تقرير: إيمان السعيد
حينما يتعلق الأمر بسياسات جمال عبد الناصر الخارجية نجد أنه بالرغم من خلفيته العسكرية و تكوينه الوطني الذي يحمل عداء بالفطرة للاستعمار، إلا أنه استطاع خلال فترة رئاسته تحقيق المستحيل فيما يتعلق بعلاقته الدولية. فقد وضع عبد الناصر مصلحة مصر في المقدمة . عند توليه الرئاسة كانت أهداف عبد الناصر السياسية التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد بالإضافة إلى بناء جيش قوي يستطيع الصمود أمام أي اعتداء خارجي. لذلك عندما اشتدت الحرب الباردة بين قطبي العالم الاتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة الأمريكية استطاع جمال عبد الناصر التعامل بحيادية مع الطرفين فخلال طوال فترة رئاسته فلم يرفض أي منها بشكل مباشر . فقد أدرك عبد الناصر من البداية أنه يحتاج إليهما من أجل زيادة مكانته السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
للوصول لأقصى قدر من المساعدات الخارجية والنفوذ السياسي خلال الحرب الباردة كان من الضروري ألا يعتمد عبد الناصر أي من القوتين المتنافستين، وبدلا من ذلك أن يقف في المنتصف دون تفضيل قوة عن أخرى . بالنسبة لعبد الناصر، كانت سياسته تعتمد على التنقل على حبل المحايدة. كان يلعب على محورين أساسيين، وهما كون مصر المركز الثقافي والسياسي الأول في العالم العربي و موقع مصر الاستراتيجي .
لكن بالرغم من حيادية عبد الناصر لم يخل لم يخل الأمر من بعض الصراعات مع قطبي العالم, ففي بداية الأمر كانت الأمور على ما يرام بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين مصر، لكن العلاقات تدهورت تدريجيا فور تحالف الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل و تصميمها على ردع النفوذ السوفيتي في المنطقة .
قاوم عبد الناصر النفوذ الغربي ورفض محاولات الولايات المتحدة ضم مصر إلى منظمة دفاع الشرق الأوسط، ,بهدف توسيع نظام التحالف الغربي إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. في نفس الوقت الذي تعاون فيه مع الاتحاد السوفيتى عندما خدم ذلك المصالح المصرية . فقد أدرك عبد الناصر في ذلك الوقت أن الغرب مصدر اأكثر ثقة للحصول على المعونات, لكنه في نفس الوقت كان حذرا حتى لا تؤثر هذه المعونات على استقلالية مصر, و كانت هذه السياسة تتعارض مع المصالح الأمريكية . عندما طلب ناصر إمدادات عسكرية بعد المناوشات الحدودية الخطيرة مع الإسرائيليين في قطاع غزة، رفضت واشنطن طلبه. وردا على ذلك، توجه ناصر إلى تشيكوسلوفاكيا للحصول على السلاح، الأمر الذي أثار اعتراضات شديدة من قبل واشنطن.
ظلت محاولات الولايات المتحدة الامريكية قائمة من أجل استمالة جمال عبد الناصر. حين بدأ مشروع السد العالي عام ١٩٥٥ فقدمت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والبنك الدولي مساعدة مالية لتمويل هذا المشروع الذي يهدف إلى توفير مياه الري لتحسين الاقتصاد المصري في مقابل أن تتخلي مصر عن علاقتها بالاتحاد السوفييتي، إلا أن عبد الناصر رفض هذا الشرط و واصل التفاوض مع الكرملين للوصول إلى عرض أفضل من أجل تمويل السد كما رفض إلغاء صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، ، لذلك ألغى جون فوستر دالاس , وزير الخارجية الأمريكي, عرضه مما دفع عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس من أجل استخدام الرسوم المحصلة لتمويل السد.
خلال تلك الفترة اتهم دالاس سياسة عبد الناصر الحيادية أنها ستكون السبب الرئيسي لهيمنة الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط بالإضافة إلى انتشار النفوذ السوفيتي وتدمير الهيبة الأمريكية. كان تأميم القناة سببا مباشرا وراء و وقوع العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر ١٩٥٦و اضطرت أمريكا لاحقا للانضمام إلى الاتحاد السوفيتي في المطالبة بوقف إطلاق النار وانسحاب جميع القوات الأجنبية من مصر. و استمرت الأزمة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية بعد أن ضيقت واشنطن الخناق على مصر بوقف المساعدات و تجميد الأصول المصرية إلا أن هذه الخطوة لم تغير موقف عبد الناصر من الاتحاد السوفيتي على الرغم من تصريحات إيزنهاور “ والتي أكد فيها أن الهدف الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية هو احتواء انتشار الشيوعية السوفيتية”.
إلا أنه بدءاً من عام ١٩٥٩، تحسنت العلاقات بعد قيام آيزنهاور بترشيح مصر للحصول على المعونة الغذائية. وفي ١٩٦٢، استطاع عبد الناصر اتمام صفقة مساعدات بقيمة ٤٣٢ مليون دولار مع الرئيس الأمريكي جون كينيدى كما وقع عبد الناصر اتفاق أسلحة آخر مع الاتحاد السوفيتي عام ١٩٦٣.
ويرجح عدد من المحللين سياسات عبد الناصر إلى فهمه للعوامل التاريخية والجغرافية لمصر والتي تحسم في النهاية مصائرها ووفقا للكاتب الراحل محمد حسنين هيكل فقد أدرك جمال عبد الناصر أن أمن مصر يعتمد على أمرين «النيل»، والذي يضمن أن حاكم مصر يكون له سياسة أفريقية، وجسر أرضي إلى آسيا والذي يعني أن يكون له سياسة شرقية، وقد أدرك ناصر أيضا من قراءته للتاريخ أن حكام مصر بدءاً من تحتمس الثالث حتى صلاح الدين ومحمد علي قد نظروا إلى حدود مصر الحقيقية باعتبارها أبعد بكثير إلى الشرق وصولا إلى سوريا .