عانى العالم أجمع على مدار الحياة على كوكب الأرض من فترات عصيبة ما بين حروب وأزمات وأوبئة وصراعات ألقت بظلالها بالتبعية على حياة كل كائن حي والبشرية جمعاء، وبرغم كامل علمنا ويقيننا أنها سُنة دنيوية تعادل في فهمها الخط الأساسي لرواية الأديب العالمي نجيب محفوظ "حديث الصباح والمساء"، إلا أنه لم يزل بيننا من يداوم على خلط كل الأوراق ببعضها البعض، وإلقاء التهم الجزافية -بدون تدبر أو تحليل- على الدول أو صُنّاع القرار، متناسين في ذلك أن الشراكة في الوطن كما تحتم حزمة حقوق واجبة على الدول تجاه مواطنيها، فهي في المقابل وبطبيعة الحال تفرض حزمة واجبات على المواطن أيضاً، باعتباره اللبنة الأساسية للبناء، وبالنظر لكونها عملية تبادلية يتبادل فيها الطرفان المصلحة العامة والخاصة.
وبلغة الاقتصاد وكافة لغات المال والأعمال، فإن إنتاجية الفرد هي عنصراً مهماً بالنسبة لأي نهضة اقتصادية، حيث تعكس هذه الإنتاجية مدى قدرة المجتمع على خلق أجيال قوية قادرة على صنع إنتاج متميز يسهم في عملية نهوض المجتمع، ويشكل مؤشر إنتاجية الفرد أو ما يعرف في الأوساط الاقتصادية بالـ (Individual Productivity Index ) عاملاً إحصائياً هاماً تستخدمه معظم الدراسات الاقتصادية والتقارير الأكاديمية لدراسة إنتاجية المجتمعات ورسم صورة عن مستقبلها في مجال التنمية.
ومن هنا تأتي الأولوية للأمة المصرية لتعظيم قدراتنا الإنتاجية لتوفير احتياجاتنا محلياً، وتقليل الفاتورة الاستيرادية بقدر الإمكان، والسعى للتوظيف الأمثل للأزمة العالمية فى زيادة الصادرات المصرية، وهو ما يقابله توجه من الدولة لتدبير الاعتمادات المالية اللازمة لتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، بما يتكامل مع جهودها في تعزيز الحماية الاجتماعية للفئات المستحقة.
وبقليل من التأمل، سنجد أن بناء الأمم يتأتى بأيدي مواطنيها لا حكوماتها وأنظمتها التي تجيء وترحل، وتعد في مصاف تسيير الأعمال لا صانعة التاريخ والحاضر والمستقبل الذي ترسمه الشعوب، فالشعوب وحدها مقررة مصيرها وصانعة قرارها، هي التي تثور على الظلم والاستبداد والاحتلال، وهي التي تهدأ لبتني الأمجاد وتصنع المعجزات، وهي التي تقوم بتوريث القيم والمعايير والأمجاد أيضاً.
وهنا أتأمل أيضاً بشيء من التجرد حالات دول كألمانيا واليابان، وهما الدولتان الأكثر خسارة بعد الحرب العالمية، وهما الآن النموذجان الأكثر إبهاراً على مستوى العالم من حيث حجم وجودة الإنتاج الصناعي والتكنولوجي المهول، الذي يقابله جودة في الحياة يحسدهما عليها الكوكب بأكمله، ولم أذكر في هذا المثل نموذج الدول الاسكندنافية كالسويد والدنمارك وسويسرا وفنلندا المعروفين بكونهم أعلى مستوى جودة حياة ومستوى دخل للفرد في العالم، وأيضاً في المقابل أعلى نسب انتحار على مستوى العالم، إلا أنني أردت تناول نموذج ألمانيا واليابان بالتحديد لاعتبارهم النموذجان الأكثر إلهاماً والذي يمكن القول بكل حيادية أنه بدأ إعادة بناء الوطن مما هو تحت الصفر إلى ما هو عليه الآن "حديث العالم".
ولم يحدث هذا بفعل الحكومات ولا الأنظمة، ولكنه بدأ بوازع شعبي تام يعبر عن قيم الإرادة والعزيمة والكرامة الشعبية وأكررها مرة أخرى "الكرامة"، وكأنه توافق شعبي على التوجه والسلوك الذي قد ينهزم في معركة عالمية ولكنه لا ينكسر في معركة الحياة الأكثر امتداداً وتأثيراً، تلك العقيدة الراسخة التي تميز الشعب الألماني المعتز بالشخصية الألمانية -وله كل الحق- فهو عاشق لفضيلة العمل، وصانع الميكنة الألمانية متقنة الجودة طويلة الأجل التي يتهافت عليها شعوب المستهلكين، لتمام قناعتهم أنها الأفضل من بين مثيلات صنعها في دول أخرى، هي نفسها العقيدة التي جعلتهم ينهرون الخارج عن طابور الحصول على معونة الطعام إبان فترة الحرب العالمية، متوجهين له بقولهم الفصل "لقد خسرنا الحرب لكننا لن نخسر أبداً أخلاقنا".
تلك النوعية من الجمل تطرب آذاني وتلهم روحي، فضيلة العمل والسعي التي خلقنا على فطرتها التي جعلت من السيدة هاجر المصرية مضرباً في أمثال القوة والجلد والسعي والعزيمة، إلا أنه وللأسف مع عوامل تعرية تلك الفطرة انكشفت كل عورات الضعف الإنساني التي تستسهل إلقاء التهم على استحضار الهمة، وتتلذذ بالشكوى والململة لكسف التعاطف على حساب كل معايير الكرامة وعزة الأنفس، وممارسة الابتزاز بدلاً من الوقوف مع النفس ودحض الأسباب الداعمة لتكرار الفشل حتى ولو بالتدريب والتدريج.
أعتز دائماً بالشخصية المصرية المتفردة، الأيادي التي شيدت السد العالي في أعوام وأعوام، العقلية التي حفرت قناة السويس الأولى هي نفسها العقلية التي نفذت قناة السويس الثانية، الشعب الذي صمد أمام طغيان أكثر مما يزيد عن العشرين احتلالاً، هو ذاته القادر على الصمود أمام طغيان الوباء المُخَلّق، وفاتورة الحرب، وقسوة الآثار الاقتصادية، فهي في نهاية الأمر مكبات مشتركة وتنال من الإنسانية جمعاء لا تستثني شعباً ولا أمة، الكل أمام المصائب واحد، ولكن الصمود هو الفارق والفيصل والفاعل.
نكون أو لا نكون هو ما يجب مواجهة أنفسنا به، فالقوة لا تحدث بصنع الصدفة، القوة منبعها العمل، والعمل مصدره العزيمة، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.