الثلاثاء 23 ابريل 2024

حديث النفس.. نحو سراب

مقالات12-5-2022 | 17:30

تخليت عن جواد اليقين.. هدأت من ظنونى وشكوكى.. شددت الرحال بين قناعة واضطراب لمجهول ظننته واحة تظلله الغيمة.. ملاذا دافئا مملوءا بالبهجة.. علنى أجد مأوى يوافق استسلامى.. اشتقت لقدر يسوق لى فرحا مفاجئا يختصر زمن الانتظار.. ارتديت جلبابا تنكريا.. أصبحت كالطفل يجذبه الغموض وتؤنسه الأوهام.. هربت إلى أعماق مجهولة.. فما وجدت غير وهم قديم.. قطعت المسافات وأضعت سنينى.. تسرب العمر من بين يدى وأشقانى الوهم والتمنى.. توقفت وتأملت صفحاتى.. كم أصبحت بحاجة لمرفأ أستريح إليه فى نهاية رحلتى؟ لكننى استيقظت على سراب.. فما زلت ماكثة فى نقطة البداية!

نعيش فى هذه الحياة فى رحلة البحث عن المستحيل تحركنا مزاعم المثالية والكمال.. فنبحث عن الاستقرار والأبدية والخلود.. ونكافح كل ما يهاجم رغباتنا ويبعدنا عن راحة أنفسنا.. من مرض وفقر وشيخوخة وعجز.. وننسى أننا نتغير ويتغير معنا كل ما حولنا.. فنحيا معذبين باحثين عن الراحة المستحيلة! رافضين مجهولات تفقدنا متعة الحياة.. ومتمسكين بمجهولات تزيد حياتنا تعقيدا.. نبحث عن أبدية الحب والخلود فننكر حقيقة الموت للأشياء والأشخاص والأماكن وحتى المشاعر والأحاسيس.. نبحث عن مطلق الأشياء ونفعل النسبى ونكيل بمكيالين حسب ما يروق لأنفسنا وما تحكمه مصالحنا.. فنحيا حيارى بين الشيء ونقيضه.. فى رحلة هزليه لتحقيق أحلامنا.. تحاصرنا فيها الفوضى داخلنا وخارجنا.. تتوق فيها أرواحنا للراحة والطمأنينة، فنتطلع لمجهولات تهدئ من روعنا حتى ولو كانت لدى غيرنا بعدما أجهدنا أنفسنا فى التقليد والمقارنة التى تعمق إحساسنا بالنقص وتزيد حياتنا هراء، وننسى أننا بشر تملؤنا العيوب والنقائص.. فنحيا تائهين موهومين بعدما حطمنا الفشل والضعف وخيبة الأمل بسبب تعلقنا بنجاحات خيالية وإعجازية تدفعنا لسراب.

وتمتلئ صدورنا بأوهام تعذبنا فنتعلق بمجهول يحمل حلولا سحرية نقضى الكثير من أعمارنا فى انتظاره.. ونتساءل كيف نثق فى مجهول لا نراه أكان من الأجدر أن نهرب من كل غامض لا نعرفه؟ الأمر ببساطة أنه بسبب ما تراكم على النفس من إحباطات وفشل وعجز وطرق خاطئة اتخذناها سبلا لتحقيق أهدافنا جعلتنا نغمض أعيننا متمنين حدوثه.. متمتعين حتى بلذة السقوط!!.. فنسعى لمجهول لا يهم معه أكان صحيحا أم خاطئا ليصبح ضالتنا المنشودة لحلم تخدعنا فيه السعادة الزائفة!!.. فيدفعنا التناقض بين الواقع والحلم المستحيل لخيبات متصلة فنهرب من اللا مكان إلى لا مكان وقد يكون إلى لا زمان، فنخلع معه ذاكرتنا ونتعلق بالوهم اللذيذ فى غد منشود.

وقد تجبرنا استمرارية الحياة أن نسير فى طرق غير محسوبة أو حتى معلومة وتدفعك رحلة أحلامك لطرق عبثية تسير فيها وأنت تعلم أنك ستعود مرة أخرى لنقطة البداية.. وأنك تتحرك نحو سراب! وتتساءل دائما هل هناك نقطة تنتهى إليها؟ أم ستظل فى نقطة البداية مجبرا على العودة إليها بعدما ضاع العمر.. لتكتشف أن أحلامك مجرد أوهام، ومعها تصبح فى أشد الحاجة لموطئ قدم تستقر عنده مخافة الانهيار والعجز عن مواصلة السير لسراب غير محسوب العواقب، فلم تعد نفسك قادرة على تكبد فاتورة خسارته.

ونكرر على أنفسنا هل مكتوب علينا أن نسير فى طرق تمتزج فيها الحقائق بالأوهام.. ويصبح لزاما علينا أن نحيا الاثنتين معا، فنسبح ونسير نحو سراب محتوم.. أو تسكنان نفوسنا وتستقران ممتزجتين أو حتى متباعدتين.. عالقين بين ربما وربما.. قد يحاط الأمل فيها بسراب يجعله وهما!!.. لكن المؤكد أن نفوسنا غرف متعددة نعلم جميعا أن بها الوهم وبها أيضا الحقيقة.. تختلط وتبتعد.. مضطربون بين الغث والثمين.. الحقيقة والوهم.. جملة من التناقضات تخلق لنا شعورا وأحاسيس حائرة نتأرجح فيها بين القلق والطمأنينة.. والخوف من الفشل وخيبة الأمل.. تدفعنا لطرق نتآلف فيها مع مجهول لا نعلم لونه أو شكله، يحدونا الأمل أن يكون أفضل من حاضر نعيشه.. أو قد يدفعنا اليأس لتغيير واقع قد نتصور أن المجهول أفضل منه فى مغامرة غير محسوبة العواقب.

ولا يعنى ذلك أننا سواسية تدفعنا المظنة والمغامرة نحو مصير مجهول.. فكثير منا ما يحصل على تدخلات ودعم تمكنه من رأب صدع نفسه لمواجهة حالات التباين والتناقض التى نحياها، وقد تكفينا الحلول الوسط لنهدأ ونتزن.

فى واقع الكل يبحث عن مجهول ليواجه مشقة الحياة التى تفرض علينا الحيلة، كى نعيش حتى ولو من صنع أوهامنا.. عسانا أن نجد فيه نهاية لحزننا أو فرجا لكروبنا لإطلاق أرواحنا لتصعد لأعلى فلم يعد الأسفل يليق بها.

ونحيا حياة كثيرا ما تضطرب علاقتنا فيها بالأشخاص والأشياء والأماكن.. فلا شيء واضح من تلقاء نفسه بل علينا أن نخسر الكثير حتى نحقق توافقا معهم.. وينتابنا شعور بالضياع ولا نهدأ ونستقر إلا بمجهول يحقق لذواتنا التقدير، قد يكون حبا جديدا أو مالا أو نفوذا أو سلطة.. فيصبح الجديد من الأمر لك مجهولا محببا تتوق نفسك لتحقيقه قد تهرب فيه من إخفاقاتك وانكساراتك.. ليحول كل هزائمك إلى مجهول يرضيك.. ومع كل وقت شدة وألم تسعى نحو لقائه فتعيش أيامك مشغولا بأمر قد لا يأتى، قد يضيع معه عمرك وتفقد استمتاعك بالحياة.

لكن لا محالة جميعنا يمر بلحظات ضعف يتمنى معها تدخل القدر بمعجزة حتى وإن لم يكن يستحقها.. فنحن نوهم أنفسنا أننا نستحق الكثير وأننا خلقنا ضحايا وفى أثواب ملائكية.

ونتعلق بذلك الفضاء الواسع الذى يحمل أمانينا وأحلامنا.. نكتب ونرسم فيه ما نريد.. كما يمكننا أن نمحو أيضا ما نرفضه.. فتذهب أرواحنا ونفوسنا لأماكن تليق بها.. ومعه نتساءل هل المجهول ظل الحاضر؟!.. إنه جل أمانينا حتى ولو كان سرابا.. نرى فيه السعادة والراحة من لحظات اليأس والإحباط.. إنه الحيلة التى تمكننا من الهروب من وحشة الحياة.. هو ما يخلق داخلك إيمانا يجعلك تتعلق بأسباب الحياة لتستمر مقاتلا ومجاهدا لأهوالها.. هو ذلك الحبل الممتد بين الحياة وإشرافك على الموت.. هو اللحظة التى تجعل عمرك مجرد لحظة، فتتعلق حتى بالأحلام المستحيلة والأسباب الواهية خوفا من الهزيمة والانكسار.. هو إيمانك بمجهول يحتاج معه لصدفة أو مفاجأة محدثة أمرا جللا.

قد تدفعنا شدة احتياجنا إليه لنتسلح بثقة قد نصاب معها بالهذيان.. فنأخذ أنفسنا بأيدينا حتى وإن لم يدفعنا القدر إليه.. فنحتاج للمرور والعبور فوق جسر لنذهب لأرض غير أرضنا.. نحتاج معه لما يأتى إلينا غريبا بعدما سئمنا رتابة الحياة.. نتوهم أمورا خيالية حتى ولو كانت الهاوية.. لسان حالنا مرحبا بالسقوط اللذيذ.

وقد يدفعنا الأمر لأن نهرب لأعماق ذواتنا المجهولة لنختبئ هربا من فزع الحقيقة فنتسلح بالصمت والكبرياء ونصبح أشبه بلوحة خرساء.. لتكتشف وأنت تعانق المجهول أن لا شيء محسوب مهما بلغت من الدقة.. فكم من هفوات وأخطاء شخصية قد تؤدى بصاحبها للسقوط.. فمخاطر ومحدقات المجهول كفيلة بإحالة حلمك لسراب.

 ونتساءل إذا كان الأمر مغامرة هكذا ما الذى يجعلنا نسير بخطوات ثابتة نحو مجهول يقضى على أحلامنا؟ أو قد نصل إليه فيصير واقعا معاشا لا نرضى عنه؟!.. الواقع أن الإنسان دائما يستهويه الغامض من الأشياء ولا ينجذب لأى أمر فى متناول يده.. يندفع نحو البعيد والغريب.. فإذا ما وصل لمجهول سعى إليه تجده يهرب منه لآخر فى قصص وحكايات يستمتع فيها بمجهولات جديدة قد تكون مستحيلة.. لأنه دائما يرفض حقائق الأشياء المقيدة التى تفقده بساطة الحياة.. فيرى المتعة والتشويق فى ألوان السراب الساحرة فى عوالم الخيالات التى فيها تتحقق المعجزات.. يحلو له أن يستمتع بمجهولات لا عنوان ولا زمان لها.. ولا طريق واضح المعالم إليها.. يعشق كل ما يبعده عن الواقع ويغمى عينيه عن قسوته.. يذهب لمجهول يعانق فيه أحلامه بعيدا عن واقع معاش عجز فيه أن يجد نفسه كما يحب.. فنعيش حياتنا فى سير وهرولة نحو سراب ومصير مجهول فى بدايات أعيننا فيها على نهايات غير معلومة.. ما نلبث أن نعود لنفس البدايات مرة أخرى.. قد نتعب ونكف عن البحث بعدما اكتشفنا أن كل ما تعلقنا به وأحببناه أو حتى كرهناه كانت أمورا لا تستحق.. وقد نعاود التعلق به فنحلق فوق ناره كالفراشات التى تتعمد الاحتراق.

Dr.Randa
Dr.Radwa