الأربعاء 24 ابريل 2024

دوار الصراحة.. «التلاتة في خطر»

مقالات7-6-2022 | 14:56

قبل أسبوعين كنت في زيارة إلى مدينة قنا بصعيد مصر، وبصحبتي مسئولة الأنشطة الثقافية بولاية نابل في الشمال التونسي، والتي اشتهرت بإنتاج الخزف والفخار أحد أهم الصناعات التقليدية في تونس، والمعروف أن أكثر من 11% من اليد العاملة التونسية تعمل في هذه الصناعات.

دعوني اعترف أن زياراتي في العام الماضي إلى قنا (مسقط رأسي ومحل ميلادي وجذوري العائلية والقبلية) لم تكن موفقة، إنما حسن المقابلة والاستماع إلينا والترحيب الكبير ببشاشة وجه والتفاعل الإيجابي باهتمام، من قبل محافظ قنا في مكتبه اللواء طيار أشرف الداودي، قد أزاح عني ذلك الشعور الذى ظل يلازمني ولم يفارقني في الفترة الأخيرة إلا قليلا.

وللعلم لولا أن تمسكت الضيفة التونسية ندى نصر وبشدة بضرورة إضافة زيارة الصعيد حتى ولو على حساب إلغاء زيارة أماكن أخرى، ما كانت ولا تمت هذه الزيارة.

لم أشعر بأي استغراب من إصرار التونسية البالغ على القيام بهذه الزيارة، تذكرت نحن الصعايدة كيف أصبحنا ضحايا لخرافة الصورة الذهنية التي خلفتها ورسختها الدراما الرمضانية وغير الرمضانية عن الصعيد، فلا تندهش إذا وجدت عدد كبير من أبناء بلدان الشمال الإفريقي (تونس والجزائر والمغرب) وهم متسمّرون بالساعات للفرجة على غرائب وعجائب "الصعيد الجواني"، الأمر الذي فسر لي سر تمسك الضيفة التونسية بالزيارة.

لا أغالي إذا قلت، لقد أصبح من طموحات الكثيرين من أبناء المنطقة العربية وخارجها هو السفر إلى مصر، ليس لزيارة المتاحف والآثار الفرعونية القديمة، إنما فقط لرؤية حقيقة هذه الصورة الذهنية على الواقع وكأنه ذاهب إلى بلاد العجائب.

ساعة كاملة مرت ونحن مازلنا جلوسا في مكتب المحافظ، الوقت تجاوز العاشرة صباحا، التونسية قدمت مجلدا مصورا يوثق كيفية اهتمام حكومة بلدها وتطوير ودعم أهم الصناعات اليدوية التقليدية التي يتميز بها الجنوب التونسي، وبعض من الهدايا الرمزية للتراث التونسي، والمحافظ بدوره قام برد الهدية بأربعة أمثالها فمنحها أيضا هدايا رمزية تعبر عن أهم الصناعات التقليدية التي تتميز بها محافظة قنا: شال حرير نقادة الشهير المشهور بالفركة، وإناء رائع من فخار نجع الشيخ على، ثم زهرية بديعة من خزف جراجوس، وأطباق من خشب سرسوع حجازة بدت وكأنها لوحات فنية تشكيلية.

حين بدأ اللواء أشرف الداودي يقلب في صفحات المجلد التونسي، استوقفته بعض من صور وجوه تونسية تعمل في هذه الصناعات التقليدية ، ارتسمت على وجهه ابتسامة وراح يشير إلى صورة سيدة وقال مندهشا : "هي بعينها الحاجة سهير صانعة فخار نجع الشيخ علي، وكمان صورة الراجل دا كأنه إسحاق بتاع خزف جراجوس، كل اللي في المجلد دا موجودين هنا وعايشين معانا".

نظر إلى جميع الحاضرين وأكد قائلا : "نحن مهتمون جدا بهذه الصناعات، ونسعى بكل الطرق إلى تطويرها وفتح منافذ وأسواق لها وتصديرها "، ثم نظر إليّ وقال : "أنت روحت زرت مزرعة أشجار التوت اللى زرعناها لتظل فركة نقادة كما هي من الحرير الخالص وتحتفظ ببريقها وقيمتها السوقية وسمعتها الدولية والعالمية، وقريبا سيشهد المواطن القنائي أول تكتل اقتصادي للحرف اليدوية التقليدية التي اشتهرت بها قنا، وبإذن الله يلعب دورا اقتصاديا مهما في دعم الاقتصاد المصري وتطوير المنتجات والعمالة سينطلق بها إلى آفاق رائعة من التسويق والتصدير".

 دون أن أشعر، وجدت نفسي أنظر في الساعة، لم يعد يتبقى من الوقت إلا القليل من الوقت بعدها نحزم حقائبنا والذهاب للمحطة للسفر والعودة إلى القاهرة في قطار الساعة الثامنة من مساء هذا اليوم، فنحن خصصنا ثلاثة أيام لزيارة قنا، ليس لأجل المحافظ فقط، وإنما لزيارة ثلاثة أماكن وهي مركز نقادة: وهى مدينة تقع على الشاطئ الغربي للنيل وتبعد عن قنا 31 كيلو مترا جنوبا، وجراجوس ونجع الشيخ علي على الجانب الشرقي وبين الثلاثة كوبري يربط بينهم شرقا وغربا .. هنا بدأت أشعر بالقلق.

وعندما انتبهت إلى المحافظ بأنه قد لاحظ ذلك، قلت: "كنا نود أن نأتي لزيارتكم ومعنا رؤية واقعية لأحوال الصناعات التقليدية اليدوية الثلاثة".

وأكملت قائلا: "سيادة المحافظ.. نحن جئنا إلى قنا، وكنا نتمنى بمجرد وصولنا أن نذهب لزيارة هذه الأماكن الثلاثة نقادة جراجوس نجع الشيخ علي، لنتعرف عن قرب على أحوالهم وظروف وأحوال حرفييها، وكيف كانت وأصبحت، الدعم الحكومي الذى تحتاجه، معاناتها مشكلاتها، أحلامها وطموحاتها، وهل يمكن أن تسمح ظروفها الراهنة وما هي عليه الآن من أوضاع أن تكون لديها القدرة على التنسيق والتعاون بين محافظة قنا وولاية نابل في تونس لتحقيق مزيد من النهوض لهذه الصناعات وتسويقها عربيا وأوروبيا والارتقاء بها وحمايتها من الاندثار".

كنت بعد زيارة المحافظ مستبشرا ومن أشد المتفائلين بمستقبل الصناعات التقليدية في قنا. وبعد الزيارة ورؤية أحوال أصحاب وأهل هذه الصناعات على الواقع.. أسأل نفسي.. "هل ستشهد هذه الصناعات مستقبلا مشرقا فعلا، أم أنه وبفعل ما يحدث لنا وحولنا قد يكون التلاتة في خطر".

وللحديث بقية مادام في العمر بقية وفي دوار الصراحة.

Dr.Randa
Dr.Radwa