له بجمال عبدالناصر قبل أو بعد الثورة.
ثالثا: ليس صحيحا أن سيد قطب أول من أطلق مسمى الانقلاب العسكرى على الثورة، فمنذ اليوم الأول كان الضباط الأحرار يطلقون على تحركهم "الثورة"، وكان محمد نجيب هو الذى اقترح اسم الحركة، بحجة أن كلمة الثورة سوف تثير فزع الناس خاصة الرأسماليين.
ورغم ذلك كله فلا يزال السؤال مراوغا.
فما هى حكاية سيد قطب مع الضباط الأحرار؟
وهل كانت له علاقة مباشرة بهم؟
ومتى ظهر على خريطتهم؟
يذهب عمرو صابح إلى أن علاقة قطب بالثورة جاءت عبر البكباشى عبدالمنعم أمين أحد ضباط سلاح المدفعية، والذى انضم للضباط الأحرار يوم 23 يوليو 1952، لانحيازه للثورة فور علمه بها ولشعبيته داخل سلاح المدفعية، وتم تكليفه بملف العمال، وهو من قام بتعيين سيد قطب كمستشار له.
للتأكيد على ذلك يمكننا أن نعيد قراءة مقال سيد قطب الذى نشره فى جريدة الأخبار فى 15 أغسطس 1952 وكان عنوانه "حركات لا تخيفنا"، وطالب فيه بالضرب بيد من حديد لكل من يثير الاضطرابات، وكان يعلق فيه على إضرابات العمال فى كفر الدوار التى انتهت بإعدام خميس والبقرى، فقد كان عبدالمنعم أمين هو من يتولى القضية، وكان مقال سيد قطب يدعمه بوصفه مستشاره.
وعندما أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بإقالة عبدالمنعم أمين من المجلس وإرساله سفيرا لمصر فى هولندا فى مارس 1953، غضب سيد قطب وأعلن انضمامه لجماعة الإخوان رسميا فى نفس الشهر.
حاول كثيرون أن يعترضوا على ما كتبه وحيد حامد، على اعتبار أن جمال عبدالناصر لم يكن إخوانيا، وحتى لو كان كذلك، فمن المستحيل أن يكون بهذه الصورة من الهوان الذى ظهر عليه وهو يسير إلى جوار سيد قطب، دون أن يلتفت أحد إلى أن عبدالناصر لم يقابل سيد قطب من الأساس، ولم يكن صديقا له، ولم يستمع منه أو إليه.
كان وحيد صادقا فيما قاله، فهو لم يخترع العلاقة بين سيد قطب وعبدالناصر، ولكنه استند إلى المراجع التى أمدته بمعلومات، واعتقد هو أنها كافية لمساندة روايته التى أصر على أنها صحيحة، رغم أنه لم يكن شاهدا عليها، بل كل ما فعله أنه نقل عن آخرين، لا يمكن أن نطمئن لا إليهم ولا إلى ما قالوه.
كواليس كتابة وحيد حامد لمسلسل الجماعة أحاطت بها كثير من الروايات التى تطعن فيه وفى منهجه ومصداقيته، فعدد من قيادات الجماعة زعموا أنه جلس إليهم واستمع منهم، وهو ما جعله يرسم صورة برّاقة لحسن البنا فى الجزء الأول، ولولا أنه صدّق ما قالوا ما كان للبنا أن يظهر على الناس بهذه الصورة.
عندما سألت وحيد عما قالوه، كذبهم جميعا.
قال إن كل ما حدث أنه وهو يصف المسجد الذى كان يصلى فيه حسن البنا مع قيادات الجماعة الأوائل، وجد اختلافا فى تقدير مساحته، وهو ما دفعه إلى أن يتواصل مع عبدالمنعم أبو الفتوح وعصام العريان، وسألهما عن المساحة الدقيقة، وكان هذا هو كل ما حدث.
مزاعم قيادات الجماعة لم تكن وحدها التى أحاطت بوحيد، ولكن عدد من الصحفيين المعروف عنهم اهتمامهم بالجماعة والذين لم ينكروا علاقاتهم بالأجهزة الأمنية، قالوا إنهم عقدوا جلسات موسعة مع وحيد، وأنهم راجعوا معه، وكانت هناك قيادات أمنية كثيرة يرجع لها وحيد فى بعض ما كتب.
ومرة ثانية عندما سألت وحيد عن هذه الروايات، اكتفى بأن قال لى: من يملك دليلا واحدا على أن شيئا من هذا حدث، فليقدمه للناس، فأنا لم أكتب بوجهة نظر أحد، لكنها كانت وجهة نظرى أنا، وهى وجهة نظر موضوعية، بنيتها على أحداث تاريخية ثابتة وموثقة.
تظل هناك فجوة كبيرة بين ما قاله وحيد وبين ما قدمه على الشاشة بالفعل.
ولا يمكننى بأى حال من الأحوال أن أعتبر مسلسله بجزئيه عملا دراميا تاريخيا، بل يظل وجهة نظر تخص كاتبها وحده.
عندما كتب وحيد حامد مسلسله الجماعة، كان يلعب فى ملعب لا يعرفه جيدا، ولذلك زلت قدمه.
وأعتقد أن ما قرأناه معا عن العلاقة بين عبدالناصر وسيد قطب فى الواقع، وما نسجه وحيد حولهما، يؤكد أن وحيد لم يوفق أبدا فيما قدمه لنا عن تاريخ الجماعة... وأننا لا نزال فى حاجة لمن يكتب التاريخ الحقيقى لها دراميا.