الثلاثاء 21 مايو 2024

يوسف عبد العزيز علي جمعة

مقالات27-7-2022 | 18:29

يوسف عبد العزيز علي جمعة.. رجل كلكم تجهلونه، اللهم سوى أنا وبضع مئات من الأشخاص، وقد لا يهم أحد أن يعرف من هو، لكن مهم لي أن أقص جزءا من كفاح واحد من المصريين العاديين بعيداً عن قصص مواقع التواصل المفبركة في أغلب الأحيان، ووتسليط الضوء على جزء من نجاحه عله يكون ملهماً لي ولغيري، ليس لأنه عالِم مجهول أو فنان معلوم، بل لأنه مثله مثل ملايين الناس الذين يملأون مصر المحروسة سواء فوق أرضها أو تحت ثراها، مثل الكثيرين الراضين الحامدين رب العالمين على نعمه الكثيرة، وما أكثر الحامدين الشاكرين لكن في صمت، لا يرجون جزاء أو شكورا، فقط يريدون الستر والعافية، لا يملأون الدنيا ضجيجاً وصياحاً مثل القلة المندثة بكفاحهم المزيف وأنصاف نجاحاتهم الهزلية، على الرغم من أن حياتهم كلها كفاح ونجاح حقيقي، فلو تكلم أمثال الحاج يوسف بجزء يسير من حياتهم لانتفضت ربّة الخيال من سباتها وانقضت على مخيلة أي من أبنائها المبدعين تعبث بأفكاره وتشعل جذوة الكتابة في نفسه ليمسك الكاتب بقلمه ويسطر روايات ويهيم الشاعر فينظم القصائد تخلّد حياتهم، وهم لا يعبأون بل بالرضا يحيون قانعين. 

  
يوسف عبد العزيز على جمعة، ولد قبل ثورة 23 يوليو بأكثر من عشرة أعوام، لأب متعلم من عائلة ميسورة الحال، وأم متعلمة جزءا يسيرا من التعليم يجعلها تقرأ وتكتب، وله من الأخوة ثمانية، وترملت الأم الرؤوم صغيرة، لكنها كانت على قدر المسئولية، ربّت 9 من الأبناء على أحسن ما يكون، سيرتهم العطرة تسبقهم أينما ذهبوا، وعلى الرغم من أنها لم تأخذ جائزة الأم المثالية رغم أنها تستحقها عن جدارة، إلا أن "هند" كانت ملكة متوجة في قلوب أبنائها (وبعض من لهثوا وراءها يطلبون ودها بعد وفاة زوجها، لكنها أبت، وكانت الأم والأب) وهذا يكفيها بل ويزيد.

ترعرع يوسف شاباً على مبادئ ثورة يوليو، وقطف من ثمارها، أحب الوطن - ولايزال- بعد أن وجد وطناً يعطيه، فاجتهد في تعليمه وكان من المتفوقين، وحلم بالجامعة لكن حال دون تحقيق حلمه وفاة والده المبكرة، فاكتفى بـ "الدبلوم"، لكن "دبلومه" لو تعلمون عظيم، فالتعليم في ذلك الوقت كان يخرّج رجالاً ونساء أكفاء بكل ما تعنيه الكلمة، ويكفي فقط أن تعلموا أن خريجي ذلك التعليم كانوا يتقنون اللغة الإنجليزية جيداً قراءة وكتابة، ويكتبون لغة عربية صحيحة، (مش الأيام دى نلاقى شاب خريج جامعة بيغلط في الإملا العربي ومايعرفش الفرق بين الانجليزي والألماني)، وكان يوسف مختلفاً في عمله بمحطة توليد كهرباء حلوان التي عيّن فيها فور تخرجه، كان لافتاً للأنظار بمهارته وذكائه، ولأن لكل مجتهد نصيب كان لابد أن تتيح له الدنيا بصيصاً من أمل، وفوراً اقتنص الفرصة، وجعل بصيص الأمل طاقة نور، فسافر -مثله مثل كثيرين من المصريين وقتذاك- لإحدى الدول الخليجية، لكنه لم يكن مثل الكثيرين يكتنزون المال في أجولة من أجل بطانية أو تليفزيون ملون في منزل مشيد على أعمدة يطل على الشارع الرئيسي ببلدتهم أو بقاهرة المعز، بل اتخذ السفر خطوة صغيرة نحو مستقبل، أظنه عظيم، رسمه بخياله وحققه بساعديه، وأكمل تعليمه الجامعي وصار مهندساً يحمل شهادة من إحدى الدول الأوروبية، وكسب من المال الكثير، واستثمره أحسن استثمار، وربح ما لم يربحه كثيرون سافروا مثله كان استثمارهم أوراقاً نقدية تنقص قيمتها بمرور الزمان، وكان استثمار الحاج يوسف في أولاده الأربعة، وفر لهم حياة كريمة (الواحد منهم لو شم كف ايده يشبع من خير أبوه) ووفر لهم تعليماً جيداً يحلم به أبناء زماننا الآن، وكرّس حياته وشريكته من أجل هؤلاء الأربعة ينثران بذور الحب في صدورهم، فكان النبت الطيب المروي بعرق السنين ودفء المشاعر، صار شجرة ثابتة في الأرض وفروعها سامقة وارفة الأوراق ثمارها حلو المذاق (له الحق أن يفخر بثلاثة دكاترة ومهندس بترول)

ورغم غربة السنين لم ينس أهله، وكان معطاءً بسخاء، ولأهل شريكة حياته كان حنوناً دافئاً، فكنت أشتم الحب في كلماته، والتمس الدفء من راحة يديه على رأسي، وأشعر بالأمان بجواره، نعم لقد كان هو وأبي ملهماني، لكن الحاج يوسف كان له مذاق خاص، وخاصة أنه ليس أبي، فكان هناك مساحة من الحرية يتيحها لي بكلامه المعسول، وأسلوبه الشيق وحبه الدافق، وقد زرع ذلك في أبنائه، فكانوا خير أسرة أخرجت للناس، وفقط للبرهان، فإن ابنه الذي يعمل دكتوراً في مستشفى عام كان عزلاً وقت كورونا، أصيب بكورونا، فلم يجفل الحاج يوسف لمرض ابنه ويطالب بنقل فلذة كبده بعيداً عن مستشفى العزل، بل طالبه بسرعة الشفاء ليعود سريعاً يستكمل دوره الإنساني والطبي في شفاء المصريين.. وكان حديث مواقع التواصل وقتذاك بعفويته الطيبة (للعلم هذه الواقعة عرضها الإعلامي عمرو أديب في برنامجه "الحكاية" بعد أن قرأ تعليق الحاج يوسف لابنه على الفيسبوك بمحض المصادفة)

يوسف عبد العزيز علي جمعة الآن يحيا حياة قد يظنها البعض مرفهة بعد ستة وعشرين عاماً عملاً بالخليج، لكنها ليست كذلك، (كما ذكرت فكل ما كسبه استثمره في أبنائه) فالحاج يوسف يعيش مستمتعاً ببعض الحياة، يتلذذ بثمار كفاحه يسيل عسلها من حوله أحفاداً، وشريكته في الحياة بجانبه، يقضي يومه بين تأدية فروض دينه، والتسبيح بنعم الله عليه، وبين أهله وناسه، راضياً بمعاش بسيط (مقارنة بدخله سابقاً) بقدر بساطة حياته، لا تهمه الأموال، وإلا كان اكتنز لمثل ذلك اليوم الأسود كما يراه البعض، بينما هو يراه أبيض كالحليب مثل قلبه، على الرغم من أن بعض من هم في مثل عمره قد لايزال يلهث وراء الماديات، ما بين البحث عن عمل آخر أو اللهث وراء الاستمرار في موقع عمله ليضمن فتات بجانب معاشه رغم أنه لا يفيد في عمله، ولا يعلم أن الحياة مراحل، وكل مرحلة لها متطلباتها وأساسياتها بقدر حاجتك.

يوسف عبد العزيز علي جمعة مثله مثل الكثيرين من المصريين ليس "فلتة زمانه" لكنه أفضل ممن يصدعوننا بقصص نجاحهم -حتى لو حقيقية- فليست ثمارها ناضجة مثل ثمار الحاج يوسف.. قد لا يهمكم أن تعرفوا من هو "يوسف عبد العزيز" ولا يهمني أن تعرفوا.. فقط ما يهمني أن يقرأ الحاج يوسف تلك الكلمات علها تعجبه فيرضى عني وأصالحه (أصله في الحقيقة زعلان مني) وأكسب رضاه ببعض كلمات لا أملك سواها حتى الآن.. وأقول له: من يملك قلباً مثل قلبك لا يستطيع أن يقفل بابه في وجه محب يريد أن يحيا مثل الكثيرين من المصريين الصامتين.. راضياً شاكراً فضل رب العالمين.