السبت 4 مايو 2024

تراجيديا سينيكا .. قراءة في مسرحية هيركوليس مجنونا


محمد جاد الله

مقالات13-7-2022 | 00:03

محمد جاد الله

"وما الدنيا إلا مسرح كبير". نبدأ بأشهر مقولة تقع على مسامعنا وهي تعود للمسرحي الكبير شكسبير، فهو اسم له تاريخ أو كما نقول في لغتنا الدارجة غني عن التعريف، أن نكتب ولو كلمة واحدة نصف بها شخصية شكسبير. ولكن لندع عقولنا تُفكر ولو لحظات معدودة عن سر عظمة هذه الشخصية المسرحية الكبيرة.

فبعد تقصي وبحث دقيق منا، وجدنا أن سر عظمة شكسبير تكمن في قراءته المتعمقة والدقيقة للمسرح اليوناني والروماني بشكل عام، وقراءته لسينيكا بشكل خاص. لذلك نجد ان عصر النهضة قد عرف تطوراً في المسرح من خلال محاكاة المسرحيات اليونانية والرومانية، وقد أحب الجمهور هذا النوع بما يحويه من عناصر مُسلية أو مفعمة بمشاهد القتل.

لقد عرف هذا النوع من المسرح في إنجلترا في القرنين السادس عشر؛ متأثراً بالمسرحيات المأساوية للشاعر الروماني سينيكا؛ وأهم ما يميز هذا النوع من المسرحيات: الانتحار والجنون وتمثيل المناظر التي تتسم بها الثورات النفسية، وتنتهي عادة بأن تثار الشخصية لنفسها من عدوها. (قاسي محمد عبد الرحمان، قراءات نقدية في مسرحية هملت لــ "وليام شكسبير"، ص 118).

والجدير بالذكر أنه صدر ترجمات رائعة ودقيقة لمسرحيات سينيكا، نخص منها بالذكر الآن مسرحية (هيركوليس مجنوناً) ترجمة الدكتورة هالة السعيدة مع دراسة نقدية للأستاذ الدكتور سيد عمر، ومراجعة الأستاذة الدكتورة سمية موسى، والصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، الصادر عن سلسلة المسرح العالمي.

وسنفصل حديثنا الآن من خلال عرض بنية هذه المسرحية، وما يكمن بها من أفكار فلسفية تستحق الوقوف عليها. بحيث يدور نقاشنا على بيان تفصيلي لاهم نقاط التي وردت مع تعليقنا عليها. تتكون المسرحية من أربعة فصول، كان الفصل الأول (205 – 523) عباره عن حوار بين ميجارا وأمفيتريون وليكوس حيث في المشهد الأول تناقش ميجارا وأمفيتريون الوضع في طيبه وغياب هيركوليس المطول في العالم السفلي، ويتحدثان عن شجاعه هيركوليس الذي انقذ العالم من الوحوش وجلب السلام. لذلك يثق أمفيتريون بعوده ابنه منتصرا من العالم السفلي كي ينقذهم من الطاغية ليكوس.

بينما في المشهد الثاني يبدأ الحوار بين ليكوس وميجارا بالزواج منها كي يحصل منها على سلاله نبيله، ويهددها اذا رفضت بأنه سوف يقتلها هي والابناء. لقد صيغ هذا الفصل من البداية وحتى ظهور ليكوس، على غرار برولوجوس مسرحيه هيركوليس مجنونا ليوريبيديس. بينما الفصل الثاني (592 – 829) يشير سينيكا الى التحول في حظ العائلة من اليأس إلى الفرح والبهجة بعوده هيركوليس من العالم السفلي، ويقع هذا الفصل في مشهدين غير متساويين في الطول، مشهد صغير يعرض عوده هيركوليس وترحيب عائلته به واستعداده لقتل ليكوس، ومشهد طويل – احتل تقريباً مأتى سطر – عبارة عن حوار بين امفيتريون وثيسيوس، يصف فيه ثيسيوس العالم السفلي ومغامرات هيركوليس في الحصول على كيربيروس.

ولقد اسهب سينيكا في وصف ثيسيوس للعالم السفلي ربما لأنه اراد بذلك أن يؤكد قوه هيركوليس الخارقه للطبيعة والدوافع التي ادت الى غروره وغطرسته. في الفصل الثالث (895 – 1053) يبدأ الانقلاب ثانيه في حظ ومصير العائلة وخاصة في المشهد الاول عندما يصاب هيركوليوس بالجنون ويقتل الابناء واحدا تلو الاخر، ويحاول والده أن يمنعه لكن من دون جدوى. بينما في المشهد الثاني تحاول ميجارا أن تتحاور مع هيركوليس وتخبره بهويتها بأنها زوجته لكنه لا يستجيب لندائها ويقتلها هي الأخرى، وهنا ينتهي الفصل الثالث بحزن امفيتريون على ما اصاب ابنه واسرته.

إن هذا الفصل هو ترجمتة لحديث الرسول، عند يوريبيديس، الذي يصف فيه جنون هيركوليوس وقتل أبنائه (922 – 1015). أما في الفصل الرابع والأخير (1138 – 1344) فيفيق هيركوليوس من جنونه، حيث في المشهد الأول يتعرف على جريمته بنفسه، من دون أن يخبره أحد، ويتحاور مع والده حول فكرة الانتحار، ويفضل العودة ثانية إلى العالم السفلي، لكن في المشهد الثاني يقنعه والده امفيتريون بعدم الانتحار، ويتدخل ثيسيوس ويعرض عليه الذهاب معه إلى أثينا كي يتطهر من القتل. يتضح من عرض فصول المسرحية ان سينيكا يستخدم مشهدا معيناً في فصل ثم يستخدم عكسه في فصل آخر للإشارة إلى الانقلاب في حظ ومصير الشخصيات، فعلى سبيل المثال في الفصل الثاني (593 – 829) يصور سينيكا لنا هيركوليس وهو في قمة مجده عائداً منتصراً من العالم السفلي، يمثل سمات الشجاعة الجسدية التي مكنته من تطهير كل العالم، بينما في الفصل الثالث (895 – 1053) عندما يقتل هيركوليس أسرته، يظهر في قمة يأسه ويوضح سينيكا هنا مساوئ الشجاعة الجسدية وهذا هو الانقلاب والتحول الذي يحدث في حظ البطل.

حيث يرى سينيكا هنا أن القوة الجسدية غير المتحكم فيها هي التي تدمر وأنها تصبح نقمة، فعلى الرغم من أن هيركوليس كان يتمتع بهذه القوة إلا أنه استخدمها بلا تحكم عقلي حيث كان غروره وغطرسته شكلا من اشكال اللاعقلانية. والشيء بالشيء يُذكر وسبق وأن ذكرناه آنفاً أن المسرحية من ترجمة الدكتورة هالة السعيدة وهي متخصصة في هذا اللون من الآداب فهي حاصلة على الدكتوراة عن موضوع (مسرحيتا هيراكليس مجنوناً بين يوريبيديس وسينيكا). مقصدنا هنا ان القائم بهذه الترجمة هو متخصص بالدرجة الأولى وقائم بالترجمة عن فهم خاصة ان الدكتورة هالة قامت بكتابة دراسة متخصصة عن هذه المسرحية، كما ان هذه الترجمة قام بمراجعتِها الأستاذة الدكتورة سمية موسى وهي أستاذة جامعية متخصصة ايضاً، وقام الأستاذ الدكتور سيد عمر بكتابة دراسة نقدية عنها وهو متخصص ايضاً.

ما أود ان أصل إليه ان المتخصص أولى بتخصصه، أي مثل ما يقول المثل الشعبي إن جاز لنا التعبير (أهل مكة أدرى بشِعابِها). ولهذا نستطيع ان نجزم وبحق ان هذه الترجمة ترجمة رصينة وجديرة بالقراءة والدراسة ايضاً، لأنها خرجت من تحت ايدي ثلاث أساتذة متخصصين. لذلك ادعو المنشغلين ومحبي قراءة المسرح العالمي وخاصة المسرح القديم بقراءة هذه المسرحية لعذوبة ترجمتها التي نادراً ما نجد ترجمة سليمة بهذا الشكل.

والسؤال الآن هل عظمة سينيكا تقف فقط عند هذا الحد من الكتابات المسرحية؟ بالطبع لا. لقد ترك لنا سينيكا ميراثاً ضخماً من الاعمال النثرية الرائعة والجديرة بالاهتمام لمتابعتها وقراءتها، لنتعلم منها كيف تكون الحياة، وكيف يستطيع ان يحيا الانسان حياة هادئة سعيدة، لذا سيكون هذا هو موضوع مقالنا القادم.

Dr.Randa
Dr.Radwa