الأحد 19 مايو 2024

«صوناتا المحبوبة الخالدة»

مقالات1-6-2022 | 14:39

لودڨيج فان بيتهوڨِن؛ العبقري الثائر الذي لم تكتمل قصص حبه التي تنقلها لنا الكتب والأفلام، من تبعثُ موسيقاه أعظم المعاني وأعمق المشاعر، تنبهر بها جماهير المستمعين وتصفق الأيادي إعجابًا بسيد الموسيقيين، وهو لا يكاد يسمع شيئًا! كان من العجب أن يُبْتَلَى في أهم حواس الموسيقار؛ الاستماع.

بدأت العلة في منتصف عمره وتدرجت من الثقل إلى الصمم المطبق. فانعزل عن الناس والصحبة، كَرَّسَ حياته لفنه، وصَرَفَ وقته وجهده في تركيزٍ للتعبير عن عالمه الخاص، ويا لعظمة ما ألَّفه الموسيقار الأصم.

في العام 1802 عندما أتَّمَ لودڨيج فان بيتهوڨِن تأليف صوناتا الپيانو رقم 14، كتبَ في مقدمتها هذا الإهداء باللغة الإيطالية:

«Sonata quasi una fantasia per il clavicembalo o piano forte، composta e didicata alla damigella Contessa Giulietta Guicciardi، da Luigi van Beethoven»

كانت هذه النبيلة الأرستقراطية "چولييتَّا جويتشاردي" تتعلم عزف الپيانو على يد الموسيقار المتحرر. قد يُحار الكثيرون في التيقن من شخصية "المحبوبة الخالدة" التي كان الموسيقي العبقري المتألم يسطرُ لها خطاباته التي عُثِرَ عليها بعد وفاته، فما أكثر نبيلات ڨيينَّا ممن أغرم بهن لودڨيج فان بيتهوڨِن. بيد أن قصص الحب العظيمة لا تكتمل، لأن الأب الأرستقراطي كان يعارض زواج ابنته چولييتَّا من رجلٍ بلا مرتبة اجتماعية أو وظيفة ثابتة أو ثروة تُؤمنه، وله من صفات الخشونة والفظاظة والطبع الناري ما يناقض طباع الطبقة الراقية التي ترفل في التهذيب والتقاليد. وتكمنُ الخيبة الكبرى في إصابته بداءٍ قد لا يُشْفَى منه نهائيًّا بل وربما يحرمه من أي تقدم مستقبلي في الموسيقى. لم يكن قد فَقَدَ حاسة سمعه تمامًا وقتها، إلا أن حالته كانت تتدهور وتسوء يومًا بعد يومٍ

صوناتا الپيانو رقم 14 والمعروفة بصوناتا ضياء القمر أو Moonlight Sonata لم يٌطلِق عليها بيتهوڨِن هذه التسمية. ألهمتْ موسيقاها الشاعر والناقد الألماني لودڨيج ريلشتاب أن يستوحي من مشهد ضياء القمر المتكسر على أمواج بحيرة الكانتونات الأربعة في سويسرا ـ واسمها بالفرنسية Lucerne وبالإيطالية Lago dei quattro cantoni   ـ هذه التسمية التي ذاعتْ بها في كل أرجاء العالم.

وأروع ما في لغة الموسيقى أنها تثيرُ في نفس من يستمع إليها ما لم يخطر ببال مؤلفها. ربما يقع الموسيقار تحت تأثير كافة المشاعر المتضاربة والأزمات الوجودية، أو قد تلهمه مشاهد الطبيعة بالمعاني فيعمد إلى صياغتها في ألحانه. قد يخبرنا عن ذلكَ أو لا، ولكن تظل للموسيقى قوتها في أن تنقلَ ما كان يفكرُ فيه مؤلفها وما كانت عليه حالته النفسية.

وهذه الصوناتا تتكون من ثلاث حركات:

- في الحركة الأولي نستمع إلى نغمات متقطعة متكررة نلمح فيها لحنين متقابلين. كأنما نستمع إلى مناجاة عاشقين يبوحان بمشاعرهما المتأججة. يهدأ القلب وتصفو الروح وإن تلعثمتْ الكلمات وهي تحاول الاجتهاد في التعبير عن مشاعر آنَ أوانُ البوحِ بها. حزنٌ ووجلٌ من جلال اللحظة. تتكشف المشاعر العميقة؛ أفي دجى الليل الحالك، أَمْ في إشراقة الصباح المبكر؟ في كلتيهما يرى الفنانُ ضياءَ القمرِ منعكسًا في عيني محبوبته. بحيرة صافية تتكسر أمواجها في صفاءٍ. تغالبنا الحيرة ويغلبنا الاشتياق ويخيم علينا الحزن.

- لتبدأ الحركة الثانية، لحن الاسكرتسو الراقص الرقيق. فها هي المشاعر قد تحررتْ، والألسنة قد باحت، كالسهوب الشاسعة الممتدة والأودية الهادئة الفسيحة. فالحركة الثانية محصورة بين كآبة الحزن في الأولي، وعصف البركان المتفجر في الثالثة. مشهدٌ راقصٌ حنونٌ يسخرُ متحديًّا كل الآلام والأوجاع، بُرعمٌ يتفتحُ في أجواء حالكة.

- يأتي الختام في الحركة الثالثة؛ حممُ بركانٍ هائجٍ. تتسارعُ الأحداث العاصفة، تتوالى الأسئلة المضطرمة والمشاعر المضطربة. نغماتٌ ثائرةٌ في اندفاعٍ يتلوه هدوءٌ حذرٌ، نظنهُ يدومُ طويلًا فإذا بالبركان يثورُ مُجددًا. حركةٌ يغلبُ عليها القلق وجيشان المشاعر، يتلوها أملٌ ورجاءٌ.

وككلِ مؤلفات لودڨيج فان بيتهوڨِن، يرتبطُ بصوناتا ضياء القمر ما يشابه الأساطير التي لا نعرفُ لها أصلًا. إذْ انتشرتْ بينَ الناسِ قصةٌ خياليةٌ عن بيتهوڨِن إذ كانَ يسيرُ في إحدى طرقات ڨيينَّا ويصادفُ شابًّا ضريرًا يستندُ على ذراعِ شقيقتهِ، شاكيًّا عِلتَهُ التي تمنعهُ أن يرَى عيانًا الموسيقار العظيم. يتعرف عليهما لودڨيج ويصطحبهما إلى بيتهما المتواضع دون أن يفصحَ عن شخصيته الحقيقية. يجلس الموسيقار إلى الپيانو ويرتجلُ عزفَ الصوناتا مُتأثرًا بتسللِ ضوء القمر عبر النوافذِ منعكسًا في عيني الجميلة شقيقة الضرير. وبعد أن ينتهي من العزف يُقَدِّمُ نفسه لهما.

قصةٌ طريفةٌ لا نعرف فيها كيف لفقيرين في ڨيينَّا أن يقتنيا پيانو في بيتهما المتواضع!

هل كانت الكونتيسة چولييتَّا جويتشاردي هي "المحبوبة الخالدة" التي عُثِرَ على الخطابات التي كتبها لها لودڨيج فان بيتهوڨِن أَمْ غيرها؟ لا أحد يعرف بالتحديد هوية من دَوَّنَ لها الخطابات الثلاثة المؤرخة في صباح ومساء الاثنين 6 يوليو وصباح الثلاثاء 7 يوليو، ولم يكتبْ سَنَة كتابة الخطابات ولا اسم مَنْ سَطَرَ لها لواعجَ عشقهِ. لم يَكنْ للموسيقار الفذ من براعة الأسلوب وفصاحة الكلمات، قدر ما قَدَّمَتْ موسيقاه من معانٍ وأفكارٍ تلمس قلوب كل من يستمع إليها بإنصاتٍ وإمعانٍ وشغفٍ.

 كتبَ الموسيقار والمايسترو ليونارد برنشتاين عن لودڨيج فان بيتهوڨِن في كتابه  «بهجة الموسيقى»:

«أبدعَ بيتهوڨِن مقطوعاتٍ ذات صوابية مذهلة. أجل، الصوابية هي الكلمة. فعندما يساوركَ الشعور بأنَ أية نغمة تلي النغمة السابقة، هي النغمة الوحيدة المتاحة التي يمكن أن تقع بعدها تلك اللحظة وفي ذلك السياق، يرجح ذلك احتمال كونكَ تستمع إلى بيتهوڨِن. أمَّا الألحان والانسيابات والإيقاعات فاتركها لأمثال تشايكوڨيسكي وهندمث وراڨيل. إن صاحبنا يملك البضاعة الحقيقة الهابطة من السماء، القدرة على جعلك تشعر عند الختام بأن شيئًا ما صائبٌ في العالم. فهنالك شيءٌ ما يوفرُ الضبطَ طوال المقطوعة خاضعًا بإطرادٍ لناموسه الخاص، شيءٌ يمكننا الارتكان إليه ولن يخيبنا أبدًا.»

الاكثر قراءة