الخميس 23 مايو 2024

وتد الخيمة العربية

23-7-2017 | 17:41

بقلم – د. عاصم الدسوقى

قبل إنشاء جامعة الدول العربية فى مارس ١٩٤٥، كان عرب المشرق يتطلعون منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية، ويأملون فى إقامة وحدة سياسية بين شعوب بلاد العراق وسوريا الكبرى، أما عرب المغرب ومصر والسودان فكانوا يكافحون لتحقيق الاستقلال عن الاستعمار الأنجلو-فرنسى، وعرب الخليج والجنوب كانوا فى قبضة النفوذ الإنجليزى منذ مطلع القرن التاسع عشر. وأما قلب الجزيرة العربية فكان نهبا للصراع بين القبائل المتنفذة حول سيطرة كل منها على الأخرى.

غير أن عرب سوريا على وجه الخصوص كانوا أكثر الشعوب العربية إحساسا بوطأة الحكم العثمانى، وخاصة منذ أيام السلطان عبدالحميد الثانى (١٨٧٦-١٩٠٩)، ثم زادت درجة هذه الوطأة باستيلاء جماعة الاتحاد والترقى على الحكم فى يوليه ١٩٠٨ وتنحية السلطان عبدالحميد (يوليو ١٩٠٩). وقد سعت هذه الجماعة الجديدة إلى تتريك سكان الإمبراطورية والتأكيد على مركزية الحكم بدلا من اللامركزية العامة التى اشتهرت بها السلطنة العثمانية. ولعل هذا يفسر انطلاق فكرة الاستقلال عن الحكم العثمانى من بلاد الشام.

وعلى هذا بدأ التبشير بالفكرة العربية والاستقلال عن الدولة العثمانية فى أواخر القرن التاسع عشر على يد بعض الكتاب الذين استشعروا الخطر العثمانى على الخصوصية العربية من أمثال: نصيف اليازجى وابنه إبراهيم، وبطرس البستانى، وعبدالرحمن الكواكبى، ورشيد رضا، ونجيب عازورى، وفرح أنطون، وشبلى شميل، كما بدأ الإعلان عن الفكرة فى الصحف المعاصرة مثل: صحيفة حديقة الأخبار، والجوائب، والبيان، والضياء، والبشير، والمشرق، وثمرات الفنون، والتقدم، والمصباح، وكوكب الصبح المنير، والتى كتب فيها مسلمون ومسيحيون.

ثم تحول الأمر من مجرد الكتابة إلى إنشاء جمعيات تضم المؤمنين بالفكرة العربية مثل: جمعية الآداب والعلوم، والجمعية الشرقية، والجمعية العلمية السورية، وذلك لنشر الوعى القومى، ثم تكونت فى مرحلة تالية جمعيات ذات طابع سياسى لتحقيق الهدف عمليا مثل: الجمعية القحطانية ١٩٠٩، وجمعية العربية الفتاة ١٩١١، وجمعية الإصلاح ١٩١٢.

وبناء على هذه الجهود المتشابكة أمكن عقد أول مؤتمر عربى لهذا الخصوص فى باريس مارس ١٩١٣ ضم مندوبين عن الجمعيات التى تنادى بالفكرة والتى كان أعضاؤها يخضعون لملاحقة السلطات التركية ومطاردتها.

وفى يونيه ١٩١٦ اندلعت الثورة العربية بزعامة الشريف حسين من الحجاز، وأعلنت فى دمشق بقيادة ابنه فيصل سقوط الحكم التركى. وقد عرفت هذه الثورة فى أدبيات القومية العربية بالثورة العربية الكبرى. وبانتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة تركيا فى الحرب، سقط الحكم التركى فى العراق وسوريا. لكن المملكة العربية الواحدة التى كانت هدف ثورة ١٩١٦ لم تعلن، وحل محلها مملكة هاشمية فى العراق، وإمارة هاشمية فى شرق الأردن، وخضعت بقية سوريا للانتداب الأنجلو-فرنسى بمقتضى اتفاقية سايكس-بيكو (مايو ١٩١٦).

وعندما أصبحت جامعة الدول العربية حقيقة واقعة فى مارس ١٩٤٥، داعب الأمل من جديد أنصار الوحدة العربية، ورأوا أن الجامعة هى المدخل المعقول لتحقيقها، فهى مؤسسة تجمع العرب، ويدخل فى نشاطها تنسيق المصالح الاقتصادية والسياسية والروابط الثقافية.

***

فلما قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ فى مصر بقيادة جمال عبدالناصر بعد ثلاث سنوات من عودته من فلسطين فى أعقاب انهزام الجيوش العربية أمام القوات الصهيونية وإعلان قيام إسرائيل، كان متأثرا بمقولة الضابط أحمد عبدالعزيز «إن الطريق إلى تحرير فلسطين يبدأ من القاهرة»، فكانت الثورة طريقا لتحرير فلسطين فى إطار رابطة العروبة، ومن هنا لم تكن مصادفة أن يقوم عبدالناصر بتحديد سياساته الخارجية فى إطار ثلاث دوائر: الدائرة العربية، تليها الدائرة الإفريقية، ثم الدائرة الإسلامية. وفى أبريل ١٩٥٥ انضم إلى حركة الحياد الإيجابى (فى اندونيسيا) ذلك التجمع الذى جمع لأول مرة شعوب إفريقيا وآسيا التى تحررت من سيطرة الاستعمار الأوربي، ومعه تبلور مبدأ «حركة التحرر الوطني». واستنادا إلى هذا المبدأ وقف جمال عبدالناصر إلى جانب شعوب العالم لكى تتحرر من ربقة الاستعمار بالسلاح (ثورة الجزائر أول نوفمبر ١٩٥٥) أو بالوقوف إلى جانبها فى الأمم المتحدة. وعندما تضامنت الشعوب العربية مع مصر تجاه العدوان الثلاثى (٢٩ أكتوبر ١٩٥٦) وانسحبت إنجلترا وفرنسا من مصر (٢٣ ديسمبر ١٩٥٦) قال عبدالناصر فى خطابه الجماهيري: لقد انتصرت القومية العربية.

وهكذا أصبحت القومية العربية عند جمال عبدالناصر حجر الزاوية فى العلاقات العربية-العالمية, وأصبحت الوحدة العربية فى تفكيره وسيلة لحصار إسرائيل فى المنطقة.

وعندما أعلنت وحدة مصر وسوريا (فبراير ١٩٥٨)، أصبح أمل الوحدة العربية الشاملة فى نظر أنصار العروبة مسألة وقت؛ إذ إنهم أخذوا يتطلعون إلى زيادة عدد النجوم فى علم الجمهورية العربية المتحدة الجديد الذى ازدانت صفحته بنجمتين يرمزان إلى كل من مصر وسوريا.

ورغم انهيار تلك الوحدة فى سبتمبر ١٩٦١، إلا أن أمل جمال عبدالناصر فى الوحدة لم ينطفئ، إذ نراه يحتفظ باسم الجمهورية العربية المتحدة أملا فى المستقبل. وعند وضع ميثاق العمل الوطنى (١٩٦٢) جاء الباب التاسع منه بعنوان «الوحدة العربية» أكد فيه «أن قيام اتحاد للحركات الشعبية الوطنية التقدمية فى العالم العربى سوف يفرض نفسه على المراحل القادمة من النضال»، وأكد أيضا «أن الوحدة لا يمكن، بل لا ينبغى أن تكون فرضا، فإن الأهداف العظيمة للأمم يجب أن تتكافأ أساليبها شرفا مع غاياتها». وفى الدستور المؤقت لمصر بعد تفكك الوحدة والذى صدر فى مارس ١٩٦٤، تم النص فى مادته الأولى على أن الشعب المصرى جزء من الأمة العربية. وفى بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨ أعرب جمال عبدالناصر عن أمله فى أن يتضمن الدستور الدائم النص على «تحقيق وتأكيد الانتماء المصرى إلى الأمة العربية تاريخيا ونضاليا ومصيريا، وحدة عضوية فوق أى فرد وبعد أى مرحلة».

وعلى هذا الأساس وضع جمال عبد الناصر الزعامات العربية وكذا القوى السياسية العربية فى مأزق خطورة الاجتراء على أمل الوحدة العربية والتهاون فى تحقيقها. ومن هنا حرصت كل زعامة على أن يتضمن دستور بلدها ما يؤكد عروبة شعبها، وأنه جزء من الأمة العربية، وعلى أن يتضمن خطابها السياسى ما يؤكد الحرص على تحقيق الوحدة، كما حرصت الأحزاب السياسية على أن تؤكد فى برامجها الانتماء العربى، وتعمل على تنظيم مؤتمرات وندوات ودورات تثقيفية لأعضائها عن الانتماء العربى. فأصبحت الوحدة العربية بمثابة البطاقة الشخصية التى يقدم بها أى زعيم سياسى عربى نفسه للمحيط العربى سواء أكان رئيس دولة، أو رئيس حكومة، أو وزير، أو رئيس حزب سياسى، أو عضوا بارزا بأحد التجمعات السياسية.

ولقد أدركت القوى الامبريالية خطورة تحقيق الوحدة العربية على مصالحها، فأخذت تحاربها بمختلف الوسائل كأن تقول إنها فكرة خيالية ولا يمكن تنفيذها، وكلما رأت تقاربا بين بلد عربى وآخر تعمل على إعاقته بدعوى الحفاظ على الاستقلال. ولهذا قال جمال عبد الناصر: ليس من المهم تحقيق وحدة الصف (الوحدة) ولكن المهم الالتزام بوحدة الهدف. ولا شك أن وحدة الهدف تحقق وحدة الصف دون شكل دستورى فتظل العروبة هى الرداء الذى يجمع الشعوب العربية فى مواجهة أطماع قوى الاستعمار العالمية.

والحاصل أنه بعد رحيل عبدالناصر «وتد الخيمة العربية»، نجحت قوى الغرب بتوجيه الولايات المتحدة الأمريكية فى تمزيق رداء العروبة شيئا فشيئا ابتداء من تسوية الصراع بين مصر وإسرائيل بمقتضى معاهدة مارس ١٩٧٩ حيث لم تعد القضية الفلسطينية تمثل ديوان العرب. ثم جاء الغزو العراقى للكويت (أغسطس ١٩٩٠) ليثبت هشاشة الجامعة العربية والنظم العربية فى التصدى لتسوية المشكلة فى إطار العروبة، وانفتح الباب للتدخل الأمريكى طوعا أو كرها، مما أكد الفروق الأساسية فى توجهات النظم العربية الحاكمة، وأنها تخدم التفرقة أكثر من التوحد، ودون التفكير فى الاحتماء بصدفية العروبة.

وعندما تفكك الاتحاد السوفييتى (نوفمبر ١٩٩١)، أعلن العالم الرأسمالى انتصاره ونهاية الصراع مع النظم الشيوعية، وأصبح تفكيك الدولة القومية إلى طوائف عرقية أو دينية أو مذهبية منهج النظام العالمى الجديد، الذى فرضت قيادته مصطلح “الشرق الأوسط” بدلا من «العالم العربي»، ذلك المصطلح الذى يدخل مع العرب كلا من إيران وتركيا وإسرائيل، فتذهب رابطة العروبة سدى. وبدأ الحديث عن السوق الشرق أوسطية بدلا من السوق العربية. وأغلقت بلاد المغرب العربى الباب على نفسها، وتولت المملكة المغربية بقيادة الملك الحسن هندسة التواؤم مع إسرائيل والغرب. وكفر أمين القومية العربية العقيد معمر القذافى بالعروبة، وحول مسيرته الخضراء إلى إفريقيا مناديا بالولايات المتحدة الإفريقية. واستضافت قطر على أرضها دورة دولية فى كرة اليد (أغسطس١٩٩٩) اشتركت فيها إسرائيل، وعندما تم انتقادها أعلنت ببساطة أن الرياضة لا دخل لها بالسياسة !!، ومن قبل سارعت بقبول بعثة تجارية إسرائيلية لضخ الغاز القطرى إلى إسرائيل، فأثبتت مثل هذه التصرفات صحة مقولة أن قوة السلسلة تقاس بأضعف حلقاتها من ناحية، وقدرة القوى العالمية على اختراق الصف الواحد من خلال أضعف حلقاته من ناحية أخرى.

ثم تأتى أحداث الربيع العربى (٢٠١١) لتصبح وسيلة النظام العالمى لتفكيك بلدان العرب إلى كيانات صغيرة على أسس طائفية عرقية أو دينية أو مذهبية وإسقاط العروبة عن كل منها. وقد بدأت هذه الحالة بالعراق حين قام بول بريمر الحاكم العسكرى الأمريكى للعراق بإصدار دستور جديد للعراق عنوانه «العراق دولة فيدرالية» والعرب أحد مكونات شعوبه، فأصبح الباب مفتوحا لإقامة دولة كردية وأخرى شيعية وثالثة سنية ورابعة مسيحية. ويتم إعداد دستور جديد لسوريا باسم «الجمهورية السورية» وإسقاط صفة العروبة منها.

كل هذا وأكثر يحدث بعد غياب عبدالناصر الذى جعل من العروبة رابطة تخيف قوى الغرب الإمبريالى الذى لايزال يريد إبقاء بلاد العرب وحدات مفككة لا رابطة بينها سوى التبعية للنظام العالمى الجديد ومشروعاته .. والعرب فى غفلة من أمرهم ..!!