السبت 20 ابريل 2024

خلية اللاسلكي

مقالات5-6-2022 | 14:14

عندما فكر الرجال في حرب أكتوبر المجيد كان هناك تجهيز خفي وعبقري على كل الأصعدة، وعندما اقتربت ساعة الصفر، اجتمع الصقور في مقرهم في القاهرة وأمامهم خريطة سيناء وفيها مجسم لكل مواضع القوة ومراكز التحكم والسيطرة للعدو الإسرائيلي وكان التفكير ليس فقط في إبطال مواسير النابالم التي كانت فوهاتها موجهة نحو قواتنا بطول قناة السويس لتحرق من يفكر في العبور، ولكن كانت عيونهم على مركز الاتصالات المحصن والموجود في مكان شديد الحراسة في العريش وعلى مقربة من الشاطئ على تبة في المنطقة العسكرية.

وكان التفكير في كيفية إبطال مفعوله لأنه يتنصت على كل الاتصالات التي تتم بين جبهتنا والقيادة العامة، وكان التفكير في إرسال كوماندوز من الصاعقة ولكن المسافة حوالي 150 كم ولا يمكن إرسال طائرات فهذا إرهاص ببدء الحرب.

وتفتق التفكير عن إحالة المهمة لخلية العريش ولكن ليس لضرب أو تفجير المكان نفسه ولكن لتفجير منطقة المحولات التي تغذي المكان بالطاقة وهي بجوار جسر وادي العريش حيث يقبع في المكان ٣ محولات كهرباء تعمل بتبريد دورة الزيت بالهواء أحدها موصل إلى مكان ثلاجات حفظ الأطعمة والآخر إلى غرفة التحكم والتنصت والثالث إلى الأماكن الحيوية الأخرى، وصدرت الأوامر بالفعل عبر جهاز اللاسلكي إلى مجموعة صباح الكاشف ذلك الرجل الستيني الذي لقب بـ"عمر مختار سيناء" حيث كان يمتلك أقدم مقهى بجوار ميدان البلدية سابقا والرفاعي حاليا، ولا يمكن أن يكون موضع شك من أحد وتم إبلاغه من رفيقه سعد جلبانة وهو الذي يتلقى الإشارة عبر جهاز اللاسلكي بالعملية "١٢٦ ب" حسب ما سموها فأرسل قائد المجموعة العجوز، رفيقه الشاب الأربعيني عبد الحميد الخليلي بروشتة إلى الصيدلي الشاب د. محمود حمودة صاحب أول صيدلية تحت الاحتلال في العريش "ابن سينا" وما أن نظر إلى الورقة فأومأ برأسه لصاحبها هذا العلاج يحتاج تحضير، أرجو أن تجلس لأنهي طلبات الزبائن، ثم دلف إلى الغرفة الداخلية للصيدلية وخرج بعبوتي دواء للروماتيزم كان بداخلهما قلمين زمنيين لتحديد موعد التفجير.

وانطلق عبد الحميد الخليلي إلى صديقيه أعضاء الخلية عدنان شهاب ومحمد عبد الغني اللذان كانا في انتظاره بعد أن سمعوا التكليف من "الثعلب" كما كانوا يسمونه وقام ثلاثتهم برفقة سعد محمد جلبانة بالاتجاه نحو مركب مهجور موجود على شاطئ العريش وجمعوا حطبا وأوقدوا نارا لعمل براد شاي في علبة من الصفيح وجلسوا يتسامرون تحت ظلال النخيل بجوار المركب وأحدهم يحفر باطنه ليخرج كمية من مادة الـ "التي إن تي" اللازمة للتفجير واقتسموه في أكياس من ورق الأسمنت.

وكان الدكتور محمود حمودة قد أنهى عمله في فترة الظهيرة وذهب إلى ورشة محمود العزازي الذي كان يصلح في سيارة جيب وما أن رآه استقبله مهللا أكيد أحضرت لي دواء حساسية الأنف وهو يمسح عرقه بكمه المليء بالشحم واقترب منه وأخبره أن موعد اللقاء الساعة كذا في منزل الثعلب.

والتقى الرفاق ليلا في منزل العجوز الشاب الذي يشتعل رأسه ذكاءً ينافس الشيب، وتم توزيع المهام وتحديد ساعة الصفر في اليوم التالي ٤ أكتوبر ١٩٧٣ ولم تكن المهمة سهلة فالمنطقة بها حراسة مشددة والوصول إليها ليلا نوع من الانتحار، فالأضواء الكاشفة تحيط بالمكان ونسبة النجاة لا تتعدى الـ ٥% ولكن الرحال اعتمدوا على الله وقرروا الوصول بأي ثمن وكان أول ثمن الانقضاض على جنود الحراسة أولا ثم يقوم باقي الفريق بزرع العبوات ثم الابتعاد قرابة العشرين مترا وإشعال فتيل التفجير ثم الانتشار بأقصى سرعة في أماكن مختلفة واتخذ كل منهم وجهته.

وقد تم تنفيذ الخطة كما قدر لها ودوى الانفجار في سماء العريش وهز أركانها، وتم إبلاغ القاهرة بنجاح العملية وقد أصر الحاج صباح أن تكون الرسالة مذيلة أن العملية نجحت ولكنها لن تكون الأخيرة.

وبالفعل قامت نفس الخلية بتدمير جسر السكة الحديد في أكثر من موضع حيث كان يستخدم في نقل المعدات إلى اقرب منطقة من الجبهة حيث إن خط السكة الحديد الذي كان يربط القنطرة بالعريش وصولا إلى غزة في القدس، وهو ما كان يسمي قطار الشرق السريع، قد تم استغلال جزء منه في خط بارليف في المنطقة من بئر العبد حتى القنطرة ولكن ظل باقي الخط يعمل لصالح الآلة العسكرية الإسرائيلية.

وفي يوم ٨ أكتوبر تم تدمير كابل الاتصالات السلكية في أربعة مواضع وأحدث شللا تاما في الاتصالات وقد رأينا بأم أعيننا التخبط والربكة والفزع في تحركات جيش العدو، وفي ظل هذه الأحداث كانت دوريات العدو تجوب كل شوارع العريش بحثا عمن قاموا بهذه التفجيرات أو التقاط أي إشارات لاسلكية تصدر ترددات، للوصول إلى المنفذين، وهنا تصرف أفراد الخلية بمساعدة بعض الوطنيين بفكرة الكرسي الدوار وهي أن يدور الجهاز على بيوت في مناطق مختلفة حتى يمكن التواصل مع القاهرة وعدم التقاط الإشارات وكان يتم ذلك بوضعه داخل كيس نايلون وإغلاقه بإحكام ووضعه داخل نصف شوال من الدقيق واختاروا ٤ من الشباب الصغير والذين كانوا ينقلون الكيس وهم لا يعرفون ما بداخله على أساس انه دقيق على دراجاتهم وقد كانت الأسر تتبادل ذلك كنوع من التراحم في زمن الحرب وخوفا من حدوث قطع للإمدادات كما حدث في حرب ١٩٦٧ إذ كان يعتقد الأهالي أن الحرب ستستمر وانها سوف تصل إلى العريش لا محالة فالحمد لله قواتنا عبرت وتتقدم وستصل حتما لتحرير العريش وباقي سيناء.

ولكن حدث ما حدث وتم وقف إطلاق النار، ونشطت أجهزة المخابرات للكشف عن الخلايا واستطاعوا الوصول إلى خيط بنوا عليه إلى أن قبضوا على كل أفراد الخلية ولكن الرئيس السادات طلب الإفراج عنهم بعد محادثات فك الارتباط الثاني، وقد كان، وحتى الصبية الذين كانوا يحملون الجهاز وهم لا يعلمون تم القبض عليهم لاحقا بعد مرور أكثر من عامين، ولكن تم الإفراج عنهم بعد أيام عصيبة إذ لاقوا صنوفا من الضرب والتعذيب وهم لا يعلمون السبب وكان من الصعب ادعاء البطولة فهم لم يكونوا على اتصال بأفراد الخلية أصلا، ولكن يثاب المرء رغف أنفه.