عندما نشاهد الطائرات تقلع من هناك إلى هناك، وأحاديث الأحلاف تنفجر فجأة أو تتوارى همسًا، وفى بعض الأحيان تصبح الهرولة إلى المجهول شعارًا والمهرولون سعداء بلا هدف، وصفقات المصالح الضيقة تريد أن تتلبس روح المشاريع العظيمة، فى تلك اللحظات نظن أن الثوابت تبدلت فى هذا الشرق الأوسط المحموم بأزمات لا تنتهى .
الحقيقة أن ما نراه من اضطراب يؤشر بشكل واضح على وجود الثوابت وأن محاولة الهروب من استحقاقاتها هو سبب الفوضى والاضطراب ناتج طبيعى لمن لايريدون السير على هدى الحقيقة وتطبيق النسخة الأصلية لحل مصاعب الشرق الأوسط المأزوم وأيضا يخشون استلهام سيرة فريدة لقائد شجاع قاد الأمة المصرية فى أوقات فارقة من تاريخها وصنع هو وأمته هذه النسخة الأصلية للحل بالنار والدم والحرب والسلام .
هذا القائد الشجاع هو الشهيد البطل أنور السادات، وعندما نرى هذا الشرق الأوسط المهرول التائه وسط أزماته نجد أن روح هذا البطل الشهيد وطبيعة قراراته الصلبة وكلماته الواضحة دون لبس التأويل هى نجوم هادية فى سماء الشرق الأوسط الملبدة بسحابات الخوف والقلق وسيعيد الاسترشاد بهذه النجوم للمهرولين ثباتهم وتخرج التائهين من دوامة التيه.
يختلف البعض حول السادات ويحملونه كارثة الفاشية الدينية التى ضربت سمومها هذا الشرق الأوسط وزادت من فوضته ويرون أن السادات السياسى لم يكن بقدرة السادات الذى أثر فى الشرق الأوسط بالحرب والسلام ولكن كان السادات من الشجاعة النادرة عكس آخرين فى شرقنا الأوسط ارتكبوا الأخطاء وتفاخروا بخطاياهم، اعترف الرجل فى مصارحة مع نفسه وأمته بالخطأ فى آخر خطاباته فى خطاب سبتمبر الشهير حيث أعلن بوضوح عن خطأه فى إعطاء الفاشية أى فرصة لأن مصير الفاشيت ومكانهم الطبيعى خلف القضبان وخارج التاريخ الإنسانى .
هناك من يحاول اجتزاء تاريخ الرجل الشجاع بخبث، محاولا الهرب من تبعات مشروع السادات القائم على الحل العادل لأزمات الشرق الأوسط فهذا الحل أو النسخة الأصلية يستلزم شجاعة وإقدام هذا القائد، أدرك السادات جيدًا فى لحظة تاريخية أن عرض السلام على العالم وعلى العدو يعنى الاستسلام فكان قراره المصيرى بالحرب ليعبر بأمته من اليأس إلى الأمل وكان الرجال على الجبهة فى انتظار القرار وعلى قدر المسئولية المصيرية التى كلفوا بها، فى خلال ست ساعات أعاد الرجال للأمة الجريحة كرامتها وأفقدوا عدوهم توازنه وغيروا حسابات ونظرة العدو قبل الصديق وأهدوا للأمة المصرية درعًا وسيفًا ليكونا القدرة التى تصنع بها الأمة قرارها المستقبلى.
كان يمكن بعد هذا الانتصار التاريخى أن يستولى الزهو بما تحقق على السادات ويدفعه إلى البحث عن مجده الشخصى ويصنع أسطورة القائد المنتصر والحقيقة أنه لم يكن يحتاج إلى مجهود فى هذا فما قام به رجال القوات المسلحة فى حرب أكتوبر 1973 هو انتصار عسكرى جبار بكل المقاييس، عاش الفلاح المصرى على هذه الأرض الطيبة آلاف السنين واستلهم الحكمة من حضاراتها وامتلك بصيرة لاتخاذ القرار المناسب فى التوقيت المنضبط فلا يزهو بانتصاره أو يخشى المواجهة لاستعادة حقه ولم يكن السادات بعيدًا عن الحكمة والبصيرة لأنه فلاح من أبناء هذه الأرض الطيبة.
قرأ السادات بالحكمة والبصيرة المعادلة الدولية التى تتشكل فى المجتمع الدولى قرأها حتى قبل قرار الحرب المصيرى وبلا شك فقرارات السادات دائمًا مصيرية فى مسارها ففى يوليو 1972 طرد الخبراء السوفيت من مصر، بالتأكيد القرار له أسبابه التى رآها السادات وقتها وعلى رأسها أن يكون قرار الحرب مصريًا خالصًا ولكن كان السادات يرى أمرًا أبعد من هذا فى المعادلة الدولية بأن هناك قوة عظمى هى الاتحاد السوفيتى تنتظر حكمًا قاسيًا من التاريخ بسبب عوامل داخلية قبل العوامل الخارجية لقد توقع هذا السقوط السوفيتى قبل عشرين عامًا من حدوثه فعليًا، روى السادات واقعة حدثت أثناء إحدى زياراته إلى الاتحاد السوفيتى فى المفاوضات المضنية للحصول على السلاح من السوفيت البخلاء كما كان يصفهم فأثناء الاجتماع توقفت المحادثات بعد أن أحضر أحد المسئولين فى سكرتارية الحزب الشيوعى ورقة وعرضها على القيادات السوفيتية الحاضرة للاجتماع وهى الأعلى فى الدولة وكان يلزم أن يوقع عليها الجميع، رئيس الحزب ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس السوفيت الأعلى وتصور السادات أن هناك حدثًا جللا دفع القادة السوفيت لقطع الاجتماع من أجل بحث هذا الأمر الذى يستلزم موافقة القادة جميعًا وعقب الاجتماع أصر السادات على معرفة طبيعة هذا القرار الخطير ليكتشف أنها برقية تعزية مرسلة إلى إحدى الدول بعد وفاة مسئول بها ، استشف السادات هنا أنه أمام امبراطورية تأكلها البيروقراطية ويخنقها التكلس وقادتها مهتزون وأن حكم التاريخ قادم لها بلا رحمة.
بنفس هذا الاستشراف الساداتى حول طبيعة المعادلات وصعود وهبوط القوى العظمى كان سيدرك أن هناك قوة عظمى ترحل عن مقعدها من قيادة العالم لصالح عالم متعدد الأقطاب مهما طال الوقت أو قصر وأن الولايات المتحدة تتآكل من الداخل قبل أن يؤثر عليها الخارج مثلها مثل الاتحاد السوفيتى وأن هذه القوة المضطربة داخليًا فى ظل قيادة هى الأضعف فى تاريخها لايمكن الرهان عليها بأن تعطى الشرق الأوسط أى استقرار فكان من الأولى أن تحقق هذا الاستقرار داخليًا وكل الصياغات التى تطرحها وما تتمناه من تحالفات هى محض خيال وتعلق بماضى أمريكا الخمسينات التى أرادت إنشاء حلف بغداد وأجهضته مصر.
فما يدور داخل الولايات المتحدة الآن ليس تجاذبًا سياسيًا أو اختلاف فى وجهات النظر بل انقسام حاد وشديد وصراع اجتماعى قد يؤدى إلى انفجار داخلى وهو ليس غريب عن تاريخ الولايات المتحدة التى شهدت حربًا أهلية طاحنة استمرت 4 سنوات فى القرن التاسع عشر.
فى تلك الفترة بعد أن استشرف السادات طبيعة المعادلة الدولية القادمة وأن التحالف مع قوة عرجاء لن يحقق له أى مساندة لأجل استعادة كامل حقوق أمته وأنه يجب مواجهة خصمه مباشرة فاتخذ قرار السلام وهو يحمل سلاح النصر من حرب أكتوبر المجيدة ، يجب التوقف هنا طويلا أمام قرار السلام الذى اتخذه السادات لنعرف الفرق بين السلام وما يطلق عليه السلام، فقرار السلام الذى اتخذه السادات لم يعد فى غرف الفنادق المكيفة وداخل دهاليز شركات الدعاية وخزائن البنوك وكانت الاستعراضات فيه أهم من الحقائق التى لايحب أن يتذكرها أصحاب مايطلق عليه السلام .
قرار السلام الذى اتخذه السادات ولد على جبهات القتال بعد أن ذاق العدو طعم الهزيمة وخسائر الحرب الحقيقية لم تكن هناك استعراضات بل حرب شرسة وانتصار صنعه الرجال بأرواحهم وبالنار والدم، لم يذهب السادات إلى إسرائيل مرتعشًا أو بحث عن مبررات فالمنتصر لايبحث عن تبرير "قد جئت إليكم اليوم على قدمين ثابتتين لكي نبنى حياة جديدة لكي نقِيم السلام"، هذا ماقاله السادات أمام العالم اجمع فى خطابه بالكنيست فى نوفمبر 1977 .
لذلك فمن يريد إنقاذ الشرق الأوسط من أزماته فليعد إلى النسخة الأصلية للحل التى قدمها السادات وصنعها بالحرب والسلام وكان مفترضًا أن تكتمل لولا المزايدين والمرتعشين والمتخاذلين والمخادعين الذى أوقفوا اكتمال مشروع هذا القائد الشجاع ويمكن قراءة هذه النسخة الأصلية فى كافة ما اتخذه السادات من قرارات ولكن يبقى النص الجامع لفكر السادات حول كيفية خروج الشرق الأوسط من أزماته متمثلا فى خطابه بالكنيست ويجب هنا أن نتوقف بدهشة أمام هذه الكلمات المستقبلية التى قالها قبل 45 عامًا فى هذا الخطاب "إن واجب المصارحة يقتضى أن أقول لكم ما يلى أنني لم أجئ إليكم لكى أعقد اتفاقًا منفردًا بين مصر وإسرائيل ليس هذا واردًا في سياسة مصر فليست المشكلة هي مصر وإسرائيل وأى سلام منفرد بين مصر وإسرائيل أو بين أية دولة من دول المواجهة وإسرائيل فإنه لن يقيم السلام الدائم العادل فى المنطقة كلها بل أكثر من ذلك فإنه حتى لو تحقق السلام بين دول المواجهة كلها وإسرائيل بغير حل عادل للمشكلة الفلسطينية فإن ذلك لن يحقق أبدا السلام الدائم العادل الذي يلح العالم كله اليوم عليه".
هذا جزء من كل فى نسخة الحل أو هذا الخطاب المستقبلى الذى ألقاه السادات أمام العالم قبل 45 عامًا، لم يتحدث السادات فى خطابه عن أحلاف متخيلة، ومصالح ضيقة، وصفقات زائلة ، وصنع أعداءً من ورق لقد وضع السادات أسس وخريطة طريق لهذا الشرق الأوسط المأزوم ليخرجه من حالة الاضطراب إلى سلام عادل حقيقى.