الخميس 2 مايو 2024

كنوز «دار الهلال»| من مذكرات نجيب الريحاني.. أُطلق النار عليه بمسرحه

نجيب الريحاني

فن8-6-2022 | 17:49

منار بسطاوي

يحل علينا اليوم الأربعاء، الذكرى الـ73 على وفاة واحد من رائدي المسرح المصري، الذي ساهم في نهضته ببداية القرن العشرون، أنه الفنان نجيب الريحاني الذي كون ثنائيًا ناجحًا مع بديع خيري، وعرضوا العديد من المسرحيات البارة في تاري المسرح المصري، كما له العديد من الأفلام الناجحة، والتي لازالت يتعلق بها الجمهور.

ونقدم لكم من أرشيف «دار الهلال» الحلقة الـ11 من مذكرات الفنان نجيب الريحان، ونشرت عقب وفاته على هيئة حلقات، وتحديدًا عام 1952، وإليكم نص الحلقة:

قلت أن أرقى الطبقات كانت تقصد مسرحنا و‘ذا كنت إلى جانب ذلك أفخر بشيء آخر، فهو ما كنت أحظى به من تقدير الزميل الخالد سعد زغلول الذي كان يتفضل بتشريف حفلاتي والتردد باستمرار على مسرحى لمشاهدة التمثيل، وإظهار الإعجاب بين وقت وآخر، وكل ذلك ملاني سرورًا وفخرًا كان لهما الفضل الأول في اجتهادي وموالاتي للعمل بنشاط ورغبة.

كان هذا منذ سنوات عديدة فهل تدري، ماذا كان في هذا العام (١٩٣٦)لقد تقدمت إحدى الجعميات الخيرية الى وزارة معارفنا الجليلة ترجو السماح لها بدار الاوبرا الملكية لإحياء حفلتها السنوية، على أن تكون فرقة الريحاني هي التي تقوم بالتمثيل!!

فكان جواب الوزارة أن لا مانع من التصريح بالدار، على شرط أن لا يسمح لفرقة الريحاني بالتمثيل على مسرحها !!.

يا الله !! الفرقة التي كانت منذ سنوات عديدة موضع تقدير الأمراء والزعماء والعظماء والكبراء!! تصبح اليوم غير أهل للظهور على مسرح الأوبرا كما ظهر غيرها من فرق خلق الله ؟ !

ألا سامحك الله يا وزارة المعارف، وسامح رجالك العاملين

في إحدى الليالي طرقت بابي فتاة بارعة الجمال صغيرة السن تبدو عليها مظاهر الأرستقراطية ومعالم «الأبهة» والفخفخة!!، نظرت إلي من فوق لتحت !! وقالت: «أنت اللي بيسموك كشكش؟»، فأجبت : « أيوه يا ستى أنا كشکش » فضحكت ضحكة فيها غير قليل من الاستخفاف وقالت: «النبى حارسك.. أمال فين دقنك يا ادلعدی ؟»، نهايته أقول بأنني رغم هذا «استظرفت»  الفتاة وأعجبت بخفة روحها ولطف حديثها، فسألتها عن اسمها وأجابت بأنها زينب صدقی !!، طيب وعاوزة ایه یا ست زینب یا صدقي؟.. عاوزة أشتغل ممثلة يا کشکش یا بیه!!.

 أهلًا وسهلًا من العين دي والعين دي، أصبحت زينب صدقي من هذه الليلة ممثلة بالفرقة ولعل زينب لا يضيرها أن أصارح الجمهور بأنها لم تكن يوم أن قصدت إلى المسرح ميالة إلى التمثيل كل الميل ، ولم تكن هوايتها للفن هي التي دفعت بها إلينا، وربما كان القصد قتل الوقت والتسلية لأنها كانت في أخلاقها وحديثها أقرب إلى الطفولة منها إلى أي شيء آخر، ومع ذلك فقد أحبها كل من يظلهم سقف المسرح من ممثلين، وممثلات، مصريين وأجنبيات، وهوت إليها أفئدتهم جميعًا، وفي المقدمة (لوسي فرناي) الفتاة الفرنسية التي قدمتها في إحدي المذكرات السابقة، والتي عرف القراء أنها كانت شريكة حياتي في تلك الآونة!!، نعم أصبحت لوسى وزينب صديقتين لا تفترقان.

المسرح والوطنية

قلت أن أنبال الطبقات الراقيـة على الاجبسيانة كان بالغًا أشده، حتى أن الكثيرين كانوا يحجزون مقاعدهم قبل موعد التمثيل بأيام.

واذكر على سبيل التخصيص ذلك الرجل الذي أكن له إلى اليوم إحترامًا وتقديرًا كبيرين ألاوهو الأستاذ عبد السلام ذهني المستشار بمحكمة الإستئناف المختلطة ( سابقًا )؟ وصاحب المواقف المشهورة في الدفاع عن لغة البلاد في جدران تلك المحكمة.

كان عبد السلام في ذلك الحين محاميًا ببني سويف، وكان «زبونًا» مستديما للأجبسيانة، وفي اليوم الذي يشعر أن مرافعته في إحدى القضايا قد تجبره على البقاء هناك إلى القطار الأخير، أقول أنه كان في هذه الحالة يحجز مقعده في التياترو بالتلغراف، ثم ينزل من القطار إلى التياترو مباشرة!!

وحين رأيت من الجمهور المثقف ومن عامة الشعب هذا الاقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالًا صالحًا، وأن أوجهه التوجيه النافع، فرحت انقب عن العيوب الشعبية وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد.

ثم أضمن ألحان الروايات ما يجب عن علاج ناجح لمثل هذه الأدواء،  كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور وتعويده حب الوطن، وإعـلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغنى بمجده الخـالد ، وعزه الطريف التالد.

وكان من آثار هذا الاقبال وذلك النجاح أن تضاعف الخصوم والحساد واختلفت أسلحة كل منهم في حربي، فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة ومنهم من كان ينـازلني جهارًا على صفحات الجرائد اليومية (إذ لم يكن للصحف الأسبوعية وجود في ذلك الحين )، ولم يكن القارىء يفرد بين يديه إحدى الصحف إلا وجد فيها نهرًا أو نهرين يتفنى كاتبهما بلعنة خاش کشکش وروایات کشکش واللي خلفـوا كشكش كمان.

ومع كل ذلك لم أكن أعير هذه الحملات أي التفات، ولم أكن أحدث نفسي بالرد على أي كاتب وتحضرني في هذا المجال عبارة قالها أحد النقاد وهو الأديب المعروف الأستاذ حامد الصعيدي (الموظف الآن بالبرلمان): ذلك أنه قال يوما لبعض صحبه: « أيه اللي رايحين نعمله في راجل نفضل نشتم فيه في الجرايد يقوم حضرته برد علينا بكلمة: «ولو» وهو اسم الرواية التي كنت ـمثلها اذ ذاك!!

على أن ذلك كله لم يؤثر من ناحية الاقبال أي تأثير، ولئن كان هناك شيء من ذلك فقد كان تأثيرًا عكسيا، لأن الجمهور كان يتهافت على حضور حفلاتنا تھافتًا لا مثيل له.

وفي ذلك الحين ظهرت طوائف «البلطجية» الذين كانوا يحومون حول أولاد الذوات من رواد «مسرحنا» كالمرحوم علي كامل فهمي وأمثاله من الشبان الوارثين والسراة وقد شاءت دناءة بعض حسادي أن يتخذوا من أولئك البلطجية أداة لحربي، وقد كانوا يثيرون القلاقل، ويقومون بمشاجرات عنيفة داخل التياترو، ولست أنسى أن رصاصة مسدس أطلقت علي شخصيًا أثناء التمثيل، ولكن الله سلم، وفي ليلة أخرى أطلق مأفون علي حصًا من نبلة كادت تصيب عيني إلا قليلًا.

 فكرت كثيرًا في هذه الحوادث فرأيت أن لا سبيل إلا محاربة الداء بالداء، فبحثت عن رئيس تلك العصابات وعلمت أنه (يوسف شهدي)، فجئت به وعرضت عليه العمل بماهية يتقاضاها وأفهمته أن وظيفته هي حفظ نظام الصالة!!، ولقدأ فلحت خطتي هذه، فوقفت المشاغبات نهائيًا، وسار الحال من تلك اللحظة على ما يرام!!

كانت رواية «ولو» قد استغرقت في عرضها على الجمهور ثلاثة أشهر متوالية، لم ينقص الايراد اليومي فيها عن الثمانين جنيهًا.

وكثيرًا ما كان يزيد على ذلك مما شجعنا على العناية بالرواية التالية، وقد اخترنا لهم اسم «أش» وهي أيضًا من تلحين فقيد الموسيقى المرحوم الشيخ سيد درويش، كما أن واضع تلك الألحان هو الزميل بديع خيري الذي أضحى من ذلك الحين إلى اليوم وإلى غد، وإلى ان نلقى الله خلًا وفيًا وأخًا عزيزًا نتبادل الثقة ونتعاون في السراء وفى الضراء.

نالت رواية «أش» استحسانًا مدهشًا، وجاءت ألحانها بدعة من ناحيتي التأليف والتلحين، ويكفي أن أنبه الأذهان إلى اللحن الذي امتدت شهرته فتخللت الدور والقصور وأنشده الكبير والصغير في عاصمة القطر وفي ريفه، ألا وهو « یا أبو الكشاكش كان جرى لك أيه يا هلتری دقنك شابت في المسخرة وأمور الفنجرة»، وفي هذه الآونة كان الزعيم الراحل سعد «طيب الله ثراه» يؤلف الوفد المصري للقيام إلى مؤتمر الصلح في فرساي کي يدافع عن حق مصر في الاستقلال، ويعمل عن استخلاص حقها ودفع الحماية الجائرة عن كاهلها، وكان رحمه الله ينادی بضرورة الاتحاد وجمع شمل الأمة تحت لواء واحد والتفاف عناصرها في كتلة واحدة، مهما اختلفت النحل، وتباينت الأديان والملل ولقد انتهزت هذه الفرصة فضربت على تلك الوتيرة وضمنت رواية «أش» لحنًا تلقيه طائفة من سياس الخيل جاء في ختامه هذا المقطع «لا تقول نصراني ولا يهودي ولا مسلم یا شیخ اللي أوطانهم تجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم».

وهكذا ظلت فرقتنا تؤدي واجبها الوطني على قدر ما تسمح به جهودنا المتواضعة، ولم أشأ أن أقف عند هذا الحد بل ساهمت في التبرع المادي، فدفعت لخزينة الوفد مبلغًا، ومن أجله المرحوم فتح الله بركات، وأولاني من عبارات التقدير ما لا أنساه.

وفي ذلك الحين  يعني في عزالنغنغة والنجاح كانت مطربة القطرين السيدة فتحية أحمد ضمن أعضاء الفرقة وكانت اذ ذاك طفلة صغيرة تنال من إعجاب الجمهور واستحسانه قدرًا وافرًا، لأنها فضلًا عن كونها مطربة جلية الصوت، وساحرة الغناء كانت خفيفة الظل، رشيقة الحركة، دائمة الابتسام على المسرح.

وكثيرًا ما كنا نعد لها قطعًا تلحينية في صلب الرواية كانت تقوم بها على خير الوجوه، وفى إحدى الليالي زارني أحد الأصدقاء ومعه فتى صغير السن لطيف المظهر، تبدو في عينيه دلائل النبوغ الذي لا يزال المستقبل يحجبه إلا على الخبير المتمكن،  وقد طلب مني الصديق أن ألحق هذا الفتى بفرقتی، قائلًا ـن لديه موهبة قل أن توجد فيمن هم في سنه، وهي أنه يمتاز بحنجرة موسيقية نادرة وصوت ساحر خلاب وذاكرة فنية قوية.

 لم أشك لحظة في أن الفتي يتمتع بهـذه الأوصاف جميعًا، فهل تدري من هو الفتى الصغير الذي منعني؟

 هو الموسيقار الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولولا أن المجال لم يكن يسمح بضمه إلى الفرقة لأنتظم في سلكها اذ ذاك.

كان المال ينهال على خزينة تياترو الاجبسيانة، كالمطر الغزير وبشكل لم يكن أحد ينتظره أو يتصوره ، وكلما ارتفعت أرقام الأرباح ارتفعت معها عقائر الخصوم والحساد وامتلأت أعمـدة بعض الصحف بالطعن في كشكش من جميـع النواحي، والظريف في الموضـوع أن صاحب شخصية كشكش كان مجهولًا من الناس طرأ، فلم يكن يعرف شكله أحد، ولم يكن إنسان یدري هو أبيض أم أسمر ؟ فتي أم شيخ؟ مطربش أم معهم؟، ذلك لأنني كنت أظهر على المسرح بالجبة والقفطان وباللحية الطويلة الوقور، ولم أكن اکثر  الظهور في الشوارع والطرقات، كذلك لم تکن الصحف الأسبوعية قد انتشرت بل، ولم تكن قد ظهرت وامتلات صفحاتها بالصور كما هو الحال الآن، تلك الصور التي أوقفت القراء في أنحاء مصر، وغيرها على «أشكال» الممثلين والممثلات وقربتهم إلى الأذهان، بحيث أصبح من السهل الآن على كل أمريء أن يتعرف على أقل مخلوق أو مخلوق من ممثلي المسرح وممثلاته.

ويحلو لي الآن في هذا الصدد أن أقول، بأن وفرة المال بين يدي كانت تنسيني في كثير من الأحوال المواضع التي كنت أحفظ فيها النقود، من ذلك أنني وضعت يومًا في «القمطر» وأرجو أن يسامحني القراء في استعمال هذا اللفظ لأنني لم أسمع به إلا أمس فقط، من صديق لي قال أن المجمع اللغوي وضعه بدل كلمة «الدولاب»، فأردت أن أنتهز الفرصة وأتفلسف على قرائي المحبوبين، أمال يعني حاتفلسف على مين غيرهم؟ على المتفرجين؟.. نهايته.

وضعت يومًا في «قمطر» التواليت (لم يخبرني

صديقي على الاسم الذي انتخبه المجمع بدل كلمة التواليت) وضعت فيه مبلغ ثلثمائة جنيه مصري ثم نسيت هذا المبلغ بعد ذلك، ولم أعره أهمية، لأن الخير كثير، وستر المولى كان متوفرًا للغاية، وبعد عشرين يومًا من الحادث تصادف أن كانت «لوسی» تنظف أدراج «القمطر»، یا سلام أنا داخـلة في مزاجي كلمة القمطر دى بشكل؟!، فعثرت على ۳۰۰ جنيه، سلمتها لي بعد أن فركت أذنى بأصابعها الجميلة، وهي تقول: « خلي بالك من فلوسك يا نجيب أحسن يجي يوم تحتاج لها»

كانت نصيحة ثمينة من «لوسی»، ولكنني لم أعمل بها، وكم أتمنى من صميم الفؤاد أن تعود تلك الأيام بأموالها المندقة أو المفرقة کی أعمل بنصيحة لوسي، والله العظيم ولا أفرطش في القرش الأبيض علشان ينفع في اليوم الأسود!!

وفي يوم آخر کنا « بنعزل »، اعذروني إذ لم أجد كلمة لغوية تفيد معنى النقل من بيت لبيت غير دي، وفيما نحن نرفع البساط وجدنا تحته ثمانين جنيه!!

أما قفاطين کشکش فلم تكن تخلو يومًا من كبشة نقدية «مبعزقة» في جيوبها هنا؟ وهنا!!، فكانت لوسي الله يمسيها بالخير تتولى جمعها في كل مساء وتسلمها لي مقرونة بالنصيحة إياها!!

لعل واحد يسأل: «ما علة هذا النسيان؟»، وردًا عليه أقول إنني كنت دائم التفكير في عملي، وفيما يجب أن تكون عليه الرواية الجديدة، وما هي العيوب الاجتماعية المتفشية في البلاد كي نعالجها فيما نقدمه للجمهور بين ثنايا ألحان الرواية وموضوعها؟، وقد كانت نتيجة هـذا التفكير المتوالي السرحان.. المتوالي برضه!!

قلت في أحد الأعداد السابقة أنني كنت أدير الفرقة لحسابي الخاص نظير حصة مقدارها 30 % من الإيراد يتقاضاها المسيو ديموكنجس صاحب التياترو وقلت أن التياترو لم يكن مسقوفا بل مغطى بالقماش وكانت الارضية تراب في تراب، ومع ذلك لم يكن الكبراء يأنفون ارتياده أو ينقطعون عن زيارته، أحصى المسيو ديمو كنجس نصيبه في العام الأول فإذا به ثمانية آلاف وخمسمائة جنيه مصري!!، وهذا المبلغ هو ثلاثون في المائة فقط من الإيراد، فكم يكون نصيبي أنا، يا صاحب السبعين في المائة  الباقية، س وسين تساوي حوالي عشرين ألف جنيه تقريبًا فأخ، أخ من زمان وفلوس زمان.

Dr.Randa
Dr.Radwa