السبت 1 يونيو 2024

أقلام .. أربكت الاستعمار

20-7-2017 | 21:17

قراءة : سامح فايز

هل يكون الأدب ضد الإنسان؟. سؤال ثقيل، تشعر أنه أثقل وطأة عندما تكون الإجابة "نعم". لقد كان هذا هو حال الكتاب الأوروبيين مع الأفارقة في القرنين الفائتين. كان الرجل الأبيض في حاجة ماسة لتبرير العبودية.

كاتبان مهمان مثل جويس كاري وجوزيف كونراد، يصوران الأفارقة بطريق شديدة الانحطاط. تشينوا آتشيبي، الروائي النيجيري الألمع (رحل عنّا في عام 2013)، صاحب رواية "الأشياء تتداعى"، و"سهم الرّب"، يسرد في إحدى مؤلفاته "الوطن والمنفى"، أن "بعض الأدب الأوروبي كان يقدم الأفارقة بكلمات فظيعة جدًا. قسوة تجارة العبيد بدأت تُثير غضب بعض الأوروبيين، بدأ الناس يسألون في أوروبا: أليست أمور كهذه غير إنسانيّة؟. كل هذا دفع إلى توظيف بعض الكتاب إلى تبرير تجارة العبيد المُربحة. كان هناك أوروبيون يقولون إن الأفارقة ليسوا بشرًا من الأساس".

هذا المدخل ضروري لنطرح سؤالا آخر: هل قاوم الأدب الإفريقي هذه الإبادة المعنوية التي روج لها المستعمر الأبيض؟. فى رواية «الأشياء تتداعى» يقدم الكاتب النيجيري تشينوا آتشيبي حكاية الإفريقي المعتز بتاريخ قبيلته؛ يقدس العادات والتقاليد، أعراف المكان، يكرس حياته لأن يصبح الابن النموذجي للقبيلة. ثم يأتي المستعمر إلى المكان، وبقلب بارد يزيل كل ما له علاقة بروح أسلاف الإفريقي، يبني كنائسه ويدعو لدينه الجديد، يحتقر كل ما نشأ عليه الإفريقي ويضعه فى خانة البدائية، الهمجية، يراها مظاهر التوحش.

من هنا يتفرّع سؤال لا يزال يشغل بال معظم أدباء إفريقيا حتى الآن، سؤال الهوية الإفريقية فى مواجهة المستعمر، وسعى حركات التحرر الوطني لاستعادة روح الأسلاف التي غيم عليها المستعمر بثقافته. الإجابة عن هذا السؤال ليست بالهينة؛ فمنذ الخطوة الأولى يواجه الباحث عن الحقيقة عدة إشكاليات يجب تجاوزها فى البداية: ما المقصود بالأدب الإفريقي: هل هو المكتوب جنوب الصحراء أم شمال الصحراء الكبرى؟. هل هو الأدب المكتوب بأقلام إفريقية أم المكتوب عن إفريقيا ؟.

هناك أيضا إشكالية اللغة. فقارة بحجم إفريقيا تضم مئات اللغات كُتب الأدب بأغلبها، وفى مقدمة هذه اللغات تأتي الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية. هناك جدلية أخرى قائمة بين أدباء إفريقيا أنفسهم: لسان حالهم يقول: هل نعتبر الأدب إفريقيا إذا كُتب بهذه اللغات الثلاث أم أن محاربة المستعمر تستوجب علينا أن نعود للغات الأسلاف؟.

 إشكالية الترجمة أيضا ستواجه الباحث، فالأعمال المترجمة عن الأدب الإفريقي قليلة جدا ولا تعبر عن المنتج الإبداعي للقارة بالكامل مما يضع العوائق فى طريق محاولته التعرف على هذه الثقافات.

"اشكاليات الأدب الإفريقي" منطلق يدفع محمد البشير سميلا أستاذ الأدب الإفريقي بكلية الآداب واللغات والمدرسة العليا لإعداد المعلمين في دولة مالي. إلى أن يقول إن "أوائل المختلفين حول تعريف الأدب الإفريقي، هم الكتاب الأفارقة أنفسهم، ويعود السبب فى ذلك أولا إلى الظروف الخاصة التي نشأ فيها هذا الأدب وإلى الموضوعات والقضايا التي يعالجها من جهة وكذلك الأداة التي يلجأ إليها في التعبير ، وهي اللغة الأجنبية من جانب آخر، فكل الكتاب وعلى اختلاف مذاهبهم وآرائهم، يلجئون إلى إحدى اللغات الأوروبية، وهي غالبا لغة مستعمر لتسطير خواطرهم ومشاعرهم رغم وجود الكثير من السمات الخاصة لهذا الأدب، كدراسة "المأثورات الشعبية": الفولكلور، والأحاجي والأغنيات الدينية، والحكم والأمثال ووسائل التعبير في مجتمع يقوم على المشافهة. والسؤال الماثل: كيفية التوفيق بين كل هذه العناصر المتناقضة أحيانا والتي تدخل في النص الإفريقي وإيجاد خطاب تعريفي يحدد ماهية هذا الأدب. كيف نحكم على كاتب ما بأنه ينتمي إلى الأدب الإفريقي؟ كيف نحدد بوضوح إفريقية الكاتب؟ وما الأسس التي ينبغي الرجوع إليها في هذا الصدد؟".  

وعندما نتحدث عن أزمة التعريف، تظهر لنا جليا أزمة الهوية التي تركها المستعمر من خلال تقسيم إفريقيا إلى جنوب الصحراء والمسماة إفريقيا السوداء، وإفريقيا الموجودة شمال الصحراء التي تضم الدول العربية والإسلامية، وبمرور الوقت استسلم الأفارقة لهذ التقسيم لينشأ صراع هوية بين الطرفين فى محاولة لنفي كل منهم الانتساب للآخر. وكي يكون تعريف الأدب الإفريقي مانعا وشاملا سأعتمد تعريف المالي هارون المهدي ميغا: «ما الأدب الإفريقي؟ هو تعبير فني عن الإنسان والكون والحياة، أنتجه إفريقي أيا كان جنسه وبأي لغة كان».

الرواية الإفريقية

من اللافت للانتباه أن الرواية أهم الأشكال الأدبية المستخدمة فى الحفاظ على الموروث الإفريقي ومواجهة المستعمر فى رحلة التحرر الوطني. الرواية هى الشكل الفني الأدبي الوحيد الذي دخل إفريقيا عن طريق الاستعارة الخالصة من الاحتكاك بثقافات المستعمر.

وفى كتابه «الأدب الإفريقي» الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة يحدثنا على شلش  عن الرواية الإفريقية في اللغات المحلية، ثم في اللغة البرتغالية والفرنسية التي أتيح لها أن تكون أسبق لغات أوروبا في إنضاج تجربة التعبير الروائي عند الإفريقيين، وتعد رواية "إرادات مالك الثلاث" للسنغالي أحمدو مابانيه دياني المكتوبة عام 1920م من الروايات الإفريقية المبكرة، وهي رواية يضع مؤلفها إصبعه على الكثير من المشكلات الإفريقية مثل التعليم الغربي والصراع الثقافي والصراع بين الأجيال ووجود السلطات الاستعمارية، وهي مشكلات تعد ذخيرة الروايات التالية المكتوبة بصورة أفضل.

غير أن أولى المحاولات الروائية المكتوبة بلغة محلية كانت لـ توماس موفولو (1876 – 1948) الذي كتب بلغة السوتو. ولد لأبوين مسيحيين وعمل خادما فى إحدى الإرساليات ومديرا لمطبعتها ومكتبتها، ويذكر على شلش فى كتابه أن المبشرين عملوا على تشجيعه من أجل كتابة روايته الأولى فكانت أولى أعماله بعنوان "مسافر الشرق" والتي ظهرت فى كتاب عام 1907، ثم ترجمت إلى الإنجليزية وتدور فى ليسوتو حول شاب يدعى فيكيزي، يضيق بالحياة من حوله فيرتحل شرقا وغربا بحثا عن المعرفة حتى يهتدي إلى نور العقيدة المسيحية، ويذكر شلش أن الرواية شديدة الصلة بتراث الحكايات الشعبية الإفريقية في بحثها عن المعاني والحقائق عن طريق التجوال.

ثم فى فترات متقاربة نشأت محاولات لكتابة الرواية بلغة الهوسا واليوروبا والإيبو والزوسا والزولو والسواحلية والأتشولية.

وفي اللغة الإنجليزية ولدت الرواية الإفريقية ولادة تاريخية حيث ظهرت أول رواية مكتوبة بالإنجليزية عام 1930م لكاتب من جنوب إفريقيا هو سولومون بلا هيكي (1877-1932م) وهي رواية ذات عنوان طويل هو "مهودي: ملحمة حياة الأهالي في جنوب إفريقيا منذ مئة عام". وتعد هذه الرواية الإبداع الأدبي الوحيد لمؤلفها. أما رواية "ابك أيها البلد الحبيب" التي ظهرت عام 1948، لمؤلفها إبراها ماز فتعد أول عمل في تاريخ الفن القصصي بجنوب إفريقيا يظهر فيه الإنسان الأسود في صورة مبكرة. ونظراً لكثرة الإبداع الروائي الإفريقي فقد حاول كثيرون الوقوف على أسرار هذه الرواية، ويعرض المستفرق الفرنسي روبير باجيار أنواع الرواية المكتوبة بالفرنسية ويصنفها إلى: الرواية ذات الميل إلى السيرة الذاتية، ورواية المذكرات، ورواية الأخلاق والتقاليد الحديثة، والرواية الاجتماعية والإصلاحية، والرواية الكفاحية، والرواية الساخرة، والرواية السيكولوجية، والرواية ذات الفكاهة، والرواية الفلسفية.

غير أن هناك تصنيفاً آخر للرواية الإفريقية على أساس الرواية السياسية والرواية التاريخية، فضلاً عن التصنيف إلى الرواية الرومانتيكية والرواية الواقعية والرواية الرمزية، كما أن هناك تصنيفاً على أساس الشخصيات الروائية فهناك النموذج المثالي أو البطولي، والنموذج التقليدي والنموذج الثوري والنموذج الأسطوري ونموذج العائد من الغربة بعد المنفى أو الدراسة، والنموذج الأبيض الأوروبي عادة، هذا عدا التصنيف إلى النموذج الرومانتيكي والنموذج المثير للشفقة والنموذج الخاسر ضحية الظلم والاضطهاد والنموذج اليائس.

وتعتبر الفرنسية أسبق لغات أوروبا فى إنضاج التعبير الروائي عند الأفارقة وقد ظهرت فيها الرواية الإفريقية على نحو مبكر، ففى عام 1920 ظهرت رواية «إيرادات مالك الثلاث» للسنغالي أحمد ماباتيه دياني.

بيد أن هذه الرواية كانت تتغزل فى الاستعمار الفرنسي الذي وجه لأهمية التعليم والنهضة بأبناء إفريقيا، واستمر الوضع على ذلك المنوال حتى صدرت رواية «باتووالا» للروائي رينيه ماران والتي فازت عام 1931 بجائزة جونكور الأدبية التي تعطي للأعمال المكتوبة بالفرنسية لغير أبناء باريس، ورغم أنه عاش وعمل فى إفريقيا إلا أنه حصل على الجائزة باعتباره أحد أبناء جزر الهند الغربية.

كانت رواية ماران أول صفعة لانبهار أبناء جلدته بالحضارة الفرنسية، ويفضح بطل الرواية سياسة المستعمر الفرنسي قائلا:"لم يقنعوا فى المحل الأول بطمس أعز عاداتنا وتقاليدنا، بل هم لم يهدءوا حتى فرضوا علينا عاداتهم وتقاليدهم".

وفى رواية ماران التالية «جوما» بدا جليا صراع الهوية بين الأسود والأبيض مستخدما مفردة الزنجي بديلا عن الإفريقي وهى المفردة التي فتحت الطريق لمصطلح أدب الزنوجة فى إفريقيا بعد ذلك. حيث يحكي على شلش فى كتابه الأدب الإفريقي أن بطل الرواية «بيسيبنجوي» يكاد يصرخ وهو يقول لأحد أًصدقائه: إن كون الإنسان زنجيا صنعة تأتي فى ذيل جميع الصنائع، وهى ليست صنعة بل عبودية، فهل هزأ السود بلون الرجل الأبيض؟ هل ازدروا عادات الرجل الأبيض؟ كلا، بلا شك، فالأسود كان أسود، والأبيض كان أبيض.. غير أن البيض سخروا من السود بسبب لون بشرتهم. وبسبب سوادهم صاروا محط التقريع والكره".

أما فى اللغة الإنجليزية فصاحب أول رواية إفريقية بالإنجليزية هو الروائي الجنوب إفريقي سولومون بلاهيكي، وكانت روايته المنشورة عام 1930 إبداعه الأدبي الوحيد بعنوان " مهودي: ملحمة حياة الأهالي فى جنوب إفريقيا منذ مائة عام". وهى تحكي قصة حب بين بطل قومي وفتاة من الأهالي غمرهما الصراع الدموي العنيف الذي أعقب مقتل ملك الزولو الشهير تشاكا.

ازدهرت الرواية فى غرب إفريقيا أيضا وليس فى الجنوب فقط وأهم هذه المحاولات كانت المقدمة من تشينوا آتشيبي وآموس توتولا.

ولد آتشيبي عام 1930 فى نيجيريا لأب من رجال الكنيسة وكان جده من أوائل النيجيريين الذين تحولوا للمسيحية التحق بدراسة الطب فى الجامعة وتركها بعد عام واحد لدراسة الأدب ونال البكالوريوس عام 1953، عين مديرا للإذاعة عام 1961 وكان قد أصدر روايته الأولى "الأشياء تتداعى"  1958 والتي ترجمت إلى 30 لغة ورشحت لجائزة نوبل.

أطلق آتشيبي على نفسه ذات مرة اسم "عابد الأسلاف"، ثم صرح بعد ذلك بقوله:" يرضيني غاية الرضا أن تقتصر رواياتي (ولاسيما التي تدور عن الماضي)، على تعليم قرائها أن ماضيهم – بكل ما فيه من جوانب نقص – لم يكن ليلة طويلة من الوحشية".

وإن كان آتشيبي قد قدم فى روايته الأشياء تتداعى حكاية البطل الذي عجز عن التكيف مع الواقع الاستعماري الجديد فانتهى به الأمر إلى الانتحار فقد قدم فى الجزء الثاني لهذه الملحمة بعنوان "لم يعد ثمة راحة" حكاية الحفيد الذي تفوق فى دراسته وذهب لتحصيل العلم فى أوروبا لكنه حين عاد خالف تعاليم الأسلاف  وتكيف سريعا مع الحياة الجديدة بعد ضغوطات مادية ووافق أن يحصل على رشوة فانتهى به الأمر فى السجن، وفى العملين تدور الحكايات فى فلك عادات وتقاليد وعقائد الأسلاف وكيف يسعى المستعمر الى إزالتها.

رحلة الرواية الإفريقية والتي بدأت بكتابات تغزلت فى المستعمر انتهت بكتابات تسعى للحفاظ على التاريخ الإفريقي الذي كاد يندثر بسعي حثيث من المحتل الأجنبي، ورصد صراعات الهوية ومحاولات التحرر الوطني لأبناء القارة الإفريقية، ورغم عظم هذه المحاولات وتحقيقها للعالمية وترشيح بعضها لجائزة نوبل وحصول البعض الآخر على الجائزة بالفعل إلا أنه لا يزال يوجد تجاهل شديد من الثقافة العربية لترجمة هذا الأدب، وهو ما أشرنا إليه  في صراع الهوية بين شمال وجنوب الصحراء الكبرى، وهى المسألة التي تحتاج لبحث آخر يتناول المسألة وأسبابها وأبعادها، فالثقافة العربية التي تتجاهل الأدب الإفريقي تفرد مساحات كبيرة لترجمة الأدب الأوروبي والأمريكي متجاهلة أدبا فى أساس ثقافتها الإفريقية.