الأحد 19 مايو 2024

تعدد الزوجات

8-2-2017 | 21:50

بقلم: د عباس شومان

وكيل الأزهر الشريف

من المسائل التى كثر الحديث حولها قديمًا وحديثًا مسألة تعدد الزوجات على ذمة الرجل فى وقت واحد، وتناول هذه المسألة يتراوح ما بين الثابت شرعًا والغريب الذى لا تحتمله النصوص ولا تقوم به الأدلة، والأصل فى هذه المسألة قول الله تعالى: «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ». واختلاف تناول العلماء للموضوع ينحصر بعد اتفاقهم على مشروعية التعدد فيما إذا كان الأصل فى الزواج الاقتصار على واحدة والترخيص فيما زاد عليها أو العكس، ويترتب على كون الأصل فى الزواج التعدد أن من قدر عليه ولم يعدِّد يكون على الأقل مقصرًا وتاركًا لطاعة، وقد يؤثمه بعض المتشددين!

 

والنظرة العلمية المتأنية لهذه المسألة لا يسلم معها القول بأن الأصل فى النكاح التعدد، ولا يكفى للتدليل على ذلك أن الآية الكريمة بدأت به ثم اكتفت بالواحدة خشية عدم القدرة على تحقيق العدل بين الزوجات، فهناك قيد لا يسلم معه تفسير الآية بأن الأصل هو التعدد، حيث إن نكاح المثنى والثلاث والرباع قُرن بالاستطابة أيضًا، ومن ثم فإن من لا يستطيب من النساء شيئًا فلا يكون الزواج حتى بواحدة مطلوبًا ولو على سبيل السنة، وهذا القيد غير معتبر عند من يقولون بأن الأصل هو التعدد، فلم يقولوا بأنه إذا قدر الرجل على النكاح ولم يخشَ ظلمًا لكنه لم يستطب من النساء شيئًا فلا يشرع له النكاح، وهناك أمر آخر لا يسلم معه اعتبار أن التعدد هو الأصل، وهو أنه ينبغى - مع اعتبار التعدد هو الأصل - أن يتزوج الرجل باثنتين على الأقل فى المرة الأولى دفعة واحدة، وأفضل منه من تزوج بثلاث، وأعلاهم من تزوج بأربع معًا، وليس واحدة بعد واحدة، وذلك لأن الآية لم تشر إلى هذا التتابع لتحقيق التعدد.

ومما يتعلق بهذه المسألة أيضًا عدد النساء التى يجوز للمرء أن يجمعهن فى عصمته فى وقت واحد، وقد اتفق الفقهاء بما يشبه الإجماع على أنهن أربع لا أكثر، فهذا غاية ما انتهت إليه الآية، بينما شذ بعضهم فأباحوا الزواج من تسع نسوة، معللين ذلك بأن هذا هو حاصل جمع ما ذُكر فى الآية، وذلك بجمع (مثنى) و(ثلاث) و(رباع)، ويقوى هذا عندهم بثبوت زواج النبى صلى الله عليه وسلم بهذا العدد. وجمهور أهل العلم على أن ذلك خاصية من خصوصيات النبى التى لا يقاس عليها كالزواج من دون مهر الذى يحل له ولا يحل لغيره بنص كتاب الله، حيث قال تعالى: «.. وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً أن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِى أن أَرَادَ النَّبِى أن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ».

وذهب بعض أهل الظاهر إلى أبعد من هذا، حيث قالوا إنه يجوز للرجل أن يجمع ثمانى عشرة امرأة فى ذمته، وعللوا لهذا الشذوذ الذى تفردوا به بأن الألفاظ المذكورة فى الآية تقتضى تكرار كل عدد، وبالجمع بعد التكرار ينتج هذا العدد، فـ(مثنى) تعنى فى زعمهم اثنتين اثنتين، فهى تدل على أربع نسوة، و(ثلاث) تدل على ست نسوة، و(رباع) تدل على ثمانى نسوة. وهذا الرأى من أعجب ما ورد عن فقيه فى فقهنا الإسلامى، فلا وجه له ولا تحتمله اللغة، ولو كان ذلك كذلك لاقتضى أن يكون العدد غير نهائى، فلا يمتنع على هذا التأويل ظاهر البطلان أن يكون المراد مثنى مثنى مثنى، وكذا (ثلاث) و(رباع)، لأنه إذا قال أحدهم: (جاء الطلاب مثنى مثنى)، فهذا يعنى أنهم جاءوا فى صفين مزدوجين، ولا يعنى ذلك أن عددهم أربعة فقط. وقد شذ بعض المعاصرين فى منعهم الزواج بأكثر من واحدة، حتى إن إحدى الدول العربية تمنع قوانينها الزواج بأكثر من واحدة!

وبعيدًا عن هذا الشطط فى الزيادة على الأربع أو الاقتصار على واحدة، فقد أجمع من يعتد بهم من أهل العلم على أن ما تحتمله الآية أن أقصى ما يمكن للرجل جمعه على ذمته أربع نسوة، وحرموا ما زاد على ذلك. ومن ثم، ينبغى أن يكون التناول مناسبًا لروح التشريع.

وعلى ذلك فإن الناظر فى المسألة نظرة دقيقة تراعى أحوال الناس ولا تبتعد عن مقاصد التشريع ونصوصه، يرى أن الأمر يختلف بينهم باختلاف أحوالهم وحاجاتهم، مما يرجح جانب التعدد فى حق بعضهم والإفراد فى حق آخرين، ففى بلد يكثر فيه عدد النساء على الرجال بشكل ملحوظ نظرًا لكثرة الحروب أو غلبة نوع النساء بين المواليد على الذكور أو نحو ذلك، يكون من الملائم والأوفق لقواعد شريعتنا ومقاصدها الدافعة للمضار والجالبة للمصالح والرافعة للعنت، أن يعدِّد القادرون، وذلك لصيانة النساء وحفظهن ورفع العنت عنهن، فإذا تساوى الرجال والنساء وأمكن لكل أنثى أن تجد زوجًا، فلا حاجة للتعدد ما لم تكن هناك علة بالزوجة تمنعها من الوفاء بحاجة زوجها، فإن قل عدد النساء على الرجال وتحققت حاجة الرجل بزواجه بواحدة، يكون التعدد غير ملائم ولا سائغ، بل يكون مكروهًا، لما فيه من تضييق على من لم يتزوج أصلًا ويريد العفاف، ولا سيما إن كان يُخشى مع التعدد الظلم وعدم تحقق العدل المظنون فيه.

أما إذا تيقن الرجل فى حال التعدد من ظلمهن أو بعضهن، يكون التعدد محرمًا وليس مكروهًا فقط، حيث جعلت الآية العدل بين النساء شرطًا للتعدد. والناظر فى أحوال كثير ممن يعددون يُدخلهم فى هذا النوع الأخير، فقد شُرع التعدد فى الإسلام لدفع المضار عن النساء والرجال معًا، وشُرط بتحقق العدل بين الزوجات، وإلا فهو ممنوع، حيث يقول الله عز وجل: «فَإِنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً»، وغالب من يعددون يفعلون ذلك بقصد ظلم الزوجة الأولى إلا من عصمه الله، حيث يكون فى أكثر الأحوال خلافات زوجية يفر منها الزوج بالزواج من أخرى نكاية فى الأولى وتأديبًا لها، أى أن الظلم الذى هو أصل فى عدم التعدد، تحول اليوم عند كثير من الناس إلى مسوغ للتعدد، ثم إذا سُئل أحدهم أجاب وكأنه عالم زمانه بأن الأصل فى الزواج التعدد!

وعليه، فإن ما تحتمله النصوص وما يناسب واقع الناس ويراعى أحوالهم عدم منع التعدد جملة، فهو مشروع بنص كتاب الله إذا وُجد مسوغه والقدرة عليه مع الغلبة على الظن عدم وقوع ظلم لإحدى الزوجات، ويُترك إذا لم تكن هناك حاجة للرجل فى التعدد أو خشى معه ظلم إحداهن، وهو غالب أحوال الناس وخاصة فى زماننا. ولا ينبغى ربط التعدد فى ذاته بطاعة أو معصية، فهو أمر مباح عند الحاجة وعدم وجود المانع، ولا يعدم فاعله عندئذ أجرًا، كما هو الحال والشأن فى زواجه الأول، ومكروه لا أجر فيه متى انتفت الحاجة وتحقق المانع، لما فيه عندئذ من الإيلام النفسى للزوجة الأولى، والتضييق على من لم يتزوج أصلًا ويريد العفاف خاصة إذا قل عدد النساء فى بلد ما، ومحرم يأثم فاعله إذا تيقن أو غلب على ظنه أنه يتسبب فى ظلم لبعض زوجاته أو كان نكاية لإحداهن.