الجمعة 28 يونيو 2024

أخطر دراسة عن «التحديات النيلية»

8-2-2017 | 21:48

بقلم – أ.د السيد فليفل

استاذ بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية -عضو مجلس النواب

أدى انشغال الرئيس الأسبق مبارك بتفكيك القطاع العام وبناء ظهير رأسمالى طبقى مساند له على حساب جماهير الشعب المصرى بغرض سياسى غير أخلاقى هو الدفع بنجله إلى وراثة الحكم، وهو ما كان يعمل فيه بجهد جهيد وينكره بلسان سليط إلى إفراغ سياسة مصر الخارجية من دورها الفاعل والانطلاق من مقولات ورثها من سلفه السادات تحتاج إلى مراجعة استراتيجية شاملة، ومن ذلك القول بأن ٩٩٪ من أوراق اللعبة فى أيدى الولايات المتحدة، وأن كامب ديفيد قدر مقدور، وأن الإنجاز الأكبر للرئيس هو تجنب أية مواجهة مع إسرائيل عبر الانسحاب والتراجع من القضية الفلسطينية، ثم الاستجابة للتوجهات الأمريكية فى العراق وفى القارة الإفريقية، وهى توجهات لم تكن تقيم وزنًا للمصالح المصرية ولحقيقة انتماء مصر العربى والإفريقى. وتعد مراجعة هذه المرحلة ضرورية لفهم المأزق الذى نعيشه والأخطاء التى وقعنا فيها توطئة للبحث عن توجه ومسلك وإجراءات محددة لتجاوز الآثار السلبية للمرحلة المباركية، والأضرار التى ألحقتها بالمصالح المصرية فى إفريقيا عموما وفى حوض النيل على وجه التحديد.

أهم المتغيرات فى حوض النيل وتأثيرها على المصالح المائية المصرية:

• تأثير انفصال جنوب السودان:

يعد هذا الانفصال بداية لمرحلة تاريخية جديدة ليس فقط فى العلاقات بين الشمال والجنوب السودانيين، بل فى العلاقات المصرية معهما، وفى تاريخ حوض النيل بكامله. فقد ترتب على هذا الانفصال قيام دولة جديدة فى حوض النيل تتسق ثقافة مع بقية دول الهضبة الاستوائية وتتسم بالطابع الإفريقى فى هويتها، وباستخدام اللغة الإنجليزية كلغة رسمية، وإن بقية اللغة العربية الدارجة (عربى جوبا – أو عربى دنكا).

ويمكن تحديد أهم القضايا التى تنشغل بها دولة السودان الجنوبى فيما يلى:

• بناء الدولة الجديدة وفى هذا الصدد فإنها تحتاج إلى كل دعم خارجى فى كافة المجالات، بدءًا من بناء النظام السياسى، إلى التنمية الاقتصادية، إلى التنمية البشرية، إلى كافة مجالات البنية الأساسية.

• الصراع مع الشمال حول قضايا التخالص بين الدولتين وأهمها: الحدود، النزاع حول إقليم آبيى، البترول وعائداته واتجاهات تصديره، الجنوبيون فى الشمال والشماليون فى الجنوب، وغير ذلك من القضايا.

• النظر فى الموقف الذى تقفه الدولة الجديدة حيال أهم التجمعات الإقليمية السائدة فى المنطقة ومنها: تجمع إيجاد، تجمع كوميسا، تجمع الساحل والصحراء، تجمع دول وسط إفريقيا (إيكاس)، واتحاد شرق إفريقيا.

• النظر فى الموقف الذى تقفه الدولة الجديدة حيال مبادرة حوض النيل وهل تكون مع دولتى المصب مصر والسودان، مع ما بينها وبين السودان من مشكلات تاريخية، أم تكون مع دول المنابع وهى تنتمى إلى هذه الدول وتلك المنابع بحكم الجغرافيا الطبيعية والثقافة الإفريقية، والانتماء العرقى.

وإزاء ذلك كله يمكن لنا أن نحدد بدقة أهم ما صارت جنوب السودان تمتلكه بالنسبة للمصالح المصرية وهى المنابع الرئيسة على النيل الأبيض والمشاطئة للمنابع الكنغولية. وأهم منابع جنوب السودان النيلية هى الأحواض الأساسية التى يمكن منها زيادة حصة مصر من مياه النيل وهى أحواض: بحر الغزال، ومشار، وبحر الجبل، وبحر الزراف، وبحر العرب. أما أهم المنابع الكنغولية المشاطئة لجنوب السودان والتى لا يمكن الوصول إليها وإجراء أى مشروعات لزيادة حصة مصر والسودان منها إلا عبر السودان الجنوبى فهى: حوض نهر سمليكى الذى يقع فى منطقة تقسيم المياه بين نهرى النيل والكونغو.

وعلى ذلك تقتضى الضرورة تأكيد القيمة الفائقة لجنوب السودان التى باتت أهم مناطق حوض النيل للأمن القومى المصرى إذا ما أريد زيادة الحصة المائية، لضمان مستقبل التنمية فى مصر فى هذا القرن الحادى والعشرين. وهذا يطرح سؤالًا مهما لابد أن تجيب عليه الرؤية المقترحة: كيف التعامل مع دولة السودان الجنوبى لتحقيق الأمن المائى المصرى فى ضوء التعقيدات السابقة بين السودانين الشمالى والجنوبى؟

٢- السياسة الإثيوبية فى مجالات التنمية الزراعية والكهربائية:

بدأت إثيوبيا مع بداية القرن الحادى والعشرين فى تنفذ عدد كبير من السدود، حيث أضافت عددًا من السدود الجديدة، وخططت للمزيد ومنها: سد تس أباى ٢، وجيبى ١ فى الحلقة الأولى من القرن، ثم راحت تضيف كلا من سد تاكيزى، وسد جيبى ٢، وسد تانا بليس، وسد أمرتى ميشى، وسد جيبى ٣، وسدى بارو ١، ٢، وسد شيموجا يدا، وسد جيننالى داوا (٣ سدود)، ثم سد جيبى ٢، ٣، ٤، ٥، وسد هاليلى ويرابسا، وسد كارادوبى، وسد كوجا، وسد ميجش، وسد ريب، وسد تنداهو، وذلك على مختلف روافد النيل وأهمها: نهر أومو، وآباى (النيل)، وأواش، وبارو، وجينالى، وهاليلى ويرابسا، وتاكيزى، وكان نصيب النيل الأزرق من هذه السدود هو سد كارادوبى، وسد مابين، وسد ميندايا، وسد بوردر (الألفية- النهضة)، وكان مجموع قدرة التخزين لهذه السدود على النيل الأزرق ٧٣ مليار متر مكعب من المياه، أما حجم الطاقة المقترح توليدها ٥٥٧٠ ميجاوات أى قرابة ضعفين ونصف ضعف الطاقة المولدة من السد العالى.

ولاشك أن إثيوبيا ما كان لها أن تدخل فى هذا المشروع القومى العملاق لولا ثلاثة أمور:

• أنها ترى فى أنهارها ثروة يجب أن تستثمر فى مجالى الطاقة والزراعة، وأنها – مع زيادة عدد سكانها – لا تملك إلا أن تتوسع فى هذا المجال لمجابهة الزيادة السكانية من ناحية، ولتبنى تصدير الطاقة لدول الجوار كمصدر من مصادر الدخل والنفوذ فى إقليمى حوض النيل والقرن الإفريقى.

• الدعم الذى تجده إثيوبيا دائمًا من الدول الغربية وإسرائيل من ناحية، وتصاعد دور قوة أخرى كالصين وإيران والهند وبعض دول الخليج العربى، والتى باتت ترى فى شرق إفريقيا منطقة مهمة على أرض القارة يمكن منها التأثير فى جنوب الشرق الأوسط، فضلًا عن أرجاء القارة الأخرى.

• تراجع الدور المصرى فى إفريقيا طوال الأربعين عامًا الماضية، ناهيك عن الانسحاب شبه الكامل من حوض النيل بسبب محاولة اغتيال الرئيس المصرى الأسبق مبارك فى أديس أبابا سنة ١٩٩٥، وتردى العلاقات مع السودان، وتراجع الدور المصرى فى تسوية كل مشكلات المنطقة المؤثرة على الأمن القومى: غياب الدولة فى الصومال، أزمة جنوب السودان، درافور، أزمة جيش الرب فى أوغندا، الأزمة الكنغولية، والصراع فى منطقة البحيرات العظمى، مما أتاح لأطراف إقليمية أخرى وللقوى الدولية المتعددة لطرح مبادرات وتسويات غاب عنها الدور المصرى الفعال، حيث اكتفت حكومات عصر مبارك بالتحرك خلف الولايات المتحدة الأمريكية أو الأمم المتحدة.

وقد شجع هذا كله إثيوبيا على تجاهل وجود مصر ومصالحها فى المنطقة وبدى هذا جليًا حين أمسكت بزمام المبادرة فى كل من القرن الإفريقى وحوض النيل: فى الأول اقتحمت الساحة الصومالية، ما أبدى مبارك تفهمه له فى إطار تقاعسه الإفريقى المعهود، وحين أمسكت بمسار مفاوضات مبادرة حوض النيل، لتغطى بالكامل على برنامجها الزراعى والكهربى سابق الذكر.

وحتى هذه الساعة فإن الجهات الرسمية المصرية لم تبد ما يدل على درايتها بالمخطط المائى والكهربى الإثيوبى، ومدى تأثيره على كمية المياه المتدفقة إلى السودان ومصر، ومدى تأثيره بالتالى على حصة البلدين، وكذلك مدى تأثيره على مواعيد ورود المياه وصلة ذلك بالسياسة الزراعية المصرية. وتبدو الزراعة المصرية والقائمون عليها من فلاحى مصر لاسيما فى شمالى الدلتا (الدقهلية – كفر الشيخ – البحيرة) الأكثر تأثرًا من نقص المياه فى السنوات العشر الأخيرة، كما أن سياسة ترشيد المياه وتحويل نظام الرى بالغمر إلى النظم الحديثة لم يمض بالسرعة المطلوبة، بينما أثر برنامج تدوير مياه الصرف الزراعى عن حالة فشل كلوى وكبدى عام سيما فى المحافظات المذكورة.

على أن الأكثر إثارة من وقاحة الطرف الإثيوبى هو بلادة رد الفعل الحكومى فى مصر، والذى اتسم بقدر مهول من التهوين من مسألة هى هائلة أصلا وذات صلة ليس فقط بالأمن المائى بل والأمن القومى ذاته إن لم يكن الوجود المصرى نفسه.

٣- متغيرات إضافية:

إذا كان المتغيران السابقان (جنوب السودان، وإثيوبيا) هما أبرز المتغيرات فإن التطورات المتلاحقة فى الفترة الأخيرة مثل حالة الثورة العربية، وثورة ٢٥ يناير فى مصر تحديدًا قد خلقت مناخًا جديدًا سواء من حيث غياب نظام مبارك، وحالة التوتر الداخلى، وما اتسمت به من سيولة فى الأحداث واحتمالات مفتوحة، واضطرار الجيش لاستلام السلطة، والانهماك فى ترتيب الأمور السياسية فى البلاد لتسليمها لحكومة مدنية فى أقرب وقت قد جعل الوقت متاحًا لدول مثل إثيوبيا وإسرائيل للعمل على انتهاز الفرصة لفرض رؤاها فى كل من إفريقيا والشرق الأوسط متجاهلة المصالح المصرية، ويدخل فى هذه المتغيرات أيضًا حالة الاضطراب على حدود مصر كلها، فالناتو وإسرائيل يتحركان شرقًا وغربًا، فى فلسطين وليبيا، واليمن يئن، وقام اتحاد شرق إفريقيا – بطابعه الإفريقى، ومعه جنوب السودان، وذلك تحت القيادة الإقليمية الإثيوبية، وتحت الهيمنة الأمريكية. ويدخل فى المتغيرات أيضًا تلك الحالة من الوهج التى سيطرت على النظام السودانى مع تصاعد أدوار التيارات الإسلامية فى مصر، والتى رأى أنها تشكل حليفًا قادمًا فى مجابهة حالة انفصال الجنوب، وهو الوهج الذى سرعان ما انطفأ بعد ٣٠ يونيو، وكعهده دائمًا فإن الرئيس عمر البشير سرعان ما تفاعل مع المتغيرات على نحو يدل على قدرة سياسية كبيرة فى الاستجابة لاختيار الشعب المصرى لقائد الجيش كى يكون رئيسا جديدا. وعلى الرغم من أن هذا الوضع لم يكن هو الوضع المثالى له إلا أنه لم يبد أى امتعاض وأخفى جميع المشاعر المكتومة المفهومة بداخله إلى أن تقابل مرارًا مع الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى وتفاعل على نحو جيد فى التوصل إلى اتفاق إطارى جيد متعلق بسد النهضة بيد أنه بدا غير مرتاح للعلاقة المتنامية مع جنوب السودان من ناحية، إلا أنه فاجأ الجميع بالتقاط خيط التحول الخليجى وبصفة خاصة السعودية فى المنطقة ومحاولة لعب دور إقليمى سواء فى سوريا أو فى اليمن، وركب موجة دعم المملكة بقوات عسكرية وتقاضى المكافأة اللازمة ثم بدا كما لو كان ينكأ الجراح فى الخلاف المصرى- السعودى سواء حول الموقف فى سوريا أو حول حجم المشاركة العسكرية فى اليمن أو حجم الموقف من التدخل الروسى فى سوريا والإيرانى فى اليمن، ناهيك عن رش الملح على جرح الموقف القضائى المصرى فى مسألة الجزيرتين، وحاول فى هذا الإطار أن يثير ما اعتاد أن يثيره كل حين لتجميد العلاقات التعاونية مع مصر وذلك بالحديث مجددا عن حلايب وشلاتين.

وعلى الرغم من أن الموقف فى اليمن قد كسر ما كان يعرف باسم «تجمع صنعاء» الذى كان يضم على عبد الله صالح والبشير وميليس زيناوى، إلا أنه استعاض عن على عبد الله صالح بالملك سلمان ليصبح هنالك مثلث الرياض- أديس- الخرطوم، ولأول مرة فى التاريخ العربى الحديث تتوافق بعض دول الخليج والسودان الشقيق مع إثيوبيا للضغط على المصالح المصرية، وأن يكون الضغط متعلقًا بمياه النيل فتلك مسألة تستدعى مزيدا من النظر والتأمل والتفكير.

بهذا يصبح السؤال مركبًا على النحو التالى: كيف هو السبيل لإقامة علاقة متوازنة مع السودانين الشمالى والجنوبى؟ وأين حلايب من هذه المسألة؟ وكيف تتجنب مصر الانتهازية الإثيوبية وتواجه المؤثرات المحتملة لمشروعاتها المائية؟ وكيف تتجنب مصر إطلالة إثيوبيا على حوض النيل وإشاعة جو سلبى حول احتمالات الحرب من أجل المياه؟

أهم أخطاء التفاوض حول مبادرة حوض النيل:

منذ البدايات الأولى للإعداد لمبادرة حوض النيل عام ١٩٩٨ قبل تدشينها خلال العام التالى، لم يكن أحد يتخيل أن عقدًا من الزمان من جلسات التفاوض سوف ينتهى بأزمة خطيرة حول الاتفاق الإطارى الذى يضع الأسس لمشروعات التعاون الإقليمى بين دول الحوض، وبدلا من التجمع حول برنامج تنمية إقليمية يعطى نموذجًا لدول الأحواض المشتركة، انقسمت الدول بين دول المنابع استوائية وإثيوبية، ودولتى المصب مصر والسودان، ومعهما من موقع المراقب إريتريا.

ومن عجب أن هذه المفاوضات شهدت أساليب ووسائل ضغط تفاوضية تقع غالبا خارج القانون الدولى وبخاصة ما تعلق من استخدام الأنهار الدولية فى غير أغراض الملاحة، ومنها حماية الحقوق التاريخية المكتسبة، التى أثبت القانون الدولى أن تغيير السيادة لا يمسها، ويشكل تاريخ الاستخدام السابق للأنهار الدولية حقًا مكتسبًا ومشروعًا لا يجوز العبث به، وبخاصة إذا كانت فترة الاستخدام طويلة واعتمادها على هذا القدر المكتسب من المياه مسلمًا به من قبل، وصولا لإدارة شئونها ومصالحها، ومن ثم يتعين على كل من يشاطئ النهر احترام هذا الحق وعدم المساس به.

ولم تكتف بعض الدول فى الحوض بتجاهل الحقوق التاريخية المكتسبة، بل راحت أيضا تعتبر أن مصر ومعها السودان قد نالتا من مياه النهر أكثر مما ينبغى، فى إشارة إلى أن التقسيم الذى تم خلال الفترات السابقة – استعمارية واستقلالية – غير منصف ولامعقول، وذلك رغم أن هذه الدول تتمتع بثراء نهرى ومطرى يفوق الحالة المصرية بل والسودانية، وأن حصة الدولتين التى لا تتجاوز ٨٤ مليار متر مكعب من المياه لا يمكن مقارنتها بحجم الماء الهائل الذى يسقط على الهضبتين الحبشية والاستوائية والتى تتجاوز ١٦٦٠ مليار متر مكعب سنويًا.

بل ومالت دول المنابع إلى إسقاط الالتزام القانونى الذى أقره المجتمع الدولى حول ضرورة التشاور عند تنفيذ مشروعات على النهر المشترك، فضلا عن إهدار – أو محاولة إهدار – مبادئ الاستعمال البرىء، وعدم الضرر الكبير substantial أو هاما significant أو محسوبا sensible أو ملموسا appreciable فضلا عن رأى حسن الجوار وعدم التعسف فى استخدام الحق الذى يعتبر استعمالا غير برىء، وكان الواضح أن دول المنابع استندت إلى عدد من النظريات القديمة التى أسقطها القانون الدولى من اعتباره حتى غدت منسوخة، مثل نظرية السيادة الإقليمية المطلقة لهارمون التى ألغتها نظرية التكامل الإقليمى المطلق أو الحقوق النهرية riparian rights والتى تتيح لدولة المصب مثل مصر أن تطلب من الدول المتشاطئة معها من المنابع نفس الكمية من المياه وبنفس الجودة والخواص التى يوفرها النهر فى سيره الطبيعى، وهذا يكفل لدولة المصب هذه الاعتراض على أى استعمال لمجرى النهر قد يؤدى إلى حدوث تغييرات فى مجرى النهر أو كمية مياهه أو نوعيتها.

والواقع أن أسلوب تفاوض بعض دول المنبع سيما إثيوبيا تصادم تماما ليس مع روح مبادرة حوض النيل التى تستهدف التعاون الإقليمى فقط، بل حتى مع روح ونصوص قواعد هلسنكى سواء ما يتعلق منها بالنصيب المعقول والمنصف والانتفاع السابق والحالى بمياه الحوض والحاجات الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة وعدد السكان الذين يعتمدون على مياه الحوض فى كل دولة من دوله، بل والتكاليف النسبية للبدائل التى يتاح بواسطتها تلبية الحاجات الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة من دول الحوض، وما لديها من موارد أخرى، فضلا عن عدم الإضرار بالدول المتشاطئة، إضافة إلى الحقوق التاريخية والاقتسام السابق.

وبشكل عام يمكن أن نقول أن أهم أخطاء التفاوض كانت على النحو التالى:

• أن الحكومات المصرية التى عاصرت مفاوضات حوض النيل كانت فى واد، ووفد التفاوض كان فى واد آخر إذ لم توفر له مناخًا تفاوضيًا ملائما ولم تقم بدعمه بمقدرات الدولة المصرية الهائلة.

• أن وفد التفاوض لم يشكل بحيث يعكس القوة الشاملة للدولة المصرية والأجهزة المتعددة المعنية بالأمر، حتى كاد أن يكون وفدًا فنيًا ليس إلا.

• أن الحكومات المصرية لم تراع المناخ الذى أفرزته اتفاقية الأمم المتحدة بشأن استخدام المجارى المائية الدولية فى غير أغراض الملاحة والتى وقعت عام ١٩٩٧.

• أن دول المنابع خلال مناقشات الاتفاقية السابقة أبدت اعتراضها على مبدئى التشاور المسبق وعدم الإضرار بمصالح الدول المتشاطئة دون أن ينتبه الطرف المصرى إلى موقفها السابق.

• أن الجانب المصرى لم ينتبه إلى أن دول المنابع تتفاوض من موقف متكامل ومتفق عليه لا يحترم كثيرًا من مقررات القانون الدولى، ومع ذلك لم يتم إيقاف التفاوض فى أى مرحلة.

• أنه بينما كانت برلمانات دول المنابع تنسق مع مفاوضيها وتتخذ مواقف داعمة ومحرضة ضد مصر والسودان كان البرلمان المصرى مشغولًا فى قضيتى توريث نجل الرئيس، وتزوير الانتخابات تباعًا.

• أن مصر أعلنت عن مشروع توشكى ثم عن مفيض توشكى الذى أهدر مليارات الأمتار المكعبة فى الصحراء دون مراعاة مؤثراته الداخلية على الزراع فى شمال الدلتا ومؤثراته الخارجية على المفاوضين الأفارقة.

• أن المفاوض المصرى لم ينجح فى تبيان حقيقة الفقر المائى الذى تعيشه مصر، نتيجة زيادة السكان والذى وصل إلى أقل من ٦٠٠ متر مكعب كنصيب للفرد سنويًا بل إنه أخذ الوفود إلى مناطق تهدر فيها كميات كبيرة من المياه فى شرم الشيخ وملاعب جولفها.

• أن المفاوض المصرى لم ينتبه إلى قضية تسليع المياه وتسعيرها والتى راعتها إسرائيل عبر وضع هذا المبدأ موضع التنفيذ بشرائها الماء من تركيا، ثم تقديم إسرائيل عدة مقترحات خاصة بالسياسات المائية بالشرق الأوسط، ومحاولتها الناجحة لحماية التراث الإنسانى لحوض النيل من خلال منظمة اليونسكو باعتبار أن بحيرة طبرية والبحر الميت هما امتداد جغرافى للأخدود الإفريقى العظيم، ما أعطى انطباعا بأن إسرائيل يمكن أن تكون دولة نيلية من دول حوض النيل وأن تحصل على حصة من المياه فى محاولة لإحياء وعد السادات لإسرائيل بإرسال المياه للقدس، مادام قد وصل الغاز فعلًا، وما دامت دولة مرتبطة بالأخدود الإفريقى الذى يخترق وسط القارة إلى شرقها إلى فلسطين المحتلة.

• فشل المفاوض المصرى فى وقف ادعاءات الأطراف الإفريقية بحق مصر التاريخى فى المياه والحصة، باعتبار أن هذه الحقوق التاريخية هى ترجمة لاتفاقيات استعمارية مع أن هذه الاتفاقيات هى التى شملت حدود هذه الدول لاسيما معاهدة ١٩٠٢ بين إثيوبيا وبريطانيا، ومن ثم فهى معاهدات حدود أصلا ضمنت بعض المواد الخاصة بالمياه، فكيف نعمل بمواد الحدود ونبطل مواد المياه.

• فشل المفاوض المصرى أيضًا فى التركيز على قضية التنمية المتكاملة للموارد المائية فى حوض النهر مقابل تركيز هذه الدول على ضخامة نصيب مصر من المياه الجارية فى النهر بالتجاهل الكامل لكميات الأمطار الرهيبة الساقطة على الحوض، والتى تصل إلى ١٦٦٠ مليار متر مكعب تجرى بالنهر وروافده فضلا عن مجمل المياه الساقطة على الحوض والتى تبلغ أكثر من سبعة آلاف مليار متر مكعب من الموارد المائية غير المستثمرة وغير المحسوبة.

• أن المفاوض المصرى لم يشر إلى اتفاقات ١٩٩٠ و١٩٩١ و١٩٩٣ مع كل من الكونغو وأوغندا وإثيوبيا والتى سجلت فيه على نفسها نفس الالتزامات الواردة فى الاتفاقيات القديمة.

• الشىء المذهل أن خطة التنمية المصرية لربع القرن من ١٩٩٤ إلى ٢٠١٧ أشارت إلى عجز مائى مقداره ٣٠.٢ مليار متر مكعب من المياه ومع هذا لم ينجح المفاوض المصرى فى إبراز هذا العجز المائى وحاجة مصر لبناء مجتمعات جديدة فى صحاريها.

• أن المفاوض المصرى لم يوضح الجهد الذى يبذل بالداخل لعلاج عجز الحصة عن الوفاء بالمتطلبات السنوية للدولة المصرية والشعب المصرى، والتى اضطرت وزارة الموارد المائية إلى إعادة تدوير المياه عدة مرات وهو الأمر الذى أصاب الفلاحين المصريين بشتى الأمراض لاسيما فيروس سى والفشل الكلوى، وهو ما كان يقتضى من المفاوض المصرى أن يركز على مشروعات استقطاب الفوائض المائية للحصول على حصة جديدة من المياه، بل ساقت هذه الدول المفاوضات عبر التركيز على استغلال مصر للنهر بشكل يفوق الدول الأخرى.

• أن المفاوضات أظهرت مصر، كما لو كانت تتعامل مع النهر فقط منذ العهد الاستعمارى وكأن الجغرافيا الطبيعية كانت من صنعها وكأن الاستخدام الذى استمر لمئات الآلاف من السنين لم يظهر إلا الآن.

• أن المفاوض المصرى فيما يخص توصيل المياه إلى سيناء لم يشر إلى الوضع المائى التاريخى القديم فى الدلتا، وأن الامتدادات النهرية فى الدلتا كانت تصل إلى مدينة العريش الحالية ما يؤكد أنها جزء من حوض النيل، وأن قناة السويس هذه لا تفصل سيناء عن مصر إلا من ناحية السطح الخارجى وأنها ظاهرة صناعية بدأت فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر ليس إلا.

• أن المفاوض المصرى لم يشر إلى استخدامات الدول من مياه النهر وغيره من الأنهار وتعدد الروافد لدى بعض الدول من ناحية، وأن نصيب دولة مثل إثيوبيا يبلغ نحو ١٢٢ مليار متر مكعب على الأقل وهو ما يعادل ضعفى الحصة المصرية رغم تساوى عدد السكان، ناهيك عن الهطول المطرى.

هكذا إذن فإنه مع ضعف دور مصر الإفريقى وتراجع دور قيادتها وفشل برامج التنمية التى تبنتها الحكومات المتعاقبة دون رؤية تنموية شاملة ودون ربط بين برامج العمل الوطنى الداخلى وهذا الدور الإفريقى، والقبول بالدور التابع للسياسة الأمريكية، كان المفاوض المصرى فى أضعف حالاته، يكتفى بتهوين أمر التفاوض مع الأشقاء فى حوض النيل بشكل أغرى بمزيد من الضغوط، وخلال فترة التفاوض قامت فى النيل مشروعات متتابعة تؤثر على المصالح المصرية ما قيل بأنه تأثير غير محسوس فإذا بنا بعد عشر سنوات من التفاوض نجده تأثيرًا جسيمًا على النحو التالى:

• أوغندا: تحتاج إلى صرف مياها لا إلى بناء السدود لتغرق بمياهها ثم اكتشفنا أن أوغندا افتتحت مشروعات على البحيرة تأخذ من مياهها نحو خمسة مليارات متر مكعب.

• إثيوبيا: تربتها بازلتية لا تحفظ الماء وسدودها لو أنشئت ستعانى الاطماء، وهى تنشئ سدودًا صغيرة محدودة لتوليد الكهرباء لا للتخزين ولا للزراعة. ثم اكتشفنا أن خطة السدود الأمريكية منذ خمسينيات القرن العشرين هى ٣٣ سدًا تحت الإنشاء بخبرة أمريكية وإيطالية وإسرائيلية وصينية، وبتمويل من الهيئات المانحة الدولية مثل البنك الدولى وكل القوى الكبرى، وأن المشروعات تستوعب من الحصة المصرية السودانية ما بين ٧ – ٩ مليارات متر مكعب من مياهنا.

• مجموعة نهر كاجيرا فى الهضبة الاستوائية توافقت على مشروعات للزراعة والرى وتوليد الطاقة دون إخطارنا، وصحيح أنها لم تستقطع شيئا من الحصة، لكنها كسرت مبدأ الإخطار المسبق أولا، ولم تراع قواعد القانون الدولى فى التشاور، كما أغفلت أمن شركائها فى النهر، كما لو كانوا غير موجودين أو كما لو كان وجودهم معدومًا.

• والأدهى أن الأشقاء العرب انضموا للأشقاء الأفارقة فى اعتبارنا عدما معدوما أو وجودًا مهملًا. لقد توافقوا معا على مشروعات زراعية عملاقة فى ملايين الأفدنة يمكن لها – إن زرعت – أن تستقطع من الحصة ما يحتاج لدراسات مدققة لتحديد حجم تأثيره على الحصة. ويدخل فى الأشقاء العرب سعوديون وإماراتيون وكويتيون وغيرهم.

• إذا كان هذا صنيع الأشقاء، فلا غرو أن المانحين الأجانب فى الصين واليابان شرقًا وفى أوربا عبر المتوسط وأقصى الغرب عبر الأطلنطى، وفى الشرق القريب عبر حدودنا عند رفح لم يراعوا حكومات مصرية لا تعبأ بمصالح شعبها، وكثير من هذه الدول المانحة أنزلناها منزلة الشريك الاستراتيجى!

وفى عددنا القادم نطرح رؤية حول تحديد الأهداف والمصالح الوطنية، وتحديد المفاهيم الدقيقة لعلاج الموقف التفاوضى الحالى ونختتمه بطرح رؤية مصرية مقترحة للعمل فى حوض النيل.