الثلاثاء 15 اكتوبر 2024

حديث النفس.. عفوًا أطلالى!

مقالات7-7-2022 | 13:48

طيف عابر أم أنى أضل الطريق.. كم أعشق رحلات التيه فى ثنايا ذاتى.. لما أجده مختبئا من بقايا أشيائى وحكاياتى.. كم عشقت فيكِ أيامى وأحلامى.. أحلامى الضائعة أم بقايا سذاجاتى!.. روحى الخاطئة قبل أن أحيا واقعى وانهزاماتى!.. كنت أحمل أشيائى التى تحملها روحى دون زيف ولا قناع.. رحلتى بكل ما فيها لن أتجرد منك حتى ولو كنت خيباتى الحبيبات.. أو كنت عنادا لصفو روحى.. أنت نفسى وبيتى ونافذتى لابتلاءات وصدف وأقدار.. متاهات عالقة بين الأنقاض تخفيها تقلبات الأطياف.. ذهبت إليك طائعة فغرستنى فى أجمل الأوهام.. رحل زمانك فكنت لى ضمير الغائب الحاضر!

فى لحظة معينة قد تختلط فيها درجات الشعور ما بين ماض وحاضر.. فيها نحتضن أشياء وذكريات لنشعر بدفء الرفقة الجميلة.. التى لا تنتهى بانتهاء الطريق ولا بموت أصحابها.. نذهب إليها لنرى حكاياتنا المختبئة من متبعثرات زمان فات، من أحاديث وحوادث وشخوص يحلو لنا أن نخاطبهم رغم غيابهم.. تجد نفسك تتخيل وجودهم وتحاورهم.. وقد يمتد عقلك بفيض من الأسئلة عن سبب الغياب ومعها يرتفع صوتك وتغفو فى خباياها، حتى إذا ما امتلأت نفسك بذبذبات الراحة ترحل على وعد بلقاء بأمور نحتفظ بها فى ملاذ آمن.. قد تكون أماكن حزينة، وقد تكون خالدة فى بهائها رغم ما مر عليها من زمن لا تتغير ملامحها.. فلا يوجد أحد منا لا يحمل داخله ما تبعثر أو تفتت وتكسر.. وكثيرا ما نتمسك ونتعلق به حتى تصاب أنفسنا بالهشاشة وتمتلئ بالخوار والهباء من تلك الغير معلنة والغير مخفاة.. ورغم أننا نعلم ذلك نكذب علي انفسنا فنحيا فوضى أنفسنا التى ترفض نهاية كل جميل أو حتى تحوله.

فيمتلئ داخلنا بأمور وأشياء عجزت قدراتنا على استكمالها أو حتى تركها فأصبحت ثغرات لا تستطيع تجاهلها أو نسيانها.. فتتعذب لحظة ذهابك إليها، فعلى الرغم من كونها لحظة صعبة لكنك تذهب إليها بإرادتك.. فقد تحمل نجاحا أو فشلا أو خطيئة أو عقابا.. تسكن نفوسنا وتستعمر أركان ذاكراتنا.. تأبى أن تتركنا حتى وإن رحل زمانها، ونتظاهر بنسيانها رغم عجزنا فى تحقيقه.. وتتساءل من هى حتى تسحب منا ما بداخلنا وتبعثره وتحتل أطراف أنفسنا أو حتى أعماقنا الخفية، فتخلق داخلنا عالما معلوما مجهولا يتجاوز ما نعيشه فى عالم واسع يعوق راحتنا فيسرق أجمل أيام عمرنا.

فنحمل أثقالا داخلنا تتعثر فيها خطانا كلما حاولت الخروج من متاهتها نعود إليها فيتملكنا اليأس فى تجاوزها.. فنحيا فى غربة بعد غربة.. مدفوعين بالحنين إليها رغم علمنا الموجود بما لديها، حيث تسكن انكساراتنا وانهزاماتنا وإخفاقاتنا التى ما لبثت أن ضخمتها لنا أنفسنا فصارت وهما تعلقنا به فتأخذنا الخديعة لمزيد من العناء.. وفى كل مرة نسير داخل أنفسنا مرددين أسئلة غبية منتهية الصلاحية كان واجب إطلاقها فى زمانها ونتصور أنها مفتاح للخلاص.. فنصاب بلعنة السؤال التى تضع العقل دائمًا فى تذبذب بأسئلة عبثية تزيده حيرة وعجز.. هو البحث الخاطئ الذى يدفع بنا لإحياء الذكرى فى النفوس ويذكرنا دائمًا أننا لم نتجاوز الساكن نفوسنا حتى ولو كانت منازل مهجورة تجدها شامخة أبية تسحب أنظارنا دائما لمشاهدتها وقطع الطريق إليها مهما كان شاقا على الرغم أننا نعلم أنها خاوية على عروشها، بل قد ننصب أنفسنا حراسا عليها.

لتصنع داخلنا مسارات خاطئة نعيش داخلها وتعيش فينا.. نذهب إليها فى لحظات ضعف ربما مع بقايا أحلامنا بطريقة هزلية ونحن نعلم أننا سنعود منها مرة أخرى، لكنها الفرصة التى نتمسك بها لمواجهة عجزنا الماضى.

وتمتلئ خزائن نفوسنا بأشياء وشخوص أو حتى بأماكن نتاج رحلة الفقد التى كتبت علينا.. فنسير وحدنا ولكننا لا ننسى ما فقدناه مهما مر علينا من زمن.. ليترك لنا الفراق أثرا يعذبنا.

وتعجز النفس عن مواجهة أطلالها أو حتى احتوائها فتحتفظ بها فى أماكن سرية.. يستوجب معها الاعتراف والمصارحة.. فقد نتحلى بشجاعة الاعتراف بالتقصير والخطأ لنخرج من تلك المنطقة الرمادية ما بين القلق والطمأنينة والحديث والصمت بغية تطهير أنفسنا فنواجهها بفشلها فى رحلات لأماكن انهزاماتنا وانكساراتنا أو حتى بعد العودة منها لنفتح طريقا جديدا مع الحياة لكننا كالعادة لسنا سواء فقد يفتح الاعتراف طريقا للانهيار بدلا من التطهر، فهو ليس عند كل الناس يعنى تحمل نتيجة الخطأ، وخاصة فى مواجهة أنفسنا ولسان حالنا ليس لأحد دليل على فكيف لى أن أعترف.. فما زلت مختبئة صحيح مطاردة، لكن لم أنهر بعد وما زلت أقاوم وأرفض كل مشاعر الندم التى تجعلنى أشعر بالألم وأنين الضمير، وفى وقت آخر يشعر البعض بضرورة مبادلة الاعترافات حتى لا يشعر بالهزيمة وحده.. وحينما يتواجه الإنسان مع نفسه يلعب كل الأدوار الظالم والمظلوم والقاضى.. وبالطبع لا نحمل كلنا ضميرا حياً يحسم المواجهة.. أما لو كان الأمر يتعلق بالبوح بما فى داخلنا فهو أمر شاق يعوقه ما يفرضه علينا الآخرون فنصبح حقائق مبهمة.. ألغاز تسير على الأرض.. فنسير فى هذه الحياة كل ما يشغلنا صورنا أمام الآخرين لنصبح صورا متضخمة غير حقيقية، والنتيجة أن لا أحد يظهر ما بداخله بحثا عن المهابة حتى أن الشخص الصامت يتمتع بصورة ذهنية جدية أكثر من ذلك الصريح الثرثار، رافضين أن نكون صفحات مفتوحة أمام بعضنا البعض.. فنتوه عن ذواتنا، لكننا فى نفس الوقت نعشق الاختراق ونتلذذ بما وراء الكواليس وكل غامض يحمل سرا لأننا نعشق كشف عورات.

ومع ذلك نقدس الاعتراف ونعتبره بابا لتكفير الذنوب حتى أننا صنعنا كرسيا يتعرض الجالس عليه لما يشبه التنويم المغناطيسى ليعترف أمام شهود حتى يعاقب بالخجل والندم، فنحاصر بعضنا بغية الإذلال على الرغم أننا نتستر على جروم قد تكون أبشع وأقسى داخلنا.. فى وقت يسبب الاعتراف غير التطوعى لصاحبه ألما نفسيا باعتباره غير مهيأ للتصالح مع نفسه وتقديم اعتراف يجعله يلقى بحمله وثقله خارج نفسه المعذبة.

وقد يفضل الاختباء داخله ويتستر على نقاط ضعفه فى منطقة آمنة يحلو له أن يحوم حولها من وقت لآخر فى لحظة معينة قد تختلط فيها درجات الشعور لدينا فنجمع فيها بين أشياء قد تكون واقعية أو ذكريات.. قد تكون نوبات تكفير ذنب أو حتى سعادة بهذا الذنب فقد يكون صاحبه سيكوباتى يشعر بفخر بنجاحه فى إيلام الآخرين.

وهنا نختلف فيما بيننا فى تجاوز تجاربنا المنتهية.. بعضنا يستسلم وآخر عاشق للمكوث فى مكانه يتعذب ويستعذب العذاب.

والسؤال لماذا نعذب أنفسنا وتضيق بنا السبل فيحلو لنا المسير نحو الوجع! لماذا نجد سعادتنا فى أوجاعنا؟.. لماذا نرفض الفقد والهجر؟ لماذا نكسر أجنحتنا ونحلق مذبوحين؟ الأمر ببساطة بسبب ما تحويه أنفسنا من أشياء لا تستطيع أن تتحدث عنها بحرية وشجاعة أمام الآخرين.. فتتواصل أرواحنا معها ولا تخرجها للواقع فتعلق أنفسنا فى حالة نحن فى احتياج إليها.. فنسير من عبء لآخر وقد تزيل عنا عبئا، لكننا نعشق الذهاب لذلك العمق الناعم المفعم برائحة الماضى الجميل الذى نحلق معه فى أفق الحنين.. والحقيقة أنه ليست كل أطلالنا فشل وانهزامات فقد تحوى تفاصيل من ماض جميل رحل مع زمانه لكن أنفسنا احتفظت بمكانته.. وأصبحنا نشتاق إليها حتى هرمنا بعدما تقدمت أعمارنا ولم يعد لدينا ما نضيفه إليها.. والتى نعتبرها جزءا من أعمارنا التى تحوى دموعنا وأفراحنا ومن أجلها تسيل دموعنا.

أعلم أن كثيرا يشبهوننى.. وأن توقيتات وترتيبات الرحلة تتوافق مع الكثيرين التى فيها تبدأ ذاكرتنا بالبوح وعندها تبدأ الروح بالتحليق فوق ذكريات تتراقص حولنا.. ولسان حالى ها أنا ذا وأنتم وجها لوجه.. فينفتح بابها المسحور فى فوضى تجتاح كيانى بلا توقف أو هوادة.. لكنى ما ألبث أن أختنق وأركض منها محاولة الفرار.. لكنها تلاحقنى فى رحلة عذاب من الثواب والعقاب وتقديم كشف حساب.. رحلة تسقط معها كل محاولات تجاهلى لسقوط نفسى عارية مجردة من كل سبب وعذر.. وتستمر محاولات الكر والفر حتى أنى أكاد أقبل يديها لتتركنى.. لتقول لى لم يحن وقت العودة بعد.. أقول لها كفى لم أعد أتحمل لوما أو ندما أو حتى شقاء الحنين.. افتحى لى جسرا لملاذ آمن لأضع قدمى على الأرض لألتقط أنفاسى وأعاود تواصلى مع الواقع.. تقول لى حضرتى للموتى وزورتى قبرهم.. عليك تكبد تكاليف الزيارة وبعد سلسلة من توسلاتى وبكائى.. قد تسمح لى بالعودة.. لكنى عدت بعدما اعتدت الألم لأمور ذهبت إليها فى منفاها.. ولسان حالى فى اعترافى شقاء لا تعافى.. فى وقت تطلب أطلالى أن أحررها من محبسها لتذهب للتراب.. فأرد عليها كيف لى أن أحررك وأطلق سراحك.. أنا مازالت مشفقة عليكم فأنتم كائنات غير مكتملة حطمها الزمن والتهمت سنوات عمرى.. بقايا حيواتى.. عفوا لستم أطلالى فما زلت أرى فيكم الحياة تدب والروح تتراقص فيكم.. الذنب ذنبى هجرتكم بعدما كبرت وشاخت أحلامى.. أصبحتم عصاة على النسيان.. والآن ترفضون المكوث معى.. تعاجلوننى بالرحيل لتتركوننى أعانى جرح الفراق.. لا غضاضة سأعود إليكم.. فأنا عشقت التوسل إليكم فى العودة والرحيل رغم الألم والعصيان.. فأنتم جزء من وجودى ونهاية الأحلام دائما غير معروفة.. نحتفظ بكم مثلما نحتفظ بضعفنا فى أمور عديدة نتعلق فيها بالمجهول.. فنصبح تائهين موهومين.. هاربين من قسوة الواقع هروبا من الحقائق الخانقة لنخرج هادئين.. ولسان حالنا كم كنا بحاجة لرحلات التيه.. ونتساءل لماذا نسميها هكذا وجميعنا يعلم أننا نفشل فى تجاوزها.. موجودة بعيدة نعم!.. لكننا نشتاق إليها!.. ونعلم أنها لن تعود.. فهى عش الهوى المهجور الذى تسيل عليه دموعنا العنيدة التى تتحجر عند أطراف عيوننا.. تتسلل قلوبنا إليها فترقص وتشدو مشاعرنا تحية للماضى الجميل.

وفى كل مرة أحاول من جديد الوقوف لمجابهة الحياة بعدما أهلكنى الحنين والضياع فى محاولة فهم بائسة لأمور باتت هلامية غير موجودة.. مجاهدة تركها تمضى وتمر كما مرت بنا رحلة السنين حتى قاربت على النهاية.. كان يصدر من داخلى صوتا هل بالإمكان تجاوز أطلالى؟ ويا ترى من منا هزم الآخر؟ فكانت إجابتى سأترك الختام بغير ختام.