كان عم أحمد شوقى عبد الهادى وهذا اسمه كاملا يعمل موظفاً فى إدارة حكومية فى الأرياف، ويسكن فى منيل شيحة بالجيزة، ويعشق السهر فى هذا المكان الساحر وسط الخضرة والطبيعة الخلابة والسماء الصافية التى تزينها النجوم، وكان الدخان هو «كيف» عم شوقى الوحيد ولذلك فقد اتخذت أحد التنظيمات الشيوعية من منزل عم شوقى مقرا للاجتماع
وكانت مهمة قادة التنظيم توفير أدوات الكيف، بينما كان العم شوقى مسئولا عن الجوزة والحجر والمعسل والنار وهكذا بدأت العلاقة بين عم شوقى والشيوعيين، ولأن طبيعة المكان هادئة حيث ينام أهل الريف بعد مغيب الشمس وهبوط الليل حيث يخيم الظلام التام على الحقول، بينما يخرج ضوء خافت من منزل عم شوقى بفضل لمبة سهارى ضخمة يشعلها لزوم القعدة والأصحاب الجدد، الذين كانوا يرطنون بكلمات لم يفهمها عم شوقى ولم يحاول أن يفهمها، ولكنه كان يفهم فقط فى الصنف الذى كان الجميع يتناولونه، فكان أكثر فائدة للعم شوقى من هذا الكلام العقيم الذى لم يدخل عقله ولا قلبه فى حين كان الكيف يوزن دماغه كل يوم.. ومرت الأيام دون أى مشاكل على الإطلاق، حتى وقع خلاف حاد وزمجرت الأجهزة الحكومية فى وجه التنظيمات الشيوعية وتم رصد الخلية التى كان هدفها الأسمى هو الكلام المركب الذى لم يفهمه عموم الشعب المصرى ومن بينهم العم شوقى، وهكذا وجد شوقى نفسه متهما بأنه أحد قيادات هذا التنظيم الكبرى، بدليل أن كل الأعضاء اختاروا منزله مقرا للاجتماعات وإلى رحلة المجهول ذهب عم شوقى وراء كبار نجوم المجتمع وفى معتقل الواحات. كان الكاتب الصحفى الكبير عظيم الموهبة قليل الحظ صلاح حافظ، والفنان الكبير حسن فؤاد، والدكتور لويس عوض المثقف المصرى الكبير، والأستاذ والكاتب الكبير عبد الستار الطويلة، وكان العم شوقى زميلا فى الزنزانة وقد وضعه الكاتب المسرحى الكبير ألفريد فرج تحت الملاحظة، فقد تم تصنيفه أمنياً على أنه كادر شديد الخطورة، ولكن عمنا ألفريد فرج شك كثيرا فى هذا الأمر وظل يرقب سلوك وكلام وفكر شوقى ومعه عمنا الكبير حسن فؤاد رحم الله الجميع.. وكان شوقى فى فناء المعتقل ينقض على أى عقب سيجارة يتم إلقاؤه من أحدهم ويضع حصيلة اليوم فى جيبه، ثم يقوم بالليل بجمع هذه «السبارس» وفرك ما فيها من دخان وإعادة لفه فى ورقة بفرة.. واندهش المساجين لوجود دفاتر بفرة مع شوقى وكان قد تمكن من إخفائها طوال فترة الاستجواب، المهم أن عم حسن فؤاد أطلق على شوقى لقب الصاعقة .. ليه .. لأنه إذا رأى أحدهم يلقى بعقب سيجارة ينقض على العقب كما الصاعقة وهكذا أصبح اللقب الرسمى للعم شوقى هو الصاعقة.. حتى العساكر والضباط عندما كانوا يستدعون شوقى كانوا ينادونه.. شوقى الصاعقة وكان السعدنى يستمتع بأحاديث شوقى ومن خلال الصحبة فى الزنزانة كان هناك اثنان من المعتقلين يقومان بالكتابة وهما ألفريد فرج والسعدنى يؤلفان روايات ويقوم بقية المعتقلين بالتمثيل ولم يقبل الصاعقة بأداء أى دور سوى دوره الوحيد الذى أحبه وعاش من أجله وهو التدخين سواء الحاف أو المغموس بالكيف فقد تولى إعادة تصنيع السبارس ليحولها إلى سجائر وبعد المعتقل سرح الصاعقة خلف السعدنى وصاحبه كما ظله، وعندما ارتفع اسم السعدنى فى الصحافة وخصوصا فى واحدة من أخطر المجلات التى كان لها شأن فى كل أنحاء العالم العربى وهى مجلة صباح الخير التى قتلها بعض صلعاء الموهبة مع الأسف، ونتمنى لها أن تعود بعد مجىء الزميل الجميل طارق رضوان.. أقول من صباح الخير بزغ نجم السعدنى فى عالم الصحافة بشدة واتجه للكتابة في المسرح.. وأعاد كتابة المسرحيات التى كتبها فى المعتقل.. «عزبة بنايوتى» و«بين النهدين» و«البلوبيف» و«الأرنس»، وهى المسرحيات الأربع التى تركها السعدنى للمسرح وقدمتها فرقة «ابن البلد المسرحية»، وتولى شوقى الصاعقة منصب مدير المسرح وكان عم شوقى إذا احتاج إلى أى شيء يتوجه إلى شباك التذاكر من أجل تمويل كل احتياجاته.. وضبطت عم شوقى ذات يوم وهو يدير معركة كلامية مع أحد زبائن المسرح واكتشفنا شقيقتى الكبرى هالة وأنا. إن عم شوقى يفرض على كل تذكرة قرش صاغ واحداً لزوم «معونة للفقراء»، وبالطبع لم يكن هذا الأمر من قبل أى جهاز حكومي؛ ولكن كان من أفكار عم شوقى من أجل الصرف على الكيف؛ وعم شوقى كان يعمل فى أوقات الفراغ مدرساً للغة الإنجليزية، فدرس على يديه أعجب نطق للإنجليزية هالة وأنا وفى أول درس خصوصى جلسنا على ترابيزة السفرة وبدأ عم شوقى بالشخط والزعيق نظرنا لأنفسنا هالة .. وأنا. وقلنا له .. بابا ح يصحى كمان شوية.. إحنا ح نلعب لحد ما يصحى.. ولما يقوم من النوم تعمل نفسك إنك خلصت الدرس وتقوله أنا فى الإنجليزى أحسن من الإنجليز نفسهم، وطبعا رفض عم شوقى العرض.. وبدأ يرفع صوته.. وأقسم أنه سوف يقول لعم محمود كل شيء.
هنا وافقت عم شوقى وقلت هو فعلاً لازم يعرف كل شيء خصوصاً اللى حصل فى شباك التذاكر.. احمر وجه عم شوقى وأخرج صوته من جوفه وهو يستجمع كل قوته ومع ذلك خرج الصوت محشرجاً وقال.. إيه اللى حصل فى شباك التذاكر.
وللحديث بقية