الجمعة 19 ابريل 2024

«فَعلها الكِتاب الإلكتروني»

مقالات10-7-2022 | 11:47

ورثت عن أبي - رحمه الله- مكتبة عريقة لكتب موسوعية وفكرية وتاريخية ودينية، ثروة كبيرة أتباهى بها في كل مَحفْل وأمْن ببعض الكتب منها على الأصدقاء داخل وخارج مصر من باب الاستعارة، عشت أرتب فيها أبجدياً، أو أُعيد رصها طبقًا لنوعية تخصص الكتاب ؛أجد لذة عجيبة في إعادة قراءة بعض الكتب، اشتم بين أوراقها رائحة العلم والتاريخ، وأتحسس ذكريات ومناقشات جمعتني بأبي المُثقف الرفيع، لم أستطع أن أستغنى عن الكتاب الورقي في يومي وخاصة في ساعات الليل، وكنت أنظر إلى من يقرأ أي كتاب أو بحث أو رسالة دراسات عليا إلكترونياً كونه شخص غريب الأطوار؛ حتى داهمني الكتاب الإلكتروني واشتركت من باب الفضول في موقع شهير للكتب الإلكترونية بسعر رمزي - لا يمكن مقارنته بسعر كتاب ورقي واحد!-، ومع مداهمته تراءى لي هذا العالم المتسع وأذهلتني امتيازاته من وجهة نظري ووجهة نظر من سبقوني.

أعترف أنني وأمثالي بفعل الحنين والرغبة في المقاومة حاولنا تجاهل كل التغيرات التي تحدث على أرض الواقع، وأكدنا لأنفسنا مراراً استمرارية الكتاب الورقي وصموده متحدياً الظروف، لكن في الحقيقة وبنظرة بسيطة على سوق النشر، وبالطواف على كبرى المكتبات سنجد انخفاضا كبيراً في الإقبال على شراء الكتب؛ نظراً لارتفاع سعرها ؛وهو ما برره متخصصي تلك الصناعة بالزيادة العالمية لمستلزمات الطباعة وعلى رأسها سعر الورق، والأحبار وارتفاع مصاريف النقل والشحن ؛مع زيادة النفط عالمياً جراء الجائحة متبوعًا بحرب روسيا أوكرانيا الضبابية حتى هذه اللحظة، وهو ما يُعَد مؤشراً قوياً لتراجع الكتاب الورقي لصالح الكتاب الإلكتروني.

وهنا تذكرت مقال للروائي "جورج استيوارت" بعنوان "مستقبل الكتاب المطبوع" -ترجمه إلى اللغة العربية عادل الغضبان-، ونشره في مجلة الكتاب عام ١٩٤٩، وفيه تنبَّأ "ستيوارت" بزوال الكتاب المطبوع بنهاية القرن الـعشرين، وكان مفتونًا آنذاك بالتطوُّر اللافت الحادث في الوسائط السمعية والبصرية، وهو نفس ما حدث عام ١٩٩٣ عندما نشر "بيتر جيمس" روايته على اثنين من الأقراص المرنة؛ قال إنه لم يكن مستعداً لردود الفعل العنيفة التي ظهرت تُعارض فكرة طرح الرواية بهذا الشكل، وإن هجوم الصحفيين زملائه المعارضين لهذه الفكرة كان شديدًا، حتى إن أحد المراسلين أخذ جهاز كمبيوتر ومولدًا كهربائيًا إلى الشاطئ لإثبات السخرية من هذا الشكل الجديد من القراءة، وهو ما جعل "جيمس" يعلق قائلا حينها: كنت مُتهماً بقتل الرواية التي كادت تموت بالفعل بمعدل مقلق من دون مساعدتي".

في الآونة الأخيرة انتشرت الكتب الإلكترونية بشكل ملحوظ جدا، وذلك لما تحمله من مميزات وإتاحة لكل قارئ بشكل أوفر مادياً وسريع للوصول إلى فقرات الكتاب عن طريق روابط داخل الصفحات، وبالطبع هذه الميزة لا تتوفر في الكتاب الورقي التقليدي، حيث أن الكتب الإلكترونية قابلة للتحرير وقابلة لإعادة التدفق في طريقة عرضها، بالإضافة إلى ذلك فإنها تحمل عامل التشويق، مثل الفيديوهات والملفات الصوتية، والعروض التقديمية مما جعلها الرهان الرابح في سنواتنا هذه والقادمة.

ولكي نكون مُنصفين ولا نُتهَم بالغُبن والتسرع لابد أن نجمع كون مستقبل الكتاب الإلكتروني يحتاج إلى مزيد من الفحص لأسباب عديدة، منها أن الكتب الإلكترونية لن تحل محل الكتب الورقية بصورة تامة على الأقل في الوقت الحالي -مع الأخذ في الاعتبار انخفاض منحنى مبيعات الورقي وعدم تلاشيه كلياً -، بل هناك كتب الفكر والتاريخ والسياسة التي ربما تحتاج لشريحة معينة من القراء مُدمني الورقي، أما ما قد يتربع على عرش الإلكتروني فالواضح كمؤشرات أولية، أن فن الرواية والقصص القصيرة والشعر بالإضافة إلى الكتب التي تعالج موضوعات أكاديمية هي التي تسيدتها التكنولوجيا، مما سيزيد من إقبال القارئ والطلاب عليها لسهولة البحث والاسترجاع مقارنة بالكتب الورقية. أيضًا فإن كتب المستقبل الإلكترونية ستستغل طاقات الحاسب لتحسين القراءة من زوايا عديدة كإمكان إصدار نسخة مسموعة من الكتاب إضافة إلى النص، وكذلك إصدار نسخ مختلفة من النص تتناسب مع طبيعة فئات القراء، ودمج النص مع الفيديو والصوت.

وفي رأيي الشخصي فإن المستقبل سيكون للكتاب الإلكتروني؛ لأن النشر الإلكتروني سيكون أسهل ومتاحًا لشريحة أكبر من المؤلفين والقراء، كما أن سلوكيات البحث عن المعلومات والعادات القرائية ستتغير أيضًا لدى شرائح المجتمع الأصغر سنًا الذين هم أكثر تعودًا واستخدامًا للحاسب والإنترنت، فالعبرة في الحصول على المعلومة التي نحتاجها في الوقت المناسب وليس في شكل الوعاء وهل هو ورقي أم إلكتروني.

ويضاف إلى ذلك أن المستقبل سيكون أيضاً للمكتبات الإلكترونية التي ستكسر الحواجز الزمنية والجغرافية وتوفر المعلومات لمن يحتاجها في أي مكان.

وبالنسبة للورقي فأتوقع زواله بعد انتشار النشر الإلكتروني واستقرار مفاهيمه لدى صناعة النشر والجهات المعنية، والتي أظن أنها ستساهم بالدعم خاصة في مجال التعليم حيث تتضح أهمية هذه الأوعية في دعم العملية الأكاديمية والتربوية! فمع التطور في تقنيات المعلومات سيستطيع الطالب تحميل مكتبة كاملة في جهاز قارئ الكتب الإلكترونية الذي ربما لا يزيد حجمه عن الكف، كما أنه سيتمكن من الوصول إلى عدد كبير من الكتب والدوريات الإلكترونية المتاحة من خلال الإنترنت، وهذا بلا شك له فائدة عظيمة في تزويد الطالب بمهارات الوصول إلى المعلومات وتحليلها والاستفادة من قابلية النقل؛ حيث يمكن تحميل عدد من الكتب في وقت واحد وفي مكان واحد وفي ذلك توفير الحيز، ولا نتجاهل إتاحة الكتب الإلكترونية بأشكال متعددة لتناسب مختلف أنواع القراء كفاقدي البصر وكبار السن، مع إمكان إضافة حواشي وتعليقات على أجزاء الكتب وتجميعها عند الحاجة لكتابة مقال أو بحث أو نحوه، وربط كلمات أو عبارات بمصادر إلكترونية أخرى كالقواميس ودوائر المعارف، وهو ما يعود بالنفع أيضاً على الكُتاب ؛فلا مقايضة أو بخس حقوق مادية؛ كالتي توغلت من قِبل بعض دور النشر -عديمة الضمير- في السنوات الماضية، ولا تسويف في نشر العمل أو انتظار في قوائم مجمدة؛ حيث يَكفُل الكتاب الإلكتروني خفض الزمن المستغرق في النشر مع إتاحة إمكانية النشر الشخصي.

من أكاديمية تمتلك خبرة ليست بالقليلة، ومن قارئة مُتمرسة أدمنت الورق بأغلب اللغات التي تجيدها، اعترف بحتمية مواكبة العصر، وأعلن استسلامي الجميل أمام الكتاب الإلكتروني الأمتع والأبقى.