من حين لآخر يتعمد مشايخ الترند إطلاق فتاوى صادمة حول نجاسة بعض الحيوانات والتحذير منها بدعوى تطبيق بعض النصوص بحرفية، وهذه الحرفية فى تفسير النصوص وفق فهم مشايخ الترند الجالبة لدولارات السوشيال ميديا، غالباً ما تخالف القرآن الكريم والسنة العملية لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وفى الوقت الذى ينفعل فيه شيخ الترند للدفاع عن رأيه المغلوط بنجاسة بعض الحيوانات وكأنه فى معركة بدر الكبرى، يتجاهل بعمد نجاسة بعض الإعلانات المذاعة وسط فيديوهاته على اليوتيوب المخالفة تماما لمنهجيته والجالبة للأرزاق الحرام.
وتحقق فى هؤلاء قول الإمام الحسن البصرى رضى الله عنه منذ ألف وثلاثمائة عام تقريبا: " لقد كان أهل المال يبذلون أموالهم لأهل العلم رغبةً فى علمهم، وسيأتى على الناس زمان يبذل فيه أهل العلم علمهم لأهل المال رغبة فى أموالهم".
لقد كتبت مراراً وتكراراً حول وجوب الأخذ بمقاصد النصوص، وليس بحرفية النصوص، حتى نتفادى مصائب كبيرة ناجمة عن تفسيرات مغلوطة للنص الشريف .
ومما أثير فى الفترة الأخيرة حول هذا السياق الادعاء بنجاسة الكلاب مطلقاً.
وقد قلت فى هذا: كيف يكون الكلب نجساً وقد أباح الله الصيد به، كما أباح الصيد بالجوارح المدربة؟
قال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ۖ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) سورة المائدة.
يعنى الكلاب المدربة على الصيد تمسك الفريسة بأسنانها وما علينا سوى ذكر اسم الله على الصيد وأكله.
فقال صلى الله عليه وسلم لعَدِيِّ بن حاتم رضي الله عنه: «إذا أرسلتَ كلبك المُعلَّم وذكرتَ اسم الله فكُلْ» متفق عليه.
وما ورد من أحاديث تفيد بحرمة مخالطة الكلاب، فهو فى سياق التحذير من نقل العدوى بين الإنسان والحيوان والحفاظ على الصحة العامة وليس مقصودها نجاسة الكلب أو التحذير منه.
ذلك بأن البيوت كانت ضيقة عند العرب وكانت الكلاب تأكل من نفس الآنية التى يأكل فيها أهل الدار .
فحذر الرسول من ولوغ الكلب فى الإناء، وقال: "إذا ولغ الكلب فى إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب".
وحديث: "لا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَةٌ"، يعنى لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب مضرور أصحابه به، ولا صورة ( أى صنم) يعبده أهل الدار.
فهناك محذوف فى النص مقدر وفق ما ذكرت، بدليل أنه أجاز اقتناء كلب الصيد وكلب الحراسة وكلاهما فى البيت، ولا يعقل عدم دخول الملائكة البيوت بسببها وقد أباح الله وجودها بالبيت!
وقد ذهب إلى هذه المعانى الكثير من أهل العلم.
وقد ذُكر الكلب في القرآن الكريم أيضاً كأحد الحيوانات الأليفة التي ترافق الإنسان فى ترحاله، من خلال قصة الكلب الذي كان برفقتهِ أصحاب الكهف المذكورين في الآيتين الثامنة عشرة والثانية والعشرين من سورة الكهف، قال الله جلَّ شأنه: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ»، وقوله جلَّ شأنه: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً».
وفى هذه الآيات دليل واضح على جواز اقتناء الكلاب واطعامهم إذا تحرزنا من العدوى أو المشاكل الصحية بين الإنسان والحيوان.
بل إن سقاية كلب عطشان كانت سبباً فى مغفرة الله للمرأة البغى وفق الحديث الشريف: "أنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا في يَومٍ حارٍّ يُطِيفُ ببِئْرٍ، قدْ أدْلَعَ لِسانَهُ مِنَ العَطَشِ، فَنَزَعَتْ له بمُوقِها فَغُفِرَ لَها"، رواه مسلم.
ولقد ذُكر الكلب في القرآن الكريم أيضاً كأحد الحيوانات ذات السُّلوك الطبيعي والسِّمات الجسدية الطبيعية، وكيف يكون الكلب أفضل بكثير من بعض البشر .
وذلك في الآيتين السادسة والسبعين والسابعة والسبعين بعد المائة من سورة الأعراف في قول الله جلَّ شأنه «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ*َ ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».
فطبيعة الكلب أنه يلهث فى كل حالاته ( العطش والارتواء والحر والبرد.. إلخ) ، وهذا لا يعيبه لأن الله تعالى خلقه هكذا وفق دوره فى هذه الحياة.
فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآيات الله فقال: إن وعظته ضَلَّ وإن تركته ضَلَّ، فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث، واللهث هنا يعنى اتباع هواه، وفى هذا المعنى يقول الله تعالى: «سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ» البقرة : 6
ويقول تعالى: «وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ» الأعراف: 193.
فهذه الآيات على قدر ما هى ذم للمكذبين بآيات الله، لأنهم لا يُقادون من عقولهم وضمائرهم، بل يُقادون من بطونهم ومصالحهم، على قدر ما هى مدح للكلب الذى يظهر ويمارس طبيعته التى خلقه الله بها.
وقد صنف الإمام أبى بكر المرزبان المتوفى عام 309 هجرياً كتابه الماتع "تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، وقد ذكر فى هذا الكتاب الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى ذكرت الكلب ومدحته وتأويلها، وكذلك أقوال الشعراء والحكماء والرواة فى الكلاب.
يعكس الكتاب أيضًا موقفًا من قليلي الوفاء من البشر، مقدرًا قيمة الوفاء عند الكلب الذي يُرافق الناس ليكون حارسهم ورفيقهم.
نُشر الكتاب لأول مرة عام 1912 م فى مجلة المشرق، ثم تمت إعادة طباعته عدة مرات، وتُرجم الكتاب إلى الإنجليزية تحت عنوان «The superiority of dogs over those who wear clothes» عام 1978 ميلاديًا.
ومما هو معلوم أن القرآن ذكر 27 نوعاً من الكائنات فى إطار علاقة الإنسان بالعالم حوله التى تتصف بالسلم والرحمة.
وسُمّيت سور كاملة فى القرآن الكريم بأسماء كائنات، مثل: البقرة والنمل والعنكبوت والنحل والفيل والأنعام، وسورة الأنعام هى السورة الوحيدة التي فصلت الأزواج الثمانية للأنعام وذكرتها بالاسم وهي الإبل والبقر والضأن والماعز بذكرها وأنثاها.
وهذا موضوع مقال آخر بإذن الله عن مقصود ذكر الحيوان فى القرآن ودلائله الإيمانية.
والله المستعان.